“برافو إسرائيل”.. لقد شَرّعتِ أبواب جهنم السيبرانية!

"برافو إسرائيل". فهي بتصنيعها وتفجيرها أجهزة الاتصالات اللاسلكية في لبنان، دشّنت للمرة الأولى في التاريخ تطوير "مهنة" الاغتيالات، من كونها نشاطات تستهدف أفراداً بعينهم، إلى إغتيالات جماعية تطال مئات وآلاف الأشخاص.

في السابق، أي في التاريخين القديم والحديث، كان الاغتيال وجبة يومية للقوى السياسية المتصارعة: فوالدة الامبرطور الروماني نيرون ساعدت في وصول ابنها إلى العرش عبر تقديم وجبة فطر تعج بالسموم لزوجها كلاديوس (نيرون لاحقاً اغتالها). وفرقة الحشّاشين حاولت اغتيال صلاح الدين الأيوبي بالخنجر عبر اقتحام خيمته خلال حربه مع الصليبيين. والولايات المتحدة حاولت مرات عديدة اغتيال الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، إحداها عبر تفخيخ سيكاره المفضل بالمتفجرات. وفي العام 1997، حاولت إسرائيل اغتيال خالد مشعل عبر دس السم في أذنه، ويقال أنها هي التي سمّمت ياسر عرفات وربما أيضاً جمال عبد الناصر.

بيد أن كل هذه الاغتيالات كانت، كما قلنا، فردية، وتتم إما بالسم أو الخنجر أو الرصاص أو العبوات الناسفة.

لكن إسرائيل دشّنت الآن مرحلة جديدة كلياً في تاريخ الاغتيالات، واقحمت العالم كله في مرحلة بالغة الخطورة يتم فيها “تسليح” ثورة الإتصالات (التي تُشكّل الآن حجر الزاوية ودرة تاج نظام العولمة التكنو- رأسمالية) عبر تحويلها إلى أداة للاغتيالات الجماعية التي ترقى عملياً إلى مستوى الإبادات.

قد يكون من المبكر الآن التكهن بمضاعفات هذا التطور الخطير على مفهوم الأمن العالمي أو حتى على طبيعة وتقنيات الحرب في القرن الحادي والعشرين. لكن يمكننا القول إن هذه الخطوة الإسرائيلية لن تكون بأي حال طريقاً باتجاه واحد: أي فقط من إسرائيل ضد أعدائها. فهؤلاء الأعداء، وبعد المجزرة التكنولوجية الجماعية التي ارتكبتها تل أبيب في لبنان، لم يعد أمامهم من خيار هم أيضاً سوى خوض غمار الحرب السيبرانية، وهذا أمر ليس بالصعب لأن ثورة المعلومات باتت تنتقل بكبسة “فأر” واحدة وبسرعة الضوء من مكان إلى آخر.

إيران، مثلاً، التي تعرضت هي الأخرى إلى موجة اغتيالات لعلمائها في مجال التكنولوجيا النووية وغير النووية وتمت مهاجمة مفاعلاتها النووية مرات عدة بفيروسات إلكترونية، تتدخل إلكترونياً الآن وبكثافة في معركة الرئاسة الأميركية. كما يقال أنها بدأت مع بداية الحرب الأوكرانية التعاون مع روسيا والصين في تطوير المجالات العسكرية السيبرانية.. ولا ننسى بالطبع مسيّرات “الهدهد” الناجحة التي استخدمها حزب الله مؤخراً في أجواء مناطق إسرائيلية حيوية.

***

الحرب السيبرانية، لن تكون حتماً طريقاً إسرائيلياً باتجاه واحد. وجهنم الجديدة التي ستُفتح، ستطال جملة معقدة من الأهداف الإسرائيلية التي يمكن أن تستهدف، إضافة إلى أجهزة الاتصالات السلكية واللاسلكية، شبكات الكهرباء والماء ومحطات تحلية المياه والطاقة النووية إلى المصانع والمجمعات والجامعات المعتمدة كلها على ثورة الإتصالات والمعلومات.

التقدّم في هذه الحقول والتنافس في خوض غمارها سيتضمّن تحولات عميقة قد تقوّض المفاهيم التقليدية للأمن. وفي الآتي من الأيام سيحتاج الأمر إلى موازين قوى تأخذ بالإعتبار الموارد غير المنظورة للصراعات السيبرانية والمعلوماتية المضلّلة وكذلك النوعيات الممّيزة لحروب يقودها أو يشارك فيها الذكاء الإصطناعي (AI). وهي بالمناسبة حروب مدمّرة، ومزعزعة للإستقرار، ولا يمكن التهكّن لا بمفاعيلها ولا بتأثيراتها، وهي قادرة على ضرب أنظمة الإتصالات وكومبيوترات المصارف والبورصات والأسواق المالية والجامعات ومراكز الأبحاث وشبكات الكهرباء وشركات الخطوط الجوية ووسائل النقل العام، وحتى أجهزة الصواريخ. وكل ذلك يجعل (AI) العسكري شبيهاً إلى حد كبير بالأسلحة البيولوجية والكيميائية التي تتمدد تأثيراتها بشكل غير مقصود إلى نواحٍ ومناطق مدنية ومعاقل عسكرية شاسعة. ثم إنّ السلاح السيبراني التلقائي يُمكنه انتزاع السيطرة من البشر وتحدي محاولة استعادتها من قبلهم.

تاريخ جديد.. كلياً

نأتي الآن إلى العامل الأهم المُحرّك لكل هذه التحولات التكتونية التي تطال طبيعة الحرب والعلاقات الدولية، وهو دخول الجنس البشري في مرحلة تاريخية لم يسبق لها مثيل منذ 10 آلاف سنة. مرحلة مات فيها حاضر الجنس البشري بالفعل وانقطعت أي علاقة له بالمستقبل الذي بات حياً الآن من دون أن يدري عنه البشر شيئاً. وهو يتمثّل باكتساح عرق الذكاء الاصطناعي (AI) وباقي أجناس البشر الآليين والآلات والروبوتات لكل مناحي الحياة البشرية.

مجتمعات الإنسان بدأت حقاً مسيرة انقطاعية، كما قلنا، لا مثيل لها في كل تاريخ الحضارة. وهذا يتجسّد في بدء نهاية العمل البشري، أولاً العضلي وقريباً الفكري. ومع نهاية العمل، كلُ أسس الأنظمة الاجتماعية البشرية ستنهار. ومرة أخرى ستكون التكنولوجيا هي المحرّك الأساسي (prime mover) للتاريخ. وهذا الانهيار سيشمل: الهوية الجندرية، الهوية العائلية (بخاصة معنى الأبوة والأب)، معنى الوجود للأفراد غير المفكرين (90-95 % من البشر)، وبالتالي الانتحارات والشيزوفيرانيا الذي ستخلقها صناعات التسلية والحقيقة الافتراضية والحقيقة المضافة والمخدرات، وانهيار شرعية الحكومات (بخاصة تلك التي لن تستطيع توفير الدخل الأساسي لمواطنيها: لا عمل تعني لا أهمية للصوت الانتخابي، وبالتالي لا ديموقراطية)، وبعدها، أي معنى سيكون للاجتماع البشري ولمفاهيم الوطن أو الشعب أو المجتمع أو الأمة ؟

ثم: مصير الإيديولوجيات على أنواعها سيكون مختوماً بالشمع الأحمر، حين سيكون هناك الـ (AI) عاقل، ومُكتشف، وربما واعٍ لوجوده لا روح له، ولا يموت، ومع ذلك لا يُمكن تمييزه عن البشر (زومبي فلسفي). وهذا سيقضي نهائياً على ثنائية المادة والروح ولكن ليس لمصلحة المعنى الإيجابي (أي تعزيز فكرة وحدة الوجود وأولوية الوعي والقيم) بل لمصلحة المادية الرأسمالية التكنولوجية المطلقة. وهذا قد يُسدّد ضربة قاضية للأيديولوجيات وربما يُحل مكانها دين جديد له إله واحد هو “دين التكنولوجيا” الخاضعة لسيطرة أقلية رأسمالية. وهكذا، بدل أن تقول الأديان “في البدء كانت الكلمة”، ستضطر إلى القول “في البدء كانت التكنولوجيا”.

بيد أن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد. فمن يملكون السلطة والمال والتكنولوجيا (أي الـ1% من عتاة الرأسماليين) سيكون عليهم تحقيق الاستقرار الدولي في ظل نظام عالمي جديد بقيادتهم عبر: إبادة معظم شعوب العالم الثالث (بعد نقل انتاج المواد الغذائية من الأرض إلى المختبرات) وترويض بعض قطعان العالم الأول (عبر الدخل الأساسي والمخدرات الطبيعية والالكترونية) في مرحلة أولى ثم تعقيمهم في مرحلة ثانية لخلق تراتبية الحكومة العلمية التي تنبّأ بها برتراند رسّل وألدوس هكسلي. وهذا سيحدث حالما يتم التوحيد الكامل للانسان الرأسمالي مع الإنسان الآلي لاستيلاد كائن السايبورغ (نصف إنسان، نصف آلة).

 لن يكون هناك سبيل على الأرجح لوضع حدود أو وقف التطور التكنولوجي بسبب التنافس الهائل بين الدول والشركات الكبرى، في مجالي الأتمتمة و(AI). وهكذا ستتصاعد الخلافات وربما الحروب بين البشر، فيما يواصل (AI) صعوده، لا سيما مع كومبيوتر الكم والحمض النووي المتزاوج مع الجينات. وفي لحظة ما سيسيطر (AI) على القرار سواء عبر تسليم البشر الطوعي له كجزء من مستلزمات هذه الحروب، أو من خلال استكمال سيطرته على كل مفاصل الاقتصاد والمجتمع، أو امتلاكه الوعي الذاتي. وحينها لا يُستبعد قيام بعض أصناف عرق الـ (AI) العسكري بعملية إبادة للجنس البشري وفق ما ترتأيه مصلحتهم في لعبة صراع البقاء.

نحو حرب عالمية؟

وهنا، يجب ألا نستبعد بروز سيناريو آخر هو احتمال نشوب حرب عالمية نووية – سيبرانية تُدمّر الحياة على كوكب الأرض (وهذا ما يُحذّر منه الآن العديد من المحللين الغرببين، في ضوء المخاطر الكبرى التي يفرضها الاختراق الأطلسي لحدود الوطن الروسي المدجج حتى الثمالة بالأسلحة النووية)، أو حرب سيبرانية – كلاسيكية غير نووية محدودة (بسبب الردع النووي) لن يكون فيها منتصر كامل أو مهزوم كامل، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بسبب الردع النووي.

الحصيلة؛ انقسام العالم إلى عولمات رأسمالية إقليمية كبرى متصارعة ومتحاربة لأن التنافس سيستمر بين الدول- الأقاليم على تطوير سلاح الـ (AI). أي أن هذه الحرب غير النووية ستكون آخر الحروب بين الرأسماليات “القديمة” ( الجيوبوليتيك) قبل الانتقال إلى عالم الأتمتة وعصر الـ (AI) الكامل، ومعه نهاية التاريخ البشري كما عرفناه.

بكلمات أوضح؛ الحرب العالمية هذه ستكون آخر أنفاس الرأسمالية الكلاسيكية المستندة إلى الوقود الأحفوري، والنمو الاقتصادي غير المحدود، وحاملات الطائرات والصواريخ والدبابات والهويات القومية والإمبريالية، لتحل مكانها أنظمة سيبرانية بالكامل. وبهذا المعنى، لن تكون لهذه الحرب الكلاسيكية في الواقع قيمة تاريخية أو أي تأثير على المستقبل برغم كوارثها الهائلة، بل ستكون مجرد طلقة من القرن 19 ستستقر في القرن 21 الذي سيكون قرن الذكاء الاصطناعي بامتياز، والذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية ولم يعد ثمة إمكانية للتخلّي عن خدماته. لا بل سيكون للذكاء الاصطناعي قريباً حتى دور كبير آخر وخطير هو الإجابة على العديد من الأسئلة العلمية- الفلسفية التي لم يستطع الجنس البشري الإجابة عليها، مثل مسألة معرفة الحقيقة الموضوعية (الشيء في ذاته وفق الفيلسوف كانط)، وأصل الكون، وطبيعة المادة الداكنة والطاقة الداكنة المجهولتين اللتين تشكّلان نحو 96 في المئة من الكون، وأسرار الثقوب السوداء، واحتمال وجود أبعاد وأكوان عديدة، وغيرها من المسائل.

إقرأ على موقع 180  وسام قام.. حقاً قام

إلى أين من هنا؟

هنا تنقسم الآراء إلى قسمين:

القسم الأول يتعلّق بالمخاطر في مجالات الحرب والسياسة والمجتمع والأخلاق والقيم التي قد لا يكون لجنس الذكاء الاصطناعي علاقة مباشرة بها، بل هي ناجمة عن عدم حرص البشر على تجنّبها في خضم التسابق على تطوير و”تسليح” الذكاء الإصطناعي والذي يجري الآن على قدم وساق بين أبرز الأمم والشركات في العالم.

القسم الثاني ينبثق من المخاطر المباشرة التي قد تأتي من هذا النوع من الذكاء إذا وصل إلى مرحلة تطوير الوعي الذاتي واحتمال “تحالفه” مع حفنة ضئيلة للغاية من البشر الذين يملكون الثروة والسلطة.

كما هو معروف، كان الأمن طيلة فترات التاريخ البشري المديد الهدف الأول للمجتمع البشري المنظّم. ففي حين كانت الثقافات البشرية المختلفة تتباين في قيمها وتركيبة وحداتها السياسية وطبيعة مصالحها وتطلعاتها، إلا أنها جميعاً كانت تتقاطع حول هدف واحد: الأمن أو الدفاع عن نفسها سواء بمفردها أو بالتحالف مع مجتمعات أخرى.

والآن، بعد نهاية الحرب العالمية الثالثة (الباردة)، بدأت الدول الكبرى بتزويد ترساناتها العسكرية بالإمكانات السيبرانية التي تكمن قوتها وفعاليتها إلى حد كبير في عدم شفافيتها (Opacity)، وفي القدرة على إنكار وجودها (Deniability)، وفي بعض الحالات عملها على الحدود الغامضة للمعلومات المضللة، والتجسس، والتخريب، ما يخلق استراتيجيات جديدة من دون قواعد معترف بها.

وبالتالي، تُهدّد حقبة الـ (AI) تهدّد بتعقيد غوامض وألغاز الاستراتيجيات الأمنية الحديثة بشكل يتجاوز نوايا البشر أو حتى فهمهم. وهنا، وحتى لو امتنعت الدول عن النشر واسع النطاق لما يُسمّى الأسلحة التلقائية الفتاكة، أي أسلحة (AI) الأوتوماتيكية أو شبه الأتوماتيكية التي دُرّبت وبُرمجت لاختيار أهدافها ومهاجمتها من دون تفويض بشري إضافي، فإن الذكاء الإصطناعي قد يُقوّي ويعزّز القدرات التقليدية والنووية والسيبرانية بشكل قد يجعل العلاقات الأمنية بين القوى المتنافسة أصعب على التكهن والتوقع، ما يُصعّب أكثر الحد من النزاعات.

ومما يفاقم هذه المشكلة أن قدرات الجنس الالكتروني العسكرية تعمل على مستويات عدة وربما تصبح قريباً ضرورية ولا غنى عنها. والواقع أن هذا ما يحدث الآن: فالمقاتلات النفاثة التي يقودها الـ(AI) أظهرت قدرة فائقة على التفوّق على الطيارين البشر في تجارب المحاكاة للاشتباكات الجوية، مستخدمة المبادىء نفسها التي مكّنت (AI) ألفا زيرو من التغلّب على بطل العالم بالشطرنج، وهي تحديد أنماط (patterns) من السلوك لا يلاحظها الخصم أو يُخطّط لها، ومن ثم ابتداع وسائل لتحقيق النصر.

وقد خصّص وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الفصل الخامس من كتابه (The age of A) للتطرق إلى مسألة الأمن والنظام العالمي في ظل التطورات التكنولوجية الجديدة، بخاصة منها تلك المتعلقة بالذكاء الإصطناعي ودوره في الحروب العسكرية المقبلة. وكان مثيراً أن يلحظ كيسينجر الآتي (ص 139): “الذكاء الإصطناعي يهدّد بتعقيد أحاجي الاستراتيجية الحديثة بشكل يتخطى النوايا البشرية، أو حتى ربما الفهم البشري الشامل لها. والحال أن (AI) يُمسك الآن، وسيمسك أكثر، بمفاتيح وآفاق زيادة القدرات العسكرية التقليدية والنووية والسيبرانية بطريقة تجعل العلاقات الأمنية بين الدول المتنافسة أكثر صعوبة على التكهن والنزاعات أكثر استعصاءً على وضع حدود لها”.

الانكشاف على المخاطر!

ليس ثمة قوة كبرى أو متوسطة تستطيع الآن تجاهل الأبعاد الأمنية للذكاء الإصطناعي، خصوصاً بعد أن أثبت الـ(AI) العسكري فعاليته الضخمة (عبر الطائرات المُسيّرة) في كسب حروب في ناغورنو كارباخ بين أرمينيا وأذربيجان لمصلحة الأخيرة، وفي إثيوبيا وليبيا وسوريا ومؤخراً في أوكرانيا (2022)، وأيضاً في الهجوم السيبراني من خلال فيروس (stuxnet) الذي خرّب كومبيوترات التصنيع الإيرانية المستخدمة في الجهود النووية. كل هذه الهجمات لم يعلن أي طرف مسؤوليته عنها.

إن التنافس الأساسي في هذا المجال يجري الآن بين الولايات المتحدة والصين وإلى حد ما روسيا. لكن الأكيد أن هذه القدرات الجديدة ستنتشر سريعاً في كل أنحاء العالم. إذ في حين أن خلق (AI) متطوراً يتطلّب قدرات حوسبة كبيرة، إلا أنه من السهل اقتباسه وانتشاره بعد ولادته.

هذه المعطيات يجب أن تدفع دول العالم إلى البحث عن معاهدات للحد من هذه الأضرار والكوارث، كما فعلت في مجال الأسلحة النووية، هذا علماً أن دخول الذكاء الإصطناعي على الخط قد يُفاقم من المخاطر النووية بدل التخفيف منها، بخاصة إذا ما سُلّمت مقاليد القرار في الحرب إلى (AI) العسكري. والحال أن المعضلة المركزية في العصر الرقمي هي كالتالي: كلما زادت القدرات الرقمية لدى مجتمع معين، كلما أصبح أكثر انكشافاً على المخاطر.

علاوة على ذلك، إدخال المنطق غير البشري إلى الأنظمة العسكرية وعملياتها سيُغيّر كلياً من طبيعة الاستراتيجيات. فالجيوش والأجهزة الاستخبارية التي تبرمج أو تتشاطر العمل مع (AI) العسكري، ستحوز على تبصرات ونفوذ مفاجئين وكبيرين، وبالتالي ستُغيّر من طبيعة الاستراتيجية والتكتيك. بيد أن استقلالية (AI) في القرار العسكري، أي برمجته لضرب هدف معيّن، قد يؤدي إلى مضاعفات وكوارث غير محسوبة لا يستطيع (AI) أصلاً وضعها في الاعتبار لأنها ليست من مهامه ولا من طبيعة برنامجه. ثم أنه سيتصرّف في هذه الحالة بشكل أسرع بكثير من سرعة المنطق البشري، وبشكل يتجاوز حتى فهم مبرمجيه.

الذكاء الاصطناعي العسكري يشبه في الكثير من الوجوه الحروب البيولوجية والكيميائية، لأن تركيبته الرقمية سريعة الانتقال كالفيروسات أو الغازات الكيميائية وكذلك الإنتشار بين الدول. كما أنها، كما البيولوجيا والكيمياء، لها استخدامات مدنية وعسكرية في آن، وهي مُدمّرة بشكل كبير.

 كل هذه العوامل الثلاثة معاً تُميّز الحروب السيبرانية عن أدوات الحروب التقليدية وحتى النووية. فمثلاً يُمكن استخدام السيارات والباصات لأغراض عسكرية، كما مدنية، لكنها لا تتضمن عنصراً تدميرياً. والأسلحة النووية تتضمّن طاقة تدميرية هائلة، لكن بناها التحتية معقدة للغاية ويسهل على الحكومات التحكّم بها ومنع اختراقها، على عكس الأسلحة السيبرانية التي من السهل السطو أو السيطرة عليها من طرف خارجي مجهول.

الاستخدام المزدوج، والانتشار السهل وواسع النطاق (يمكن تحميل الخوارزميات الخطيرة بسهولة على كومبيوتر صغير الحجم)، والطاقة التدميرية الهائلة، يكسر الأنموذج التقليدي لأدوات الحرب. ثم هناك مسألة الوقت: فالدولة، أي دولة، لا يتوافر لديها مجال زمني لتقييم علائم هجوم آت، بل ربما تحتاج إلى أن ترد فوراً أو تخاطر بتعرّضها إلى الدمار، ولذا فهي قد تختار أن تُفوّض نظاماً يستند إلى خوارزميات (AI) رصد هذه العلائم وفي الوقت نفسه (في حال وجود خطر داهم محتمل) شن هجوم مُسبق مضاد لا يخضع إلى إشراف بشري.

والحال أن قلة قليلة من الحقبات التاريخية البشرية واجهت مثل هذه التحديات الاستراتيجية والتكنولوجية المعقدة، من دون وجود إجماع حول طبيعتها أو كيفية الحد من مخاطرها. وهذا قد يجعلها، بهذا المعنى، أخطر من الأسلحة النووية، لأن مفهوم الردع فيها إما هو ضعيف أو حتى غير موجود، على عكس الأسلحة النووية، ولأن مفهوم التفوّق لتحقيق النصر ضبابي في أحسن الأحوال.

***

نعود الآن إلى “برافو إسرائيل” للقول، وبثقة، إن الاغتيالات السيبرانية الجماعية التي نفّذتها إسرائيل في لبنان لن تكون هي كلمة الفصل، فهذه الاغتيالات فتحت كل العيون والعقول في المنطقة على حقيقة قرب نهاية عصر الحروب الكلاسيكية وبداية عصر الحروب السيبرانية التي هي وفق كل المقاييس حرب وجودية من الدرجة الأولى.

لذلك، “برافو إسرائيل” قد تكون (أو هي بالفعل) برافو قصيرة العمر للغاية!

(*) راجع في هذا الصدد؛ سعد محيو: زمن الذكاء الاصطناعي: حوار بين إنسان عضوي وإنسان آلي. مركز دراسات الوحدة العربية، 2024.

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الحركة الوطنية المصرية مع مطلع القرن العشرين