إبتداءً هو سيّد المقاومة، فسيّد محورها، ثم المتوَّج على قلوب الشعوب العربية والمسلمة والمظلومة، ثم درة تاجها في الجهاد إلى حدّ الاستشهاد.
عرفته منذ العام 1985 يوم أخذني الإحتلال الاسرائيلي من بلدتي الحدودية إلى معتقل الخيام المجاور، ومنه إلى النفي عنها عبر معبر القنطرة نحو بيروت، إلى أحد مساجد الضاحية الجنوبية، ليأخذني هذا المسجد إلى صحافة المقاومة، التي جعلتني أقابل سماحته فيها، من قبل أن يُمسي أميناً عاماً لحزب الله ومن بعد، غير مرة، وفي أكثر من حوار صحفي وخاص، أوله كان في مدينة بعلبك – البقاع، يوم كان مسؤولاً هناك، حيث امتد الحوار الصحفي لساعتين دونما كلل أو ملل أو تذمر أو ملامح ضيق أو انزعاج.
***
كان سيّد المقاومة سمحاً أكثر من السماحة، تماماً كما بات اليوم شهيداً أكثر من الشهادة، ودمثاً فوق العادة، ما من سؤال عنده بدون جواب، وإذ يجيب يمضي حديثه مرسلاً على سجيته وشفافيته بعفويتها، دونما تكلف سياسي أو تصنع قيادي، فلا محرمات في الحوار ولا “فيتو” على سؤال، همّه أن تسأل ما بدا لك بحرّية وأريحية، وجلسته القريبة منك تختصر المسافة المفترضة بينكما بل تلغيها كلها إذ لا فاصل يبقى أكثر من متر واحد يُشعرك أنك تجالس صديقاً لا أميناً عاماً، وتناقش أخاً كبيراً لا زعيماً، وتحاور أباً يحنو معك وعليك وإن قاربته في العمر، فالإبتسامة ترسم شكل شفتيه الدائم لكأنهما خلقتا مبتسمتين، لتبعثا في من أمامه طاقة إيجابية لا حدود لها، كافية لأخذك في رحلة استرخاء طال الحديث أم قصُر.
***
عندما تم تجديد بيعته وولايته لعهد ثانٍ، ذهبتُ إليه لأقف عند معالم مرحلته الثانية، محاولاً استشراف عناوينها في رحاب الداخل الحزبي التنظيمي، وفضاءات الخارج البيئي المقاوم، كان الموعد في الطابق الرابع من مبنى “الشورى” المعروف في حارة حريك حتى حرب تموز 2006. وقتذاك، كان الموعد مُمكناً وكان السيّد خارج ما كانه بعد ذلك من تضييق الدوائر الأمنية حوله، خوفاً عليه بعد فشل محاولة اغتياله خلال عدوان تموز المذكور ما جعل لقاءه مستحيلاً بعدذاك.
بعد استقباله اللطيف، وترحيبه الحار، والجلوس المتواضع، وقبل أي سؤال، وقف أحد الأخوة في قلب باب الصالون، لكن سماحته سرعان ما انتبه إليه بنباهته المعروفة التي لا تطيق إرهاق الآخر وإطالة الوقوف لأجله سدىً، فأومأ إليه أن يذهب: “حسين فيك تروح”؛ لكأنه أحب أن يأخذ الضيف راحته في الحديث من دون أي إحراج . ذهب حسين وجاء الحديث الخاص عن العهد العتيد وما إذا كان سيختلف عن سلفه في شيء. حاولت أن أستميحه عذراً على “كم سؤال خاص” وما أن قلت كلمة “خاص” حتى سبقتني ابتسامته وجملته “بعرفك بتحب المناكفة في الحديث.. مش الحديث التقليدي.. إسأل يللي بدك ياه” سألته: “مولانا ماذا تنوي أن تفعل في العهد المقبل؟ لم يُفاجئه السؤال ولم يُفكر لكي يجيب. وذاك كان ديدنه في كل حوار خاص أو عام (للنشر). قال السيّد حرفياً: “سأعمل على مسألتين: الثقافة والأخلاق”. استوضحته: داخل الحزب أم خارجه؟ رفع إصبعيه وقال: “الإثنان”. سألته: هذه قناعة أم حاجة أم ضرورة؟ قال: “الثلاثة”.. وضحك ضحكته المتهادية على موجاتها الصوتية ونشيج البحة الحنونة ليضيف: “هي كل هذا”. سألتُه سماحتك ترى ذلك أولوية؟ فوراً أجاب بكلمة واحدة “تماماً”. قلت: لماذا؟ قال: “لأنهما ركيزة الحزب وأساس بيئة المقاومة ولا يجب أن تتوقفا أو يطغى عليهما الهمّ التنظيمي الذي نغرق فيه وفي تفاصيله يومياً وحتى الجهادي لأنه بدون الثقافة والأخلاق يفقد الحزب ميزته وهويته وخصوصيته فيضيع”.
في تلك الجلسة، سألته عن أشخاص أو جمعيات أو مؤسسات ثقافية ناشئة هنا وهناك تعمل من خارج الإطار الحزبي التنظيمي، فقال بهدوئه المعهود وصوته الخفيض مفسحاً عن أفقه الواسع :”عندما يقولون لي ذلك أقول لهم يا أخي اتركوهم يعملوا ماذا يُضير ذلك؟ زيادة الخير خير وبركة.. وهذا دليل صحة وعافية اجتماعية ومجتمعنا بحاجة للكثير وللجميع وساحتنا كبيرة ومفتوحة وتتسع للكل.. والإسلام أكبر من هيك بكثير..”
***
بعد ذلك بفترة، بعثتُ برسالة إلى سماحة السيّد فيها ما فيها من مكاشفات، وبعد أيام جاءني اتصال لموعد في المبنى نفسه مع أحد معاونيه الذي قال لي: “بيسلم عليك السيّد، مبارح كنا هون عم نصلي وراه، وبعد التشهد والتسليم وانتهاء الصلاة، وقبل أن يقوم منها التفت إليّ وطلب مني أن ألتقيك وأنقل اليك أن رسالتك وصلت اليه، وأنه سيتابعها، وأنه يقدّر ويشكر و.. و… إلخ” . وبعد حديث ودّي شكرته وودعته وأنا أفكر في السيّد وصلاته وما بعد الصلاة، في ذاكرته التي تحفظ ولا يفوتها تفصيل، في أخلاقياته التي تحترم كل آخر ورأي آخر، وتستوعبه أياً كان ومهما قال.
بعد حرب تموز/يوليو، كنتُ في طهران وجمعني لقاء بقيادي من الرعيل الأول في حزب الله، كنت قد تعرفت إليه في منتصف الثمانينيات الماضية. كانت المقاومة خارجة للتو من الحرب؛ سألته عن السيّد فاستذكر خلال استعار أوار الحرب، عندما خرج السيّد إلى الناس ليعلن لهم الإنتصار الحتمي الآتي، وقال رفيق عمر السيّد: تساءلت ونفسي كيف يقول هذا للناس؟ وإلى ماذا استند؟ وعلى أي أساس؟ وعندما انتهت الحرب وتحقّق الانتصار، ظلّ هذا السؤال الثلاثي بداخلي، ولما التقيت السيّد سألته إياه فأجابني: “استندت على يقيني، يقيني بالله، اليقين اليقين بالنصر هو الأساس”.. وعندها أدركت أمام أي سيّد نحن وأي غيب يُسدّد خطاه”.
لم يستشهد السيّد بالمعنى اللفظي للكلمة، بالرغم من حيازته مرتبة “أبو الشهداء” هو سماحة الشهادة نفسها، وهو أكبر من الشهادة نفسها، لأنها به تكبر أكثر مما هو يكبر بها، وكذا هو شأن الكبار الأكبر مما يصفون.
***
اليوم يستشهد السيّد على طريق القدس ليقود قافلة الشهداء على هذا الطريق، حالماً أن يُصلي في مسجدها الأقصى ولو شق بجسده الطريق، هذا الطريق يردني اليوم إلى ملحمة بلدة ميدون في البقاع الغربي عام 1988 يوم دمّرها العدو الصهيوني عن بكرة أبيها في اجتياح جوي بري بربري أزالها عن الخارطة، فقد كنتُ فيها قبل أيام وعدتُ غداة الملحمة لإجراء تحقيق فلم أجدها، لم أعثر على منزل من منازلها، حتى المسجد، حتى المدرسة كلها تحولت ركاماً أثراً بعد عين، وخلال التجوال حيث صمد وقاتل الـ 18 مقاوماً حتى الاستشهاد، وصمد الجرحى منهم حتى آخر قطرة دم، عثرت على قطعة من جدار مهدم كتبَ عليها أحدهم بدمه: “هذي دمانا هنا أكملوا الطريق”. وقد أكملوا.. وسنكمل.