أناقة الموت وعبثية حياةٍ لا تستحق حتى.. اسمها!

يقول لك ولد صغير: "لقد تعودنا "عمُّو" على هذا الصوت المرعب الذي يُحدثه طيران العدو"، ويضيف باستخفاف: "إنّه خرق لجدار صوت.. ليس أكثر".

تشعر كأن هذا الصغير يحاول أن يُطمئنك ويُهدّئ من روعك، فيما المفترض أن تكون أنت المبادر لطمأنته، أليس هو الأصغر منك سناً ومن دون تجربة؟

يسألك بجديَّةٍ لعله انتقاها من جديَّةِ معلمه في المدرسة:

– هل يصدمك الصوت؟ هل يخيفك إلى هذا الحد.. عمُّو؟

لا تجد أمامك إلا أن تربت على كتف الصغير بلطف وبود، تمرر راحة يدك على شعر رأسه الحليق، ثم ترسل إليه ابتسامة راعشة.

واضح أنك لم تستسغ أن يجرؤ طفل دون الخامسة عشرة من العمر على خدش كبريائك.. طبعاً، عليك استعادة هيبة ووقار الكبار بالرد على هذا التجاسر.

من دون أن ينتطر إجابتك المرتبكة، يُخبرك الولد وهو يشير بيمناه إلى سماء ملبدة بالغبار والأدخنة:

– يكاد لا يمر نهار من دون حدوث خرق لسمائنا.

ومثل خبير عسكري متقاعد، يعتدل الصغير في وقفته ليشرح لك كيف أن دوي “خرق جدار الصوت” الواحد قد يضرب مرتين متتاليتين، الأولى، لا بد أن تليها مباشرة الثانية.. في ما يشبه رجع الصدى.. إن الخرق يشبه صوت الرعد أو أكثر قليلاً، وأيضاً لا يختلف عن صوت انفجار.

تتأمل في بنيته الضئيلة وهيأته الشاحبة، وفي كلماته المبحوحة وأسلوبه الأكبر من سنوات عمره الطري.

هذا طفل يشبه باقي أطفال العالم.. ولا يشبههم في الآن نفسه.

وهو يمسك بين يديه النحيلتين كرة أخذت لونها من التراب، وزاغ شكلها قليلاً عن استدارتها العادية.. وهو مثل باقي الأطفال يهوى التسلي بلعب كرة القدم. وربما يحلم أن يصير نجماً من نجوم الملاعب.

لهذا يلبس “تي شيرت” نصف كم، رسم عليه رقم (7)، وبالأحرف اللاتينية كتب اسم “رونالدو”. “تي شيرت” أصفر يعود لنادٍ اسمه “النصر” (من أشهر أندية الدور السعودي).

تحاول أن تسحب الولد وتقيله من عسكريته المتقمصة، لتعود به إلى براءة طفولة تغتصب.

تجامله:

– واضح أنك من محبي اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو؟

يُجيبك على الفور أنه من مشجعي “ريال مدريد” الاسباني.

ها قد نجحتَ في استدراجه إلى الكلام بعيداً عن حديث الحرب.. تدفعه لاستظهار معرفته الكروية، تستفهمه عن متابعته لما حققه منتخب المغرب في “كأس العالم” الأخيرة.. على الفور يستعرض عليك أسماء أشهر اللاعبين المغاربة الذي شاركوا في المونديال. ويخص إعجابه أكثر للحارس ياسين بونو وللاعبين أشرف حكيمي وحكيم زياش.

ومثل من أدرك مراوغتك له بتغيير اتجاه سير الدردشة، يُفهمك من دون كلام أن الحديث في الكرة ليس وقته الآن.. ليعود إلى الأجواء غير العادية المخيمة على بلده والمنطقة.

يقول لك مدارياً ابتسامة خجلى، ودون أن يتخلى عن خبرة العسكري المتقاعد:

– صوت الضربة الصاروخية مختلف عن خرق جدار الصوت. صوت الضربة الصاروخية لا يشبه الدوي الناتج عن “خرق جدار الصوت”. إنك تستطيع إدراك هذا من شرارة الضوء التي ترافق أحياناً الخرق.. شرارة مثل البرق.. شرارة تخلفها قنبلة مضيئة تلقى للتغطية ولحماية الطائرة المعتدية من الإسقاط..

ويُردف سائلاً: أفهمت الآن.. عَمُّو؟

– لكن من أين جئت بكل هذه الخبرة يا ولدي؟

يتهلل وجهه البريء بالابتسامة الخجلى ذاتها، ليقول إنه يعرف لوحده. ثم يستدرك:

– ومن والدي أيضاً.. من الكبار، من التلفزيونات.

تضحك أنت، ويضحك الصغير معك.

– فهمتُ يا عمُّو؟

تشعر كأنك بصدد الشروع في نكء جراح واستحلاب آلام ظننتها انطمرت بين تلافيف الذاكرة.. فتودعه وتتركه لكرته المتربة، يدحرجها فوق الأسفلت والتراب، في انتظار التحاق أقرانه من أبناء الجيران.

نعم، فهمت وأفهم يا ولدي، لكني لست بقادر الآن على امتلاك ما يسمونه “الفهم والإدراك الصحيح”.. ولا ما هي اللغة السديدة التي يُمكن أن تساعد في أن يستوعب المرء حقيقة ما يجري وما يحصل أمام ناظريه وخلف ظهره أو جانبيك.. “وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فعلى أي جانبيك تميل” !

***

تُمسك بالريموت كنترول كسلاح جاهز وفي متناول اليد، تُشهره في وجه التلفزيون.

وها أنت بكبسات خفيفة تتنقل ما بين محطات القنوات الفضائية، محطات تناسلت كالفطر، فتشابهت علينا تشابه الأبقار الفاقعة على قوم موسى.

– الطيران الإسرائيلي يشن غارات على مناطق عدة في الضاحية الجنوبية.. ما أدى إلى اندلاع حرائق.. تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع في سماء بيروت.. تدفق مئات الآلاف من النازحين إلى المدن والقرى المصنفة آمنة..

يطغى السواد المعتم على الشاشة المستطيلة ويغطي عينيك.. ليتقدم العدو على الحدود..

العدو اخترق الحدود.. العدو على الأبواب.. خلف النافذة.. جواسيسه تحت أسِرَّةِ الأرق.. إنه يخترق السماء.. يخترق الأرض. يصبغ الشوارع بأوحال ممزوجة بالدماء.. وأينما حلّقت غاراته العدوانية يزرع الموت والدمار..

جحيم من الأهوال العصية على الوصف.. دماء الآلاف من الأبرياء تسفك ظلماً..
آليات القتل لا توفر صغيراً ولا كبيراً.

من عقود وفيروز لم تتوقف عن الغناء، تُخبر العالم من شعر جبران خليل جبران:

“في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون
مات أهلي وغمرت تلال بلادي الدموع والدماء”..

وكل مرة تذهب استغاثتها أدراج الرياح وجفاف الوديان، فالعالم عَدِم الروح ويتنفس بلا حياة..

وقرار الإبادة يحمل توقيع أكبر العواصم التي ترفع رايات الإنسانية والحضارة.. اعتصمت بحبل الوحدة، ولن يفصلها فارق حتى تنهي مهمتها في توحيد صراخ وآهات والآلام الشعبين الفلسطيني واللبناني، وتجتهد في أن تصنع منها معزوفة تنزف بقيامة سابقة لأوانها التي لا ريب فيها..

إقرأ على موقع 180  "عَلِيّ".. وفرضيّة "الباطن" داخل الإسلام

***

أكاد أصاب بالجنون، جنون يفضحه بريق وحشي يلمع في عيني الناعستين..

أسقط مرهقا محموماً متألماً، محاصراً بالموتى وبالموت.

وكل القتلى ناموا حولي يعيون باردة، وفي قلوبهم شهقة كقافية منفردة في قصيدة من بيت يتيم، وسطر أعزل، ليظل خفقان القلوب إلى الأبد!

لقد تحوّل كل شيء إلى خراب مرعب.

لكن المذبحة لن تكتمل.. ولن..

أشعر بروحي محمولة صوب جبال عالية.

وأنا مصلوب في برج عاجي.

فوق رأسي خبز تأكل الطائرات المغيرة منه.

أرفع عيني إلى السقف وأخاف أن يفاجئني بسقوطه فوق رأسي.

أنتبه إلى أني لا ألبس غير ملابس النوم، أفكر في ارتداء القميص مع سروال الدجين الأزرق.. على الأقل، إذا ما استطعت النجاة ووجدتني مع أعداد الناجين، أكون ساعتها بلباس محترم.. لا يخرق الحشمة والحياء.

من قال إن الضحايا لا يبالون بالحد الأدنى من أناقتهم ما بعد مصيبتهم أو موتهم..

***

أرى خزانة كتبي اختفت تحت ركام من أنقاض حجر وأتربة السقف.

فجأة أستفيق من ارتعابي ومن ذعري الزائد. أكتشف أني وقعت ضحية شائعة مفزعة مضحكة.

لما تصحو وتكتشف أنك كنت تحت وطأة كوابيس، فعليك اعتبار كوابيسك ضمن الأخبار الشائعة والأنباء الزائفة.

إنه رعب ممزوج بكوميديا سوداء.. مسْخَرَة حالكة أكثر من ليل مُطبِقٍ بهيم.

لكن أين ذهبت شمس النهار وقد غربت ساعة زوال، بل تحولت إلى شمس سوداء مظلمة، واستسلمت أشعتها لجنح ليل أشد ظلمة وظلماً؟

***

يتعالى نباح كلاب الجيران، نباح كبكاء بشر يتعذبون.

نباحٌ عميقٌ وهادرٌ.. عواء حقيقي.

أتذكر أني قرأت أن الخالق في بدء الخليقة لم يخلق الكلب، وأن الكلب في أصله حيوان متطور عن الذئاب.

أتذكر الشنفرى وتأبط شرا، وأشعارهم عن اسئناسهم بالذئاب إنْ عَوَتْ.

أتذكر عنوان فيلم مغربي عن سنوات الرصاص عنوانه: “هُمُ الكلاب”.

أجد أن الكلاب مخلوقات لها مشاعر وأحاسيس ليست عند أغلب البشر.

لو كان بإمكاني فك الأصوات التي تصدرها هذه الكلاب التي تنبح الآن وتعلو أصواتها، إن أصوات الكلاب ليست دائماً نُباحاً، لا شكّ أنها تُحذّر من عدوان.. لا شك.

الكلاب والذئاب تتواصل وتُنبّه للأخطار.. الكلاب والذئاب تتذمر وتتألم وتغضب وتئن وتبكي.

والكلاب الأخرى، المتحدرة من سلالات الذئاب البشرية.. لا مشاعر لديها ولا أحاسيس، غير القتل وولغ الدم والتخريب والدمار.. والعدو ينقض انقضاض الذئب على القطيع.

كم من الأرواح التي أزهقت وأبيدت على أيدي ذئاب بشرية؟

هم الكلاب المتوحشة.. هم الذئاب المفترسة.

***

أسمع صراخ أطفال صغار يبكون.. فيما تتكوم قطتي الصغيرة مفزوعة تحت طاولة في الركن من الغرفة.. أحاول تهدئتها، أن أفهمها بلغتي، خليط من فصيح وعامية مغربية ومن فرنسية – وطبعاً هي لا تتكلم العربية ولا الفرنسية ولها لغتها الخاصة- قلت لها إني لم أجلبها كي أدربها على صيد الفئران في الجحور، لكني أعوّل على ألفتها ورفقتها للرفع من روحنا المعنوية، ولتوفير بعض الراحة وسط مصاعب هذا الوضع العبثي.

وكان ردها مواء مرتبكاً مليئاً بالأخطاء اللغوية؛ هو مواء الخوف. نعم للخوف علاقة بكل الأشياء والأمور، حتى في العبادة الإسلامية، وغيرها من الديانات السماوية، هناك صلاة استثنائية اسمها: “صلاة الخوف”.. صلاة تقام في أوقات الحرب.

لا أكاد أصدق أني أصبحت أسير كل هذا التعب، وتحولت إلى ذاك الرجل الخائف من يأسه وقلقه.. أبحث عن الاتجاه الآخر.. أفتش عن هدنة أتسلل من فجوتها إلى مطار أو ميناء أو معبر حدودي آمن.. لأبتعد بأمان.. وكيف يكون شكل الابتعاد والأمان الذي لن يحصل أبدا، فمهما اتسعت ونأت المسافات فإنها لن تقوى على استجلاب الأمان الحقيقي!

***

أنا الآن أتكوم مثل القطة تحت صدمتي النفسية.. برأسي تزدحم أحزان وضوضاء آتية من سحيق القيامة.

بل هي القيامة الآن.

لن يقهر الموت ويحصده إلا موت أكبر منه.

إني أكاد لا أسمع غير حشرجات الموتى.. فأين نصرك يا موتنا القاهر؟

***

جثث جنب جثث.

جثث تحت جثث.

جثث فوق جثث.
جثث تتسلى في فنائها بالفراغ.

جثث خائفة من عودتها للعدم.

جثث ناقمة تكره باقي الجثث.

جثث بأكفان من تصميم أرقى دور الأسلحة وخياطة مجلس الأمن.
جثث باردة مشردة.. بَترَت أطرافَها أنيابُ الريَّاح.

جثث من سلالات جثث ماكرة تتحكم في رقاب جثث بلا جماجم.

جثث مغبونة تتوسل أقدارها بباب أضرحة الجثث الماكرة.
جثث تعبد موتها..
جثث تخطط للهروب الكبير من المقابر.
جثث تستنكر مصيرها.. تستعجل يوم الحساب.
جثث استحمت بدمائها ونامت بلا قلب.
جثث جثث جثث جثث جثث.

***

هل ما يحدث هنا والآن.. وما نراه ونُحسِّه.. تذكير بالخطيئة والعقاب، بالقدرة البشرية على الخير والشر؟

مهما كانت الإجابة فلن تخرج عن كونه تذكير بهشاشة الوجود البشري ليس غير. لنتساءل عن هذه الحياة التي لا تستحق اسمها.

(بيروت، 3 أكتوبر2024)

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  خيارات الشك الأوكرانية: ويستفاليا، يالطا أم بودابست؟