بديل نتنياهو أسوأ منه.. السلام صار مستحيلاً!

فى الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٩٥، تم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إسحاق رابين. كان رابين المنتمى إلى حزب العمال هو من وقّع على اتفاقية السلام مع الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وهى الاتفاقية التى انتقده بسببها الكثير من الإسرائيليين المتشددين سياسيا ودينيا بحجة أنه فرط فى الأرض المقدسة الموعودة لليهود! لم تكن هذه مجرد مشاكسات سياسية على رابين بل تعبيراً عن تيار قوي يحاول قلب الرأى العام فى الدولة العبرية على رئيس وزرائها وعلى كل الساسة الإسرائيليين المؤمنين بالسلام مع العرب.

كان يقود هذا التيار عدد من القيادات الدينية/السياسية المتشددة ومن ضمنهم مائير كهانا والذى كان -برغم وفاته فى عام ١٩٩٠ أى قبل ثلاث سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو- من أشد المعارضين لأى سلام محتمل مع العرب، وكان من أتباعه متطرفون مثل باروخ جولدشتاين مرتكب مذبحة الحرم الإبراهيمى فى ١٩٩٤، وإيجال عمير منفذ عملية اغتيال رابين فى العام التالى.
كان هناك تيار سياسى علمانى آخر يعارض السلام مع الجانب الفلسطينى بشدة وهو التيار الذى قاده بنيامين نتنياهو والذى كان وقبل اغتيال رابين بوقت قصير من أكثر المحرضين العلنيين على العنف ضد رابين وكل المؤيدين للسلام وقتها فى إسرائيل، صحيح أنه لم يطالب صراحة باغتيال رابين لكنه ومعه باقى التيارات السياسية اليمينية فى إسرائيل سواء من العلمانيين أو الدينيين قد أخذوا فى اتهام رابين بالعمالة والتنازل عن حقوق اليهود فى الأرض المقدسة الموعودة!
لذلك لم يكن من المستغرب أن يصل نتنياهو لأول مرة إلى السلطة بعد سبعة أشهر فقط من اغتيال رابين وتحديدا فى ١٨ يونيو/حزيران عام ١٩٩٦، ومنذ ذلك الحين – أى منذ أكثر من ٢٨ عاما – لم يعد حزب العمال إلى السلطة سوى مرة واحدة فقط بقيادة إيهود باراك والذى لم يحكم سوى لمدة بلغت نحو عام ونصف العام فقط! أى إنه وفى ٢٨ عاما حكم العمال لمدة عام ونصف، فيما حكمت الأحزاب السياسية المحسوبة على اليمين أو يمين الوسط لأكثر من ٢٦ عاما، وفى تلك المدة استأثر نتنياهو وحده بالحكم لمدة تزيد على ١٧ عاما، وما زال فى الحكم حتى لحظة كتابة هذه السطور ليكون أكثر رؤساء الوزراء الإسرائيليين بقاء فى السلطة!

***

بعبارة أخرى، فإنه وفى خلال الخمسة وعشرين عاما الماضية، لم يكن معظم الساسة فى إسرائيل من المؤمنين بالسلام ولا بحقوق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة! لاحظ أننا هنا لا نتحدث عن مجرد ساسة متشددين فيما يمكن إعطاؤه للشعب الفلسطينى تحت مظلة السلام، لا، بل نتحدث عن تيار سياسى ودينى لا يؤمن أصلا بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولة مستقلة، ويهدف إلى ضرورة إخضاعهم عن طريق استخدام القوة المفرطة سعيا نحو تهجيرهم للأبد، ولا شك أن قائد هذا التيار الأبرز هو نتنياهو نفسه!
لذلك فليس من الدقيق اعتقاد البعض بأن هجمات حركة حماس فى السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣ هى التى أضاعت الفرصة على الجانب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة كما يزعم الساسة الإسرائيليون وتابعوهم فى الغرب، فالحقيقة أن نتنياهو والتيار الذى يمثله يؤمن بأن الأراضى المحتلة لا بد وأن تعود للشعب الإسرائيلى وأن الدول العربية أو تلك التى ترفع شعارات حقوق الإنسان فى الغرب عليها قبول الشعب الفلسطينى كمهاجرين، وهو منتهى الأمل لهذا التيار المتطرف.

ان نجاح إسرائيل وتفوقها على العرب كان راجعا للتخطيط على المدى الطويل بدلا من قصر النظر والاستغراق فى تفاصيل اللحظة الراهنة! فكما أن هناك رجالا للحرب، فلا بد أن يكون هناك مخططون فى العالم العربى لمرحلة ما بعد الحرب مهما بدت بعيدة، وبذلك النوع من التفكير والتخطيط الاستباقى يمكن فقط تحقيق بعض آمال الشعب الفلسطينى وحقوقه المهدورة

وقد سبق أن عبّر نتنياهو صراحة ولأكثر من مرة عن عدم إيمانه بحق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة، لعل أبرزها عندما تم انتخابه كرئيس للوزراء للمرة الثانية فى مارس/آذار ٢٠٠٩ حيث تعهد صراحة قائلا: «تحت حكمى لن تكون هناك دولة للفلسطينيين» وهو التصريح الذى سبّب أزمة وقتها مع الرئيس الأمريكى باراك أوباما! لكن على أى حال لم يكن هذا مجرد تصريح عابر، فى ظل نشوة الفوز فى الانتخابات والعودة إلى السلطة، بل هو إيمان نتنياهو العميق الذى يكن العداء للعرب والشعب الفلسطينى، ويؤمن بلغة القوة وسياسة الأمر الواقع لضمان استمرار الدولة اليهودية بلا عرب وبلا حقوق متساوية بين اليهود وغيرهم حتى من حاملى الهويات الإسرائيلية، فالإسرائيليون والإسرائيليات من غير اليهود (العرب والدروز والبدو وغيرهم) لا يتمتعون بنفس حقوق اليهودية/اليهودى الإسرائيلى، برغم أن بعض هؤلاء (تحديدا الدروز والبدو) يخدمون فى الجيش الإسرائيلى ويضحون بحياتهم من أجل الدولة العبرية!

***

من هنا فإنه ومع كثرة الحديث هذه الأيام عن كيفية إيجاد البديل الفلسطينى الذى يمكنه صناعة المستقبل بعد انتهاء الحرب الجارية، وعن ضرورة بناء هذا البديل من الأجيال الشابة فى ظل عطب السلطة الفلسطينية وافتقادها لثقة الفلسطينيين والفلسطينيات فى الضفة الغربية قبل غزة، وكذلك فى ظل عدم صلاحية حماس أن تكون طرفا فى أى سلام مستقبلى سواء بسبب تلاشى الدعم الدولى لها بعد هجمات أكتوبر أو بسبب عدم إيمان حماس نفسها بالمفاوضات كوسيلة لحصول الشعب الفلسطينى على حقه فى دولة مستقلة. لا بد أن يكون هناك حديث موازٍ أيضا عن البديل الإسرائيلى، لأنه وبنفس القدر الذى لا تؤمن به حماس بالسلام ولا بالتفاوض، فإن نتنياهو وحزبه، بل وتحالفه الحاكم لا يؤمن بحق الشعب الفلسطينى ليس فقط فى دولة مستقلة، ولكنه لا يؤمن بحقهم أصلا فى الوجود على الأراضى الموعودة!
ومن هنا فإن التباحث حول أى مستقبل للسلام وبناء دولة مستقلة للشعب الفلسطينى فى الضفة وغزة كما تنص القرارات الأممية لا بد أن يضع فى الاعتبار أنه لطالما ظل نتنياهو فى السلطة أو أى من عصبته من مجرمى الحرب المتخفين فى ثوب السياسة، فإن أى حديث عن سلام أو عن بديل لن يكون له أى طائل!
يرى البعض أن أيام نتنياهو فى السلطة قد تكون معدودة، ويراهن البعض الآخر وخصوصا فى الدوائر الدبلوماسية الأمريكية أن نتنياهو لن يتمكن من البقاء فى السلطة لأكثر من عام واحد، وربما يكون ذلك صحيحا، لكن المشكلة أكبر من نتنياهو، المشكلة فى تيار يمينى كامل يجتاح المجتمع الإسرائيلى، وهو التيار الذى اشتد عوده بعد هجمات 7 أكتوبر، ومن غير المتوقع حتى فى حالة سقوط نتنياهو، أن يتمكن أى من التيارات اليسارية الإسرائيلية المؤمنة بالسلام من الوصول إلى السلطة قريبا، بل إن المزاج العام الذى أصبح أكثر تشددا فى إسرائيل، ربما سيبحث عن بديل لنتنياهو، ليس رغبة فى السلام، ولكن رغبة فى الحصول على حماية أكبر بعد فشل نتنياهو الذريع فى حماية إسرائيل.
بعبارة أخرى، حتى ومع افتراض سقوط نتنياهو السياسى، فإن البديل قد يكون أكثر تشددا، ومن هنا تصبح فرص السلام على الأجلين القصير والمتوسط شبه منعدمة!

إقرأ على موقع 180  في امتحان غزة.. إما أن تكون إنساناً أو وحشاً؟

***

قد يبدو هذا الكلام سابقا لأوانه، فنحن لم نصل حتى إلى هدنة مؤقتة، فضلا عن أن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار يبدو معقدا، هذا بالإضافة إلى أن الحديث عن السلام قد يبدو ضربا من الخيال أو المثالية فى الظروف الحالية وخاصة مع دخولنا مرحلة الحرب الإقليمية وفى ظل ضربة إسرائيلية متوقعة لإيران! لكن فى تقديرى فإن هذا الكلام فى وقته، فالحديث عن السلام وفرص الحصول على دولة فلسطينية مستقلة وطريقة بناء سلطة للشعب الفلسطينى فى المستقبل لا ينفصل عن الحرب وتطوراتها، فالتخطيط الاستراتيجى لكل من يهتم بأمر الشعب الفلسطينى وحقه العادل فى الحصول على دولة مستقلة هو أمر لا بديل عنه، وقد كان دائما نجاح إسرائيل وتفوقها على العرب راجعا للتخطيط على المدى الطويل بدلا من قصر النظر والاستغراق فى تفاصيل اللحظة الراهنة! فكما أن هناك رجالا للحرب، فلا بد أن يكون هناك مخططون فى العالم العربى لمرحلة ما بعد الحرب مهما بدت بعيدة، وبذلك النوع من التفكير والتخطيط الاستباقى يمكن فقط تحقيق بعض آمال الشعب الفلسطينى وحقوقه المهدورة.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  حفتر على خطى القذافي.. إكمال مسيرة التطبيع