ليبيا في العقل الغربي .. قراءة في كتاب ماتيو كاباسّو

في كتابه "السِّياسة اليومية في الجماهيرية العربية الليبية"، يُركَّز ماتيو كاباسّو (Matteo Capasso)، في معرض تحليله لواقع ليبيا ما بعد الاستعمار على الديناميّات الداخلية وشهادات النَّاس العاديين، بعكس معظم الدراسات المعاصرة التي سكون همّها إبراز هيكليّة الدَّولة الليبيّة والمسيطرين على الحكم، وبالتالي تُهمل دور الشعب الليبي.

يقف في الخانة المقابلة لكتاب ماتيو كاباسّو [1] العديد من الكُتّاب ممن يحصرون التاريخ السياسي الليبي بالدولة المركزيّة التي تُهمّش مناطق ومجتمعات ريفيّة أو معارضة (Pack 2014)،[2] أو يُركزون على غياب الديناميّة وانتشار الجمود في مؤسّسات الدَّولة (Mercuri and Romano 2017).[3] ويذهب البعض إلى خلاصة مفادها أنّ ليبيا هي خير مثال لـ”الدولة الفاشلة” (Laessing 2020).[4]

وتجدر الإشارة هنا إلى كتاب علي عبد اللطيف أحمِدة (“اختراع ليبيا الحديثة”، 1994) [5] والذي يختلف كثيرًا عن هذه التحليلات، وذلك لأنه، مثل كاباسّو، يُركَّز على الديناميّات الدَّاخلية، لكنّه ينحصر فقط بفترة الاستعمار. في هذه المقالة، سأستعرض النقاط الرئيسيّة لكتاب كاباسّو، وأعرض بعض الأفكار حولها.

***

كتاب ماتيو كاباسّو مليءٌ بالمعلومات القيّمة عن التَّاريخ الليبي الحديث، ولقد شعرتُ ببعض الخجل من جهلي بها. سألتُ بعض الزملاء العرب والإيطاليين عن مدى معرفتهم بالتَّاريخ الإقليمي لدولهم من خلال مناهج تعليمهم العام في بلادهم، فكانت إجابتهم أنها تتضمَّن القليل جدًا من المعلومات. وهو ما يحدث أيضًا في بلدي المغرب، إذْ أن المناهج الدِّراسية تحتشد بالكثير من المعلومات المفصَّلة عن السُّلالات الملكية التي حكمت وتحكم البلاد، ولا تذكر شيئًا، مثلاً، عن أهل الريف ومقاومتهم للإستعمار الإسباني أو الفرنسي، أو واقعهم تحت الحكم الملكي الحالي. وتملي علينا هذه المناهج تفاصيل جمهوريات فرنسا الخمس، بينما لا تُعلّمنّا شيئًا عن ثورة الفاتح في ليبيا في سنة 1969، ناهيك عن حركة الضُّباط الأحرار في مصر في سنة 1952 إلخ. ومن ناحية أخرى، تعجّ بما يسمى بالمعلومات السلبية، مثل دعم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لجبهة البوليساريو ضد الملك الرَّاحل الحسن الثَّاني، وتستخدمها لتأجيج المشاعر المعادية لليبيا.

ويشمل كتاب كاباسّو أيضاً المبررات التي ساقها النِّظام الغربي لتدمير ليبيا والتي بُنيت وفق قناعة أنّها دولة فاشلة واستبداديّة، وأنّها تعمل ضد مصالح الغرب. تتَّضح لنا هذه الخلاصة اليوم بصورة جليِّة، في ليبيا وغير ليبيا، مع مشاهد تخريب الغرب للوطن العربي، دولة بعد دولة، مباشرةً أم عبر وكلائه. في هذا الإطار، نجد كباسّو يُقارب التَّفاصيل، مثل تفجير طائرة لوكربي (Lockerbie) فوق اسكتلندا سنة 1988 والهجوم بالقنابل على ديسكو لا بيل (La Belle Discotheque) في برلين سنة 1986، وهما هجومان تمّ اتّهام ليبيا بالتخطيط لهما. ويستعرض أيضاً عملية إلدورادو كانيون (El Dorado Canyon Operation) التي نفّذتها أمريكا سنة 1986 لقتل معمّر القذافي، حيث أنها تُجسِّد الرَّغبة الشَّديدة لدى الغرب بمعاقبة ليبيا برغم النَّقص الهائل في الأدلِّة التي تدعم فرضية تورّطها.

لقد كشف كاباسّو، وأنا أستخدم كلماته هنا، عن “حرص الولايات المتَّحدة على اللِّجوء إلى استخدام العنف العسكري ضد النِّظام الليبي، سواء بوجود دليل ملموس أو من دونه” (ص. 33). وهذا تصريح ذو معنى واضح، وينطبق على حالات كثيرة في المنطقة، كما رأينا مع العنف الأمريكي (مباشرةً أم عبر وكلاء أمريكا) في العراق وسوريا واليمن و..، وأخيرًا وليس آخرًا في فلسطين.

ويستعرض كاباسّو أيضاً “جنون” القذافي، وكنت أتساءل أثناء قراءتي للكتاب عن مقدار العنف الذي مارسه ضد المعارضة، وبخاصة ضد من أسماهم بـ”الزَّنادقة الإسلاميين”، ليتبين لنا وجود تناقض في زعم القذافي أنّه كان مناهضاً لهيمنة الغرب بينما موقفه من شعبه هو صورة طبق الأصل عن الموقف الغربي المعادي للإسلام والمسلمين عامّةً (الإسلاموفوبيا) والذي يستحوذ على صنّاع القرار والنظرة الشعبيّة الغربيّة وبعض النخب العربيّة.

في هذا الإطار، يُخبرنا الكاتب أيضًا عن التهكّم الإعلامي الغربي على زيارة القذافي لروما سنة 2009، حين طالب أن يجتمع بـ 700 امرأة إيطالية. بينما في الواقع، كان طلبه ردّة فعل على زيارة الديكتاتور الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني لليبيا سنة 1937 ورغبته بملاقاة 300 امرأة ليبية (ص. 64-65)، وهي حقيقة تجاهلها الإعلام الغربي.

***

ماتيو كاباسو

من النقاط المهمّة التي تطرّق لها كاباسّو، في كتابه، انتشار النَّزعة الاستهلاكية في ليبيا، وهي حالة منتشرة عالميًّا، وذكّرتني ببعض ما كنت أسمعه في صغري في المغرب أنّ “المساكين في ليبيا ليس لديهم “كوكا كولا” أو “ماكدونالدز”، والتي كانت تقال بطريقة تُفصح عن تهكُّم شديد. ويستعرض أيضاً لنموذج سرت سنة 1999 وأهميّته في المطالبة بإلغاء ديون البلدان الإفريقية، وهو مطلب منطقي يتم تجنُّبه حتى اليوم.

كان نَّموذج سرت من الجهود الرائدة التي هدفت لخلق عالم متعدِّد الأقطاب، وأتساءل عن سبب فشله. من دون شك، هذا موضوع يجب تسليط الضُّوء عليه أكثر، لكن أهميّة كاباسو أنّه بمعالجته لهذا الموضوع كشف عن الازدواجية والتناقضات في ليبيا، من حيث السَّعي المُلح للتمسُّك، من جهة، بقيِّم الثَّورة ومعاداة الإمبريالية وخلق دولة الرَّفاهية، ومن جهة أخرى، الطموح بأن تصبح طرابلس مثل دبي (وليس مصر). هنا نرى بوضوح كيف تخبّط نظام القذّافي في حلم الحداثة الرَّأسمالية ضمن المشروع العموم-إفريقي. ويُمكن أن نقارن ذلك مع ما يحصل الآن في المغرب لتولِّي هذا الدَّور القيادي الإقليمي، تَحديداً كمجتمع استهلاكي يتمكّن من خلاله أثرياء السنغال وموريتانيا والغابون و.. من القدوم للتَّسوُّق في الدَّار البيضاء ومراكش و..، كنسخ مصغَّرة عن دبي، بينما تتعمّق المشاكل الداخليّة نتيجة لهذا الدور.

إقرأ على موقع 180  "نهاية معاهدة لوزان".. وهمُ العوام والأنتلجنسيا

في هذا المجال، أعجبني وصف كاباسّو للحياة اليومية في ليبيا، وكيف أضاف عنصراً مهمّاً إلى الأدبيات التي تنحصر نظرتها إلى السِّياسة باعتبارها أموراً تخص الدولة فقط (بنية الدَّولة، صانعو السِّياسات، إلخ..)، بينما هو يعتبر هذه الحصرية نوعاً من التعدي على الحياة وديناميّات البناء من القاعدة إلى القمة.

وأريد أن أشير هنا إلى التَّحليلات التي قام بها كاباسّو والتي قارنت بين ارتفاع منسوب توقَّعات النَّاس للحياة في ليبيا في مقابل العجز عن تحقيقها في الواقع، الأمر الذي سببّ خيبات أمل عديدة؛ هذا موضوع شائك واجهته في كتابي عندما درست مطالب الثُّوار في مصر أثناء انتفاضة 2011.[6] وفي هذا الخصوص، تطرّق كاباسّو إلى تحايل بعض النَّاس من أجل الحفاظ على مصالحهم الضيقّة، فهناك، كما يقول، “الجُّرذان” الذين يعملون بذكاء بما يكفي لاستمرارهم، لكن ضد مصالح الشَّعب، في حين أن “الطَّحالب” لا يعملون بتاتًا، ولكن يمتصَّون رزقهم من موارد النِّظام بدون إضافة أي فائدة تُذكر. وهذا يعني أنّهم ليسوا حقّاً مع النظام أو ضدّه، بل هم يقاربون الواقع حسب ما تتطلّبه المرحلة و/أو مصالحهم. وضحكتُ بشدة عند قراءتي قصة المعلِّم الليبي الذي سأل تلاميذه عن اسم حيوان يطير، فأجابه أحدهم: “الفيل”. ردّ المعلِّم: “الفيلة لا تطير، ما اسمك؟” فأجاب التِّلميذ: “سيف الدين القذافي”. فقال الاستاذ: “بلى، الفيلة تطير” (ص. 142)!

***

الطريف في كتاب ماتيو كاباسّو أنّه يعترف بالحساسيّات التي تسبّب بها قيام رجل أبيض، تحديداً إيطالي، بإجراء بحث أكاديمي في مستعمرة إيطاليّة سابقة. هذه الحساسيّات والشِّكوك التي تنتج عنها لها ما يُبرّرها. يقول كاباسّو، في هذا الصَّدد، إنّه كان يُصارح من تحدَّث إليهم بأنّه ضد سياسات الغرب الإمبريالية، وأنه لا يشتغل مع منظَّمات حكومية، وليس جاسوسًا، كما قد يتبادر إلى أذهانهم. كنت أتساءل عمَّا إذا كان كاباسّو استشعر وجود تفسيرات مزدوجة أو متناقضة رداً على استفساراته البحثية والإجابات التي حصل عليها؟ أقول هذا لأنه، وأثناء إجراء بحثي عن متطلَّبات الكرامة في مصر، كامرأة مغربية شابة آنذاك، شعرت في الكثير من الأحيان أنه بالإضافة إلى الإجابات على أسئلة بحثي، حصلتُ أيضًا على تعليقات أخوية و/أو أبوية حسنة النَّية حول ما يجب عليّ أن أفعله.

ويصح القول إنّ شكوك كاباسّو قادته إلى الإعتماد على مقابلات أجراها مع ليبيّين يعيشون في مجتمعات الشَّتات أكثر من تلك التي أجراها مع السكَّان المحلِّيين. هذا عامل شائك من الصعب تجاوزه في دول ينتشر فيها عمل المخابرات أو تمرّ بمرحلة حرجة تجعل الناس العاديّين متردّدين في الخوض في أمور السياسة بشكل مفتوح.

ويبقى السؤال يتعلّق بالتقنيات التي انتهجها من أجل اختيار محدّثيه والأسئلة التي طرحها عليهم؟ أقول هذا لأنني أجد أن اختيار الأشخاص والمواضيع لإجراء المقابلات عملية معقّدة ومليئة بالتَّحدِّيات ويمكن أن تكون منحازة (عن قصد أم غير قصد)، خصوصاً فيما يتعلّق باستباقها للأجوبة وتوجيهها نحو النتائج المرجوّة.

في الخلاصة، كتاب ماتيو كاباسّو مصدر مفيد وأساسي لدارسي السِّياسة في منطقة الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا والموضوعات ذات الصِّلة، ويجب الإستفادة منه.

(*) أتقدم بالشكر لزميلي العزيز الأستاذ مصطفى آدم على مراجعة المقالة من بعدي).

المراجع:

[1] Matteo Capasso, Everyday Politics in the Libyan Arab Jamahiriya (New York: Syracuse University Press, 2022).

[2] Jason Pack (ed.), The 2011 Libyan Uprisings and the Struggle for a Post-Qadhafi Future (New York: Palgrave Macmillian, 2014).

[3] Michela Mercuri and Sergio Romano, Incognita Libia. Gronache di un Paese Sospeso (Milano: Franco Angeli, 2017).

[4] Ulf Laessing, Understanding Libya since Gaddafi (London: Hurst, 2020).

[5] Ali Abdullatif Ahmida, The Making of Modern Libya: State Formation, Colonization and Resistance (New York: SUNY Press, 1994).

[6] Zaynab El Bernoussi, Dignity in the Egyptian Revolution: Protest and Demand in the Arab Uprisings (Cambridge: Cambridge University Press, 2021).

Print Friendly, PDF & Email
زينب البرنوصي

باحثة مغربية وأستاذة جامعية تُدرّس في الشارقة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  فرنسا تشهر سيف المواجهة مع تركيا في ليبيا... طموحات وخيبات