في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، وفي بيروت أيضًا، حصل ما هو أغرب وأكثر جرأة. فلم تكد المقاومة توّقع على إتفاقية القهر في 27 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024، حتى حضّر الناقمون أنفسهم وأعدّوا “أوراقهم الإنقاذية” التي لا تشي سوى برائحة سياسية مقيتة، بعد إبادات غزة ولبنان؛ أوراقٌ تصلح لنص إنشائي في مدرسة إبتدائيّة، أين منها “قوة لبنان في ضعفه” التي صارت نكتة سمِجة، إضافة إلى الشفافيّة وتسليم السلاح ونشر الجيش والعودة إلى هدنة العام 1949 والتلسيم بسورية مزارع شبعا والحرية والسلام والعبور إلى الدولة وضبط الحدود وجمع السلاح وتنفيذ القرار 1559 وإعادة الطائفة الشيعيّة إلى الدولة إلخ.. من التعبيرات الممجوجة التي تُضمر، في ما تُضمر، رغبة بالانقضاض على الفريسة، كأن من يلهجون بها يتناسون أن هناك شريحة وازنة ما تزال على قيد الحياة.. وأن خياراتها ثابتة.
ولو قرّرنا تفنيد مقولات هذه الفِرَق السيادية التي تتناوب على تقديم أوراق الإعتماد صُبحاً ومساءً، لأمكن قول الآتي:
نحن لا ننظر إلى الطالب بل إلى المطلوب. فإذا قرأنا كلّ هذا الطلبات مجرد قراءة سطحية نسأل مباشرة عن المُستفيد، فلا نجد إلا إسرائيل. فكيف تسمحون لأنفسكم أن تطلبوا ما تطلبه إسرائيل لنا؟
أما القرارات الأمميّة فإسرائيل أول من انتهكها وأول من داسها من خلال المجازر والإبادات التي ارتكبتها منذ الثامن من أكتوبر(تشرين الأول) من العام 2023، عدا عن مجازرها في الجنوب وبيروت والشمال والبقاع.
وماذا عن سيرة المؤسسات الأمميّة التي تناشدونها؟ لقد مزّق نتنياهو ميثاق الأمم المتحدة من على أعلى منبر أمميّ وأمام العالم أجمع وقرّر توقيع أمر تنفيذ إغتيال سياسي لقائد لبناني وعربي وإسلامي من داخل أروقة الأمم المتحدة.
ومنذ اعلان وقف اطلاق النار في لبنان، أي منذ نحو 40 يوماً وإسرائيل تنتهك السيادة اللبنانيّة وتقتل وتقصف وتحتل وتنسف وتدمر ولم تتحرّك الأمم المتحدة ولا لجنة المراقبة ولا الحكومة اللبنانيّة ولا أنتم.
ومنذ عشرات السنوات تخطف إسرائيل وتأسر ولم تتحرّك الأمم ولا الدول ولا “أنتم”، عدا عن الغياب التام للأنظمة العربيّة التي تُغمض عينيها عن كلّ ما يجري في المنطقة منذ 500 يوم تقريبًا، في ظلّ صمت عربي وغربي مُطبق غير مُستغرب، لكن المُستغرب هو عدم تغيير منهجيّة تفكير أيًّ من القوى المحليّة، لا بل وصل بهم الأمر للشماتة بالدمار والشهداء والخسارات. هل أنتم مع انكسار شريحة اسمها المقاومة ـ اللبنانيّة الهوية، وألا تتماهون بذلك مع المواقف المُعادية للبنان؟
***
أن يتغيّر الوضع السياسيّ الإقليميّ أو الدولي، هذا ليس بالأمر الجديد، ولقد كنا شهوداً على تراجع المقاومة الفلسطينية ذات التوّجه اليساري، وقابلها صعود الإسلام السياسيّ غداة انتصار الثورة الإيرانية، الأمر الذي غذّى المقاومة من جديد، وأعاد للقضيّة رونقها، ومع قرار تنظيمات “إخوانية” مثل حركة “حماس” بالانخراط المُباشر في المقاومة اكتمل العقد المقاوم، فكان لِزامًا على أيّ فريق مُجاهد أن يتمسك بالدعم الخارجي سواء أتى من السوريّ أو الإيراني أو السوفياتي أو اليمني أو الجزائري أو الليبي أو الكوبي أو الفنزويلي..
أشعر عندما أسمع أحد منظرّيهم على الشاشات يُطلق كلامه الطفولّي أن بُعد نظرهم لا يتعدّى الأمتار القليلة، فهم لا يدعُون إلى محاسبة من عاثوا فساداً وإفساداً وسرقات، منذ مطلع التسعينيات حتى يومنا هذا. كلُّ الفساد، برأي هؤلاء المستجدين، مسؤولية أخصامهم، أما نوابهم ووزراءهم وقادتهم فطُهر الملائكة بات مُمثلاً بهم، لكن السؤال وماذا عن الاحتماء طيلة عهدكم بالنظام السوري البائد: لماذا كان البلد مُفلسا وهابطًا ومُعدمًا، ومن يتحمل مسؤولية مزراب تمويل الإنفاق غير المجدي من جيبة اللبنانيين وصولاً إلى الهندسات المالية التي مثّلت رصاصة الرحمة في بنيان اقتصادي قائم على الفساد والزبائنية والمحسوبية.
وصل فسادكم يا جماعة المُهادنة إلى السيادة الوطنيّة، فسَميّتم أنفسكم الخط “السيّادي” وأنتم على العكس منه تمامًا تنادون بالمُهادنة وتدعون لها، وتلتزمون الصمت حيال الاعتداءات الإسرائيليّة، وناديتم برفض التدّخل الإيراني الخارجي، لكنكم سعيتم لدى السعودية وفرنسا وأميركا وقطر وكل من لفّ لفكم من دعاة التطبيع، وناديتم بالسلام والسكوت عن حصار غزة وتجويع أهلها.
لم أجد من مفاهيمكم، التي ترغبون بتسييدها على من يُخالفكم الرأي، سوى أنكم ترفضون سلطة ولاية الفقيه “الدينيّة”، وهذا ـ وإن كان مطلبًا صحيحًا ـ إلا أنكم بسلوككم لا تتماهون إلا مع أتباع ولاية “الفقيه الأخضر” (الدولار)..
أنتم رفضتم السيطرة الأمنيّة للثنائي على القضاء اللبناني، لكن وحسب رأي الكثيرين أنتم تكيلون الاتهامات للطرف المُعادي لكم دون أي تحقيق، بل إنّ مجرد وقوع حادث أمنيّ تتوجه الاتهامات إلى الفريق النقيض لكم. من تفجير مرفأ بيروت إلى سلسلة اغتيالات غير معروف من ارتكبها إلى يومنا هذا. أنتم تنفون نفياً قاطعاً شبهة أن تكون لإسرائيل أية مسؤولية في ظلّ استباحتها للجو والأرض والبحر.
صحيح أن الميزان “طابش” لمصلحتكم، نظرًا لقوّة المال والإعلام والنفوذ، لكن الحق دوماً ينتصر. من هنا المواجهة كبيرة والمصاعب أكبر، لكن هذا لا يعني أن فجوركم الاعلامي يُغيّر الحقائق. فظلم آل الأسد لمواطنيهم السوريين لا يمنع من أن المقاومة استفادت من طريق سوريا للتجهيز والتسليح والتدريب. وإن كانت إيران تفرض الحجاب على نسائها فهذا لا يعني أن دعم إيران للمقاومة هو دعم شائن. وإن كان النظام الإيراني هو نظامٌ دينيٌ، فهذا لا يتعارض مع أحقيّة المقاومة.
***
خطابُ هذه المجموعات السيادوية الطارئة هو خطاب خشبي، نمطيّ، حاقد، أعمى، كريه، خفيف، لا بل مدّعٍ، ومتناقض. يدعون إلى السلام، وهم منساقون خانعون، يدعون للحرية وهم ممسوكون بحبل المالٍ الخليجي. هم أحرار فقط في شتم المقاومة. هم يدّعون الحرية، ولكنهم عملياً ضد الحرية من خلال صمتهم عن العدوان الخليجي على اليمن وتجويع شعبه، والصمت المُخزي حيال تجويع غزة وحصار أهلها.
لم يكونوا يومًا وطنيين، بلّ كان خطابهم مبنياً على املاءات الخارج: (شوفينيي يا منيرة). فلم يحترموا يومًا عقل الناس، كونهم قلة بائسة كارهة للآخر، حاقدة، تعتبر الآخر المُختلف أقلّ درجة، وهي تربية ترى الآخر خادماً لها. هذه الفوقيّة كسرتها المقاومة التي قدّمت الشباب المُتخصص، المُثقف، المُطلّع، المُفكر، والأكاديمي.
كانوا ينتظرون دومًا تعليقات جمهور المقاومة القاسي على حدث هنا وحادثة هناك، من أجل الترويج لسلميّتهم الكاذبة، لكنهم اليوم يتقبلّون “النصرة” و”هيئة تحرير الشام” ويسافرون للقاء من قاتل الجيش اللبناني وقتل عناصره؛ حجّوا إليه قطعانا وفرادى، مُستسلمين، صاغرين مُقدّمين الولاء بين يديه من دون أيّ ترقب للقادم من الأيام..
نعم، الورثة اللبنانيون كُثر، ولقد هرولوا محاولين وراثة “الثنائي الشيعي”، فور استشهاد سماحة السيد حسن نصرالله، ولم يكلفوا أنفسهم عناء انتظار حتى إجراءات التشييع، في خروج تام على عادات وتقاليد القبائل والعشائر العربية.
***
مات أهل غزة ودُفنوا جوعَى، لكن العرب لم يتمكنّوا من ادخال رغيف خبز لهم. وهم من دخل بلهفة إلى “سوريا الجديدة” للتبريك، هذه الـ”سوريا الجديدة” التي تغاضّت عن الإحتلال الصهيوني، والاعتدءات المُتكررة على البلاد.
تناقضٌ لا يحلّه إلا لغز واحد هو أن ما تريده واشنطن يسير في طول البلاد العربية “الغافلة” وعَرضَها.