أولًا؛ إن الفصل ليس ممكنًا بين حربى غزة ولبنان، باعتبار أن «استراتيجية وحدة الساحات» هى الناظمة لهذا الارتباط. إن قرار الحرب والسلم أو تحديدًا غياب الحرب بيد أصحاب هذه الاستراتيجية أساسًا، وهم بالتالى القادرون على تفعيلها أو وقفها. ولا بد من التذكير أنه برغم الانقسام الأهلى والسياسى فى لبنان حول استراتيجية الانخراط فى الحرب، نظرًا للمخاطر الكبيرة التى تحملها على لبنان، فهنالك إجماع وطنى، وهو أمر طبيعى، على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، لكن دون «التورط» فى الحرب، التى تبدو أنها مفتوحة فى الزمان وفى المكان.
ثانيًا؛ إن الحرب الإسرائيلية على لبنان لم تعد فقط محصورة فى الجغرافيا الجنوبية بل تمددت حتى وصلت إلى العمق السورى كثافة، كما تدل على ذلك الضربات الإسرائيلية ضد ما تعتبره أهداف استراتيجية ذات علاقة مباشرة بالحرب الدائرة على الجبهة اللبنانية. كما تشهد هذه الحرب تطورًا فى قواعد الاشتباك تلافيًا حتى الآن للانزلاق نحو حرب مفتوحة، كما حذر الكثيرون مرارًا. لكن هذا الانزلاق يبقى قائمًا، وتتزايد احتمالاته مع الوقت، طالما يتسارع تصعيد الحرب فى الجغرافيا والأهداف والقوة النارية.
ثالثًا؛ إن احتمالات الوقف الكلى للحرب على غزة شبه معدومة، دون أن يعنى ذلك عدم التوصل إلى «هدنة إنسانية» أو مؤقتة، قد تؤدى لاحقًا إلى مسار نزاعى مفتوح على كل الاحتمالات، يحكمه منطق التخفيض والتصعيد فى الحرب. فوقف الحرب الإسرائيلية ذات الأهداف المرتفعة جدًا وغير الممكن تحقيقها لا يمكن أن يتم دون ضغوطات، وليس مناشدات، دولية فاعلة من الأطراف القادرة والمؤثرة بالقرار الإسرائيلى. يساعد على ذلك دون شك ازدياد الأزمة الداخلية الإسرائيلية السياسية والاقتصادية حدة. لكن ذلك لا يكفى من وجهة النظر الإسرائيلية لوقف الحرب على الجبهة اللبنانية، كما تقول إسرائيل إذ تريد، أن تغير الوضع الذى كان قائما على الحدود مع لبنان حتى السابع من أكتوبر الماضى. هنالك نوع من الفصل بين الجبهتين فى المنظور الإسرائيلى. الأمر الذى يعنى عمليًا «التفاوض على الأرض» عبر القتال للتفاوض عبر الوسطاء إلى صيغة تفاهم جديدة، دون الاعتراف بذلك حاليًا، تنظم الوضع على الحدود. نذكر دائمًا فى هذا الصدد بتفاهم نيسان للعام ١٩٩٦ برغم تغير الظروف بعد التحرير في العام ألفين. لكن القواعد والسلوكيات التفاوضية الناظمة لتفاهمات من هذا النوع تبقى متشابهة.
التحدى اليوم ألا ننتظر اليوم التالى بل نقوم عشية هذا اليوم التالى الذى لا ندرى متى سيأتى بتحصين «البيت الداخلى» حتى نستطيع أن نواكب ونتعامل بفعالية كدولة مع التحديات القائمة والقادمة فى الإقليم، والتى لا يعرف أحد حجمها وتداعياتها وانعكاساتها
الركون فى لبنان عمليًا، ضمن منطق يمكن وصفه بالقدرية السياسية، مغطى بشعارات ودعوات وتمنيات مختلفة، إلى سياسة الانتظار المفتوح فى الزمان، إلى «اليوم التالى»، ولا يدرك أحد متى سيكون اليوم التالى أو كيف سيكون الوضع فى اليوم التالى، للانتهاء من حالة الفراغ الحاصل فى السلطة يشكل خطرًا ذات تداعيات كبيرة على لبنان مجتمعا ودولة. فبين من يدعو إلى حوار نيابى لانتخاب رئيس من جهة ضمن مسار انتخابى معين ومحدد ومن يتخوف من جهة أخرى من الإطار السياسى القائم على توازن القوى على الأرض وطبيعة التحالفات القائمة والمتغيرة، لممارسة الهروب إلى الأمام بانتظار اليوم التالى، كل ذلك يسهم فى تكريس الجمود القاتل ولعبة الهروب إلى الأمام التى لن توفر فى المستقبل الأمان الوطنى المطلوب.
صحيح أن تاريخ الحروب والأزمات اللبنانية خلق نوعًا من الاعتماد الكلى على تفاهم الخارج ولو تغيرت بعض أطرافه وكذلك عناوين الصراع، إلا أن طبيعة اللعبة لا تتغير. المشكلة اليوم مقارنة مع الماضى أن هنالك حاجة قصوى للتفاهم الداخلى على مواجهة التحديات الداخلية التى تدفع لبنان للتحول إلى دولة فاشلة إذا لم يتم الإصلاح الهيكلى المطلوب فى الشئون المالية والاقتصادية والسياسية والإدارية. تقارير وتوصيات البنك الدولى وصندوق النقد الدولى إلى جانب دراسات عديدة لاختصاصيين لبنانيين وغيرهم كلها تجمع على ضرورة الإصلاح الهيكلى الشامل ولو اختلفت فى تحديد الأولويات أحيانا: الإصلاح الذى تزداد صعوباته وتعقيداته وتكلفته مع الوقت. تسوية «الخارج» تؤجل انفجار الداخل التى هى بحاجة إلى معالجة المسببات الداخلية. تسوية الخارج تنتهى أو تضعف، كما رأينا سابقًا فى مرات عديدة عندما تضعف التفاهمات التى أنتجتها أو عندما تسقط هذه التفاهمات المرتبطة بتوازنات وأولويات خارجية متغيرة عند القوى المعنية.
التحدى اليوم ألا ننتظر اليوم التالى بل نقوم عشية هذا اليوم التالى الذى لا ندرى متى سيأتى بتحصين «البيت الداخلى» حتى نستطيع أن نواكب ونتعامل بفعالية كدولة مع التحديات القائمة والقادمة فى الإقليم، والتى لا يعرف أحد حجمها وتداعياتها وانعكاساتها.
التحدى يكمن فى أن نقوم بحوار شامل وهادف. نتفق فى هذا «الوقت الضائع»، حتى لا يبقى ضائعًا على برنامج إصلاح هيكلى شامل وتدريجى يكون ثمرة لحوار فعلى بين المكونات السياسية المختلفة وعلى انتخاب رئيس ووضع الأسس والتوافقات لتشكيل «حكومة مهمة» لترجمة هذا التوافق ولتكون السلطة الجديدة، رئيسًا ومعه «حكومة مهمة»، مسئولة عن تنفيذ هذا البرنامج الإصلاحى ولقيادة السفينة اللبنانية فى ظل العواصف القائمة والقادمة نحو بر الأمان.
(*) بالتزامن مع “الشروق“