“لغز الإسلام” المزعوم.. من هو “مُحمّد الحقيقيّ”؟ (2)

صحراء.. أو شبه صحراء: من المعلومات والأدلّة "المقبولة علميّاً". بهذا، أو بما يشبهه، يصف أصدقاء وزملاء باتريسيا كرون، وغيرهم من أهل المدارس التّصحيحيّة الحديثة إذن.. هكذا يصفون المعلومات والأدلّة التّاريخيّة "العلميّة" المتوفّرة عن حياةِ "مُحمّدٍ النّبيّ العربيّ"؛ خصوصاً عن أوّل هذه الحياة. فهل يُبالغون واقعاً؟

يسأل بعض هؤلاء عادةً، خصوصاً بعد نشر وانتشار كتاب وفرضيّة “الهاجريّة” في أواخر سبعينيّات القرن المنصرم: لماذا هذه النّدرة الظّاهرة في “المصادر” الدّقيقة المُعتَبَرة حول سيرة هذه الشّخصيّة التي تُعدّ عادةً وفي المبدأ.. محوريّةً تماماً، بل على أنّها هي المحور ربّما في تاريخ العالَمين العربيّ والاسلاميّ؟ لماذا هذه النّدرة؟ بل لماذا هذا الصّمت “المُريب” بحسب بعض هؤلاء؟

***

هل هناك “مؤامرة تاريخيّة” مُعيّنة قد حِيكت في لحظة من لحظات “التّاريخ الحقيقيّ” كما يصفه البعض؟ هل يجب اتّهام من يُسمَّون عادةً ببني العبّاس أو بالعبّاسيّيّن، تحديداً، بهذه المؤامرة؟ ألم يتمّ بناء هذه “السّرديّة المُحَمّديّة” تحت حُكمهم، بل تحت أمرهم، في الأعمّ الأغلب؟

هل “اخترع” الحُكم العبّاسيّ (من منتصف القرن الثّامن الميلاديّ – إلى منتصف القرن الثالث عشر تقريباً).. هذه السّرديّة وغيرها من السّرديّات، التي سُمّيت، إذن، ولاحقاً.. “بالإسلاميّة”؟

***

قد يتجرّأ بعض هؤلاء أكثر من ذلك. فيقول، وهو لم يزل يقول وبوضوح أكثر فأكثر، مستنداً في أحيان كثيرة على اعتقاد عدد من العلماء المعاصرين بـ”نصرانيّة” معاوية بن أبي سفيان بناءً على نقوش وأدلّة أخرى “مُريبة” من عصره.. يقول بعض هؤلاء إذن: ماذا لو أنّ بني العبّاس قد “اخترعوا” هذا الديّن من أساسه؟

ماذا لو كانت الفرضيّة الهاجريّة صحيحةً في بعض جوانبها التّصحيحيّة؛ وإلى حدّها البعيد.. أو إلى حدّها الأبعد؟

أي؛ ماذا لو أنّ الفاتِحين العَرَب الأوائل – أو الفاتِحين الهاجريّين نسبةً إلى هاجر زوجة إبراهيم إذن، أو الاسماعيليّين نسبةً إلى ابن هذا الأخير المعروف في التّراث التّوراتيّ-الاسرائيليّ-اليهوديّ، أو السّراسِنة (Les Sarrasins)، أو الطّاويّين-الطّواوي كما تصفهم بعض الآثار السّريانيّة-المسيحيّة المكتشفة حديثاً..

ماذا لو كان هؤلاء الفاتحون العرب إذن – الفاتحون لبلاد الشّام بشكل خاصّ – مُجرّد فرقة من الفرق التي كانت تدّعي، في ذلك الزّمان، أنّها يهوديّة-نصرانيّة (وربّما مسيحيّة).. أي ماذا لو لم يأتوا حقيقةً بأيّ دِين جديد في البدايات، قبل أن تقوم الماكينة العبّاسيّة، لاحقاً، بالعمل المُمنهج على انشاء وبناء وكتابة ورسم هذا الديّن الجديد أي “الإسلام” (و”سيرة” نبيّه طبعاً)؟

(وذلك على يد عدد من العلماء الخراسانيّين بالمناسبة وبشكل أساسيّ كما يشير أو يذكّر البعض.. ممّا جعل عدداً من الباحثين يشكّ في كون بني العبّاس هؤلاء: ليسوا شيئاً آخر سوى عائلة فارسيّة-ايرانيّة واقعاً جاءت لتحكم المنطقة، بانيةً لسرديّة روحيّة-تاريخيّة كاملة، بهدف تشريع سلطتها ولو على أساس نَسَبٍ عربيٍّ هاشميٍّ قُريشيٍّ مزعوم[1]!).

لو صحّ ذلك بالتّالي، حتّى في مجرّد خطوطه العريضة.. لكان “اللّغزُ المحمّديّ” (المزعوم) سهلَ الفهم إذن. مع التّبسيط:

(١) فإمّا أن يكون “مُحمّدٌ” مجرّدَ شخصيّة خياليّة-رمزيّة، تمّ بناؤها – لاحقاً – من أجل تثبيت السّرديّة العبّاسيّة هذه (العبّاسيّة.. بشكل أساسيّ إذن، مع “مساهمات” أمويّة قبلها طبعاً)[2]؛

(٢) أو أن يكون “مُحمّدٌ” هو مجرّد قائدٍ سياسيّ-عسكريّ، ربّما عربيّ، دخل هو أو خلفاؤه إلى بلاد الشّام.. على أساس سياسيّ-عسكريّ-اقتصاديّ. ثمّ قامت الماكينة العبّاسيّة – لاحقاً – بترميزه من خلال جعله “محمّد بن عبد الله، النّبيّ العربيّ، رسول الله”[3].

لن أطيل على القارئ أكثر لكن أعتقد أنّ الصّورة السّابقة تختصر جُلّ القضيّة بعيون معاصرة، وجوهر الاشكاليّة والنّقاش العلميَّين.. أو شبه العلميَّين المُعاصرَين.

***

لنتعمّق قليلاً في بعض الأسئلة الأساسيّة التي تشغل بال الباحثين المذكورين أو غيرهم إذن، لا سيّما من بين النّقديّين والتّصحيحيّين أجمَعين.. وخصوصاً في السّنوات القليلة الأخيرة:

  • لماذا لم تُكتب السّيرة، ولو بطرق جزئيّة ومتفرّقة، لكن أكثر قوّة توثيقيّة ولو بحدّ أدنى.. إلّا بعد ١٣٠ إلى ١٥٠ سنة – أقلّه – على وفاة “النّبيّ الأمّيّ”؟ بحسب هؤلاء إذن، هل يُمكن أن تبقى سيرة رجل كهذا.. شفهيّة كلّ هذه المدّة، وبعد أن أصبح للفاتِحين “الهاجريّين” امبراطوريّة عظمى بمعنى ذلك الزّمان؟
  • لماذا لا نملك، إلى اليوم، أدلّة أركيولوجيّة كافية ووافية حول سيرة مُحمّد بن عبدالله، لا سيّما قبل بداية “دعوته”؟
  • لماذا يقول ابن هشام (بداية العصر العبّاسيّ)، كما هو معلوم، إنّه نقل عن ابن إسحاق (نهاية العصر الأمويّ)، مع تصحيحات أو تنقيحات أو خيارات مُعيّنة.. في حين أنّه لا أثر – حتّى الآن – لمخطوطة مُعتبرة تاريخيّاً “لسيرة ابن إسحاق” هذه؟ ماذا “حذف” ابن هشام أو ماذا “أضاف” أيضاً ولماذا.. كما يقول بعضهم؟
  • يقول بعضهم أيضاً: هل قام ابن هشام بحذف – أو بتعديل – مُدّعىً كهذا.. لقربه من الحُكم العبّاسيّ الجديد؟ أليس هو بنفسه.. الذي يولّد هذا الشّكّ من خلال ما يصفه حول منهجيّة كتابته للسّيرة (أنظر أعلاه)؟
  • لماذا لا نملك مخطوطات كافية، ونقوشاً ومواد أثريّة أخرى مُعتبرة وكَافية.. وما إلى ذلك: تذكر “محمّد بن عبدالله” و”وجوده” بشكل واضح؟ وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الخليفة الأوّل المزعوم أيضاً حسب رأي بعضهم: أي حول أبي بكر بن أبي قحافة. وكذلك حول عمر وعثمان.. وصولاً إلى عليّ وغيره من أهل بيت محمّد، وصحبه وأقاربه.. من العَرَب ومن قُريش ومن الأَوس ومن الخَزرج أجمَعين؟
  • بمعزل عن الحكّام العرب الجُدد أنفسهم، وبشكل أعمّ: هل تنتظرُ أمّةٌ كاملة، وهي في عزّها وفي شبابها وعلى كلّ المستويات.. هل تنتظر قرابة الـ٢٠٠ سنة لكي تُوثّق حياة مؤسّسها ورمزها؟ (لا أعتقد أنّ هذه حجّة قويّة بالمناسبة.. نظراً لعادات تلك العصور، وخصوصاً بالنّظر إلى الثّقافة البدويّة أو ذات التّأثير البدويّ القويّ)؛
  • ويُضيف البعض: ثمّ ما السّرّ وراء هذه التّناقضات الكبيرة، ووراء بعض “الخرافات” والقصص التي يكاد لا يُصدّقها عقل.. الموجودة كلّها داخل كتب “التّأريخ الاسلاميّ التّقليديّ”؟ كما نعلم جميعاً: حول نفس الحادثة “التّاريخيّة”، يُمكنك أن تجد في التّراث نفسه.. عدّة روايات، تختلف أحياناً بشكل كبير بل ومثير للعجب! هل يُمكن الاعتماد على “تراث تأريخيّ ونقليّ” كهذا؟ هل يُمكن تصديقه؟ وإذا أجبنا بالنّفيّ.. فمن أو ماذا نُصدّق إذن؟
  • أخيراً وليس آخراً: بالطّبع، يطرح البعض أيضاً تساؤلات يعتقدون أنّها جوهريّة حول القضيّة الشّائكة الكُبرى ربّما في ما يخصّ التّراث النّقليّ الاسلاميّ.. وهي قضيّة أو قصّة أو سرديّة جمع القرآن الكريم (في زمان الخليفة الثّالث عثمان، كما هو مُتعارف عليه عادةً بين أئمّة المُسلمين و”مؤرّخيهم”). وكما سنرى في الجزء التّالي: فإلى حين التّعمّق في دراسة المخطوطات المُكتشفة في مسجد صنعاء الكبير خلال سبعينيّات القرن المُنصرم.. بقي عدد لا بأس فيه من هؤلاء الباحثين يُشكّك.. حتّى في كون “المصحف العثمانيّ” قد جُمع أيّام عثمان (البعض لا يزال على هذا الرّأي بالمناسبة). بل اعتبر بعضهم إنّ “جمع القرآن”.. قد يكون جرى أيّام عبد الملك بن مروان الأمويّ (ت. ٧٠٥ م)، والذي يعتبره البعض إذن أوّل “خليفة إسلاميّ” حقيقيّ[4] بالمعنى العلميّ التّاريخيّ (إلخ.)!
إقرأ على موقع 180  في ماهيّة الإسلام: الطرق إلى الله كثيرة (8)

عند البعض، إذن: حتّى حجّة أو دليل القرآن، في اثبات وجود “محمّد التّاريخيّ”.. فيها نظر، انطلاقاً من الزّوايا السّابقة عموماً!

هنا، يُصبح السّؤال مُلحّاً واقعاً، لدى أيّ باحث أو مراقب أو مهتمّ بالمسألة: حقّاً.. من هو ذلك المُسمّى بمحمّدٍ.. “عبدِالله ورسولِه” أو “الأمينِ على وَحيِه” أو “النّجيبِ من عِبادِه”؟

حقّاً.. إذا ما تمادَينا في طرح أسئلة كالأسئلة السّابقة، يُصبح السّؤال مُلحّاً لكلّ باحث. مَن هُو “مُحمّدٌ” هذا؟ أو من هو “مُحمّدكم” هذا؟ هل هو “موجود” أصلاً؟

من هو “مُحمّدٌ رسولُ الله”؟

(يتبع)

[1] لاحظ، على غرار البعض: القرب بين لفظ “عبّاسيّين” و”ساسانيّين”. على كلّ حال، لنكن موضوعيّين دون ضرورة لتقبّل خلاصات ونتائج هؤلاء أو أغلبهم: أليس لافتاً للانتباه كون عدد كبير من أئمّة المذاهب الاسلاميّة، ومن المفسّرين، ومن كتبة الأحاديث وجامعيه، ومن المتكلّمين، ومن المؤرّخين المسلمين.. من خراسان أو من جوارها؟ ما اللّغز أو ما السّرّ من وراء ذلكم؟ حقّاً، مسألة تستحقّ البحث المعمّق لاحقاً.

[2] يذهب إلى هذا الرّأي، مثلاً وإلى حدّ بعيد نسبيّاً: باحث من جوّ مركز “إنارة”، يسمّي نفسه كريسوف لوكسنبورغ، يُقال إنّه من أصل لبنانيّ-مسيحيّ أو فلسطينيّ-مسيحيّ أو ما شابه، ويقول إنّه يستخدم اسماً مُستعاراً.. هرباً من التّكفير ومن عذابه الأليم. في المحصّلة ولنكن أكثر دقّة: يُركّز لوكسنبورغ علميّاً، أقلّه في الظّاهر، على الأصول اللّغويّة-الثّقافيّة، إن جاز التّعبير، لاسم “مُحمّد”، ويعتبر أنّ هناك خلطاً معيّناً قد حصل في استخدامه.

وفي الإطار عينه، يُمكننا ذكر مُشكّكين راديكاليّين أو في هذا الاتّجاه عموماً مثل: سفين كاليش وبعض الباحثين من ذوي الميول الانجيليّة أو المسيحيّة (وكثيرٌ منهم يحمل خطاباً تبشيريّاً عدائيّاً تجاه محمّد والإسلام، ولذلك لن أدخل شخصيّاً في مسألة ذكر أسمائهم.. طالباً من جميع الأطراف التزام الحدّ الأدنى من الرّصانة العلميّة ومن احترام مشاعر الآخرين). ولنتذكّر أيضاً، من ضمن الباحثين العرب، الشّاعر والكاتب العراقيّ المعروف، معروف الرّصافي: ولكن، لنتذكّر أيضاً أنّ كتابه المركزيّ في الموضوع، أي “الشّخصيّة المحمّديّة”، يتناول نقد السّيرة النّبويّة، وتصحيح السّرديّة التّأريخيّة الاسلاميّة، ونقد “نبوّة” محمّد.. ولكنّه لا يُركّز عمليّاً على مسألة “الوجود التّاريخيّ” لهذا الأخير.

[3] هناك باحثٌ عربيُّ اللّسان، في المبدأ، وهو باحثٌ فردٌ مُلفتٌ للنّظر حقيقةً، تونسيٌّ مقيم في ألمانيا على ما يُفهم (في ألمانيا: ككثير من “التّنقيحيّين” بالمناسبة)، وهو يستخدم اسم “خالد بلكين”.. وينشر أعماله أو نتائجها من خلال يوتيوب بشكل خاصّ. يُثبت بلكين من جهة “تاريخيّة” مُحمّد، وحتّى الخلفاء الرّاشدين عموماً، وبطريقة دقيقة نسبيّاً.. ولكنّ له نظرة تصحيحيّة راديكاليّة تجاه السّيرة، وبالأخصّ، تجاه القرآن الكريم ومحتواه وطريقة جمعه إلخ.

[4] لا داعي هنا لأن ندخل في تفصيل المراجع والأسماء، ونكتفي بالإحالة إلى منشورات مركز “إنارة”، مع التّنويه – ضمن هذا الأخير أيضاً – بأهمّيّة قراءة والاستماع إلى عالم المخطوطات العربيّ اللّسان، الدّكتور محمّد المسيّح، والذي حاول تقريب الأبحاث هذه، عموماً، إلى القارئ والمستمع العربيَّين. شاهد مثلاً:

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  العراق المتصالح مع الخارج.. إستقرار بلغة المصالح