

بدرجة أعلى، يأتي الحديث عن الجيوستراتيجيا التي تنقسم إلى قسمين، الأول هو الجغرافيا السياسية الجيدة التي تعطي مميزات جيوستراتيجية للدولة ويستثمرها علم الجيوبوليتيك، أما الثاني فهو الجغرافيا السياسية السيئة وتسعى الدولة للتخلص منها عادةً من خلال علم الجيوبوليتيك. وهذا الأخير، هو العلم الذي يدرس كل خطوات الدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي وصولاً إلى الصورة الأمثل للجغرافيا السياسية المتعلقة بها.
يتميز لبنان جغرافياً بامتداده العامودي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وبعمق داخلي قصير المدى، فنكون أمام شكل مستطيلي مع تباعد واضح بين الطول والعرض فيه، والذي يبلغ خمس مرات، الأمر الذي يزيد من اعوراره أمام خطر الهجمات من خارج حدوده بسبب قصر المسافات فيه. كذلك فإن طول حدوده الدولية (679 كلم)، وتعرجها يجعل من الدفاع عنها أمراً صعباً، ويزيد من المخاطر أن الثروة المائية الموجودة فيه، إضافة إلى تلك الغازية والنفطية في منطقتنا الإقتصادية الخالصة، تشكلان دافعاً إضافياً لإغراء العدو على النيل من سيادة لبنان.
وثمة مميزات جغرافية أخرى للبنان. برياً، يمكن الإنطلاق منه نحو العمق العربي أي شرقاً وشمالاً نحو سوريا والعراق ومنهما نحو دول شبه الجزيرة العربية جنوباً أو نحو العمق الآسيوي أي إقليم آسيا الوسطى وبعدها نحو الصين، وبالتالي يمكن اعتبار لبنان من بين أبرز نقاط طريق الحرير الصيني ضمن مبادرة “طريق واحد، حزام واحد”.
بحرياً، يُمكن الإنطلاق أيضاً من لبنان عبر البحر الأبيض المتوسط نحو مضيق جبل طارق غرباً ومنه نحو المحيط الأطلسي، ونحو قناة السويس جنوباً ومنها نحو مضيق باب المندب عبر البحر الأحمر وبعده نحو المحيط الهندي وأيضاً شمالاً نحو مضائق الدردنيل والبوسفور ومنها نحو البحر الأسود وبالتالي يمكن الوصول نحو قلب العالم (المنطقة الأكثر اهتماماً لدى أغلب المنظرين الجيوبوليتيكيين) براً وبحراً، وما بين كل تلك المسارات تتداخل طرق امدادات النفط والغاز والطرق التجارية الإقليمية والدولية. وهذه الميزة جعلت منه تاريخياً نقطة صراع بين قوى البر وقوى البحر، الأمر الذي يُشكل جواباً على السؤال الذي يُطرح دائماً، وهو: لماذا على لبنان أن يدفع ثمن صراعات الغير على أرضه؟
إذا كانت ديكتاتورية الجغرافية قد وضعت لبنان ضمن هذا المحيط الشرق أوسطي الرجراج، وهذا قدره المفروغ منه، إلا أن أكثر ما أنهك لبنان، منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، هو كل من تعاقب على حكمه من عهود ومجالس وحكومات. والمؤسف أننا لم نجد، في أي من العهود التي حكمت البلد، اهتماماً بجيوبوليتيك لبنان أو حتى سعياً لوضع استراتيجية أمن وطني
وإذا كان الخطر الإسرائيلي هو الأبرز ولا يتقدم عليه خطر آخر، فإن التغيير الجيوسياسي المتمثل بسقوط النظام السوري السابق، منذ نهاية العام 2024، جعل لبنان مُشرعاً على مخاطر من نوع جديد، لم تكن موضوعة في الحسبان منذ الإستقلال حتى يومنا هذا. وربطاً بهذين التحديين، هناك ما يُمكن أن يُغيّر هوية لبنان الديموغرافية في ظل وجود كتلة مليونية من اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين (تُقدر بما يزيد عن مليونين ونصف المليون نسمة، أي بما يوازي نصف سكان لبنان).
ويواجه لبنان في المقابل تحدي الحد من نزيف الشباب الذي يترك بلده سنوياً بسبب ضيق الفرص (58% من الشباب والمتعلمين في لبنان يرغبون بالسفر وفق إحصاءات العام 2024 الصادرة عن الدورة الثامنة للباروميتر العربي). إضافة إلى عدم استثمار قوة الإنتشار اللبناني في الخارج. زدْ على ذلك أن لبنان متخلفٌ تكنولوجياً ومعلوماتياً، بالإضافة إلى ضعفه مالياً واقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً (القوى الشرعية المسلحة) وصحياً وبيئياً واستغلالاً لموارده الطبيعية من مياه ونفط وغاز وإلى ما هنالك، علماً أن نقطة الضعف الأكثر تأثيراً هي تلك المتعلقة بالهشاشة الداخلية بين شرائح المجتمع اللبناني الواحد.
إذاً من الناحية الجيوبوليتيكية، على لبنان أن يبدأ بتحديد مصالحه الإستراتيجية العُليا، ولعل أولها وأكثرها أهمية وأسبقية، حسب تصنيف (Nuechterlein)، هي مصلحة البقاء (تُدعى الأمن المادي)، ويُعمل لهذه المصلحة في كل دولة من دول العالم انطلاقاً من التهديدات التي تحدق بكل بها، من أخطار هجمات عسكرية أو شبه عسكرية، مزودة بأسلحة دمار شامل، من نووية وبيولوجية وكيميائية، أو بالأسلحة التقليدية، من أجل احتلال أرضها، وإلغاء كيانها وهويتها، وإضعافها إقتصادياً، وصولاً إلى محوها عن الخريطة.
على لبنان أن يُحدّد استراتيجيته الدفاعية، في مواجهة خطرين أساسيين يتربصان به أرضاً وشعباً، ألا وهما العدو الإسرائيلي الطامع بأرض لبنان ومياهه وثرواته الطبيعية، وخطر توطين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، ما يُلغي الهوية اللبنانية عن جزء هام من الأرض، أو الأرض كلها، ويُهجّر قسماً كبيراً من سكانه إلى مناطق أُخرى. هذا من ناحية، أما من ناحية أُخرى، فإن العدو الثاني يتمثل بالإرهاب التكفيري الذي لا يوفر أية شريحة من شرائح الشعب اللبناني. وبعد ذلك، وأيضاً ضمن استراتيجية الأمن الوطني، يجب استغلال كل عناصر قوة الدولة والعمل على تحسينها وتطويرها سعياً نحو التخلص من الجغرافيا السياسية السيئة، فعلى سبيل المثال يجب الإستفادة من شبكة العلاقات الدبلوماسية اللبنانية مع الأصدقاء والشركاء الإقليميين والدوليين من أجل تقوية موقف لبنان في المحافل الدولية ودعمه بكل ما يحتاج إليه من أجل النهوض والتطور من جديد ونؤكد هنا على ضرورة تحسين علاقة لبنان مع سوريا التي تمثل عمقه الإستراتيجي والحيوي، وأيضاً على الدولة اللبنانية وضع استراتيجية دفاعية تقوم على الإستفادة من كل ما يعزّز أمنها وقدراتها العسكرية بما فيها قوة المقاومة اللبنانية التي يمكن من خلال إعادة النظر في طبيعة عملها والعودة إلى سريتها التغلب على نقطة الضعف المتمثلة بالشكل الجغرافي للبنان الذي شرحناه سابقاً وعدم التكافؤ مع المستوى التسليحي والتكنولوجي للعدو الإسرائيلي كجيوش نظامية وذلك بالتعاون مع القوى المسلحة الشرعية اللبنانية انطلاقاً من ثلاثية كلاوزفيتز Trinity القائمة على الحكومة والشعب والقوات المسلحة، إضافة إلى استغلال الفرص على الساحة الدولية في إطار حاجة الدول الأوروبية، على سبيل المثال، إلى مصادر جديدة للغاز خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية وبالتالي على لبنان السعي بشتى الطرق إلى استغلال موارده النفطية والغازية في هذا الإطار، علماً أن الحرب القادمة في العالم ستتمحور حول الحاجة إلى المياه خصوصاً في ظل ظاهرة التصحر الناتجة عن الإحتباس الحراري.. ولبنان من الناحية الجيوستراتيجية يمكن أن يلعب دوراً مهماً في هذا الإطار إذا ما تمت الإستفادة من الثروة المائية اللبنانية بالشكل الصحيح.
إذا كانت ديكتاتورية الجغرافية قد وضعت لبنان ضمن هذا المحيط الشرق أوسطي الرجراج، وهذا قدره المفروغ منه، إلا أن أكثر ما أنهك لبنان، منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، هو كل من تعاقب على حكمه من عهود ومجالس وحكومات. والمؤسف أننا لم نجد، في أي من العهود التي حكمت البلد، اهتماماً بجيوبوليتيك لبنان أو حتى سعياً لوضع استراتيجية أمن وطني هو بأمس الحاجة إليها في ظل المخاطر الوجودية المحدقة به.
أخيراً، لبنان يقع ضمن أراضي الحافة التي لطالما تحدثت عنها النظريات الجيوبوليتيكية ويتميز بنقاط ارتكاز جيوستراتيجية هامة وبالتالي قدره يكمن في الصراع من أجل البقاء وذلك من خلال العمل الدائم على تقوية قدراته العسكرية والبشرية والمالية والإقتصادية والدبلوماسية والمعلوماتية والتكنولوجية وغير ذلك، من أجل تحسين الجغرافيا السياسية التي يتمتع بها، حيث أن النظرية المادية في العلاقات الدولية هي التي أثبتت فعاليتها، أي أن البقاء للأقوى وبالتالي يجب العمل على مفهوم أن قوة لبنان تكمن فعلياً في قوته التي من خلالها يمكن الوصول إلى المناعة الجيوبوليتيكية ولو نسبياً.