رسائل “مهمة” أطلقها الرئيس الصيني، شي جينبينغ، للحليف والخصم في كلمته خلال الذكرى السبعين للعيد الوطني الصيني وقيام النظام الشيوعي.
في خطابه خلال العرض العسكريّ الأضخم في تاريخ البلاد، عرض شي رؤية بكين للتحديات الخارجية والداخلية التي تواجهها، من قضية الحرب التجارية المستعرة مع الولايات المتحدة، إلى الأزمة المستمرة منذ أشهر في هونغ كونغ، وقضية تايوان، إضافة إلى قضيتي بحر الصين الشرقي والجنوبي، وما يثار عن اضطهاد السلطات لأقلية الاويغور المسلمة في إقليم شينجيانغ.
الرئيس الصيني، أكد أن “ما من قوة في العالم يمكنها أن تهزّ دعائم الأمة الصينية”، مضيفاً “لا شيء يمكن أن يمنع الأمة والشعب الصينيين من المضي قدماً.. ستكون الصين غداً أكثر ازدهاراً”، وذلك في رسالة تنبيه وتحذير بالغة الأهمية تحديداً للولايات المتحدة.
كذلك شدّد على أن “بلاده ستبقى على طريق التنمية السلميّة وأن الجيش سيحمي سيادة البلاد وأمنها بحزم”.
وفي الشأن الداخلي، أكد أن “على البلاد الحفاظ على الرخاء والاستقرار في هونغ كونغ بموجب مبدأ دولة واحدة ونظامين، وماكاو”، وتحدث عن الحاجة إلى “توحيد الشعب الصيني، ومواصلة الكفاح من أجل إعادة التوحيد الكامل للوطن الأم”، بما في ذلك تايوان، الجزيرة التي تعتبرها الصين ضمن أراضيها.
العرض الأضخم
دأبت الصين تقليدياً على تنظيم عرض عسكري كل عشر سنوات في ذكرى تأسيسها في 1 تشرين الاول/اكتوبر 1949 أمام مدخل تيان انمين حيث أعلن ماو تسي تونغ الجمهورية الشعبية.
وشارك في عرض هذا العام، والذي استمر حوالي 80 دقيقة، نحو 15000 جندياً ضمن 59 تشكيلاً عسكرياً، يمثلون القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الصاروخي إضافة إلى الفرقة الموسيقية العسكرية المركزية لجيش التحرير الشعبي الصيني، فضلاً عن استعراض 160 طائرة و580 دبابة، وأنظمة أسلحة أخرى إلى جانب صواريخ عابرة للقارات منقولة على شاحنات.
واستعرض الرئيس الصيني وكبار قادة البلاد، أحدث ما أنتجته آلة التصنيع العسكرية الصينية من طائرة شبح مسيرة يكشف عنها لأول مرة، وأحدث صاروخ بالستي عابر للقارات يعد الأبعد مدى من نوعه في العالم (دونغ فنغ-41)، إضافة إلى أحدث صاروخ مجنّح استراتيجي فرط صوتي من نوع “سي جي -100″، ذكر الإعلام الصيني أنه يمكن استخدامه لتدمير الأهداف قوية التحصين والمخابئ تحت الأرض.
عرض أحدث الأسلحة الصينية المحلية الصنع أرادت من خلاله بكين التأكيد للعالم أنها ترسانة “تتمتّع بمستوى تكنولوجي عالٍ … وتعكس بالكامل قدرة الابتكار المستقلة في البحث والتطوير التي تمتلكها “، بحسب ما أكد نائب المدير العام لمكتب القيادة العسكرية المشتركة، اللواء تان مين.
الخبير في الشؤون الآسيوية، الدكتور وائل عواد اعتبر في حديث إلى “180” أن “استعراص بكين لقدراتها العسكرية والسلاح النوعي الجديد، يشكل رسالة للولايات المتحدة والعالم بأن التنين الصيني هو القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين، وأنه قادر على حماية الأمن والسلم العالميين. وكذلك رسالة للداخل الصيني بأن الرئيس شي جينبينغ هو الزعيم الأقوى بلا منازع ولا بد من الولاء له”.
استعراص بكين لقدراتها العسكرية والسلاح النوعي الجديد، رسالة للولايات المتحدة والعالم بأن التنين الصيني هو القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين
موقف عواد يتقاطع مع رأي عماد الأزرق، رئيس وحدة الدراسات الصينية في مركز “الحوار للدراسات السياسية” الذي رأى أن عرض هذا العام يحمل رسائل باتجاهات متعددة أهمها أن بكين “تقدم نفسها للعالم كلاعب دولي محوري قادم على الساحة الدولية، ويمكن أن يلعب دوراً متزايداً في حماية النظام الدولي والتدخل لحل الصراعات والمشاكل الأمنية وحماية خطوط الملاجة الدولية”.
الأزرق يؤكد في حديث إلى “180” أن بكين تريد إيصال رسالة للقوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة إلى “ما وصلت إليه من قوة عسكرية رهيبة سواء على صعيد الأسلحة التقليدية أو غير التقليدية”، إضافة إلى تأكيد بكين “أنها قادرة على ردع كل من يفكر في المساس بأمنها واستقرارها واقتصادها وتجارتها، وأن الصين اليوم ليست الصين التي كان يعرفها العالم من قبل”.
ويضيف أن العرض العسكري يحمل رسالة أيضاً للدول الصغيرة والفقيرة التي تمارس عليها القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة ضعوطاً لدفعها لتقليص علاقاتها مع الصين أو الخروج من مبادرة “الحزام والطريق”، بأن “الصين قادرة على حماية هذه الدول، وحماية حلفائها وأصدقائها أكثر من أي وقت مضى”.
تغيرات جوهرية في الجيش
عرض هذا العام هو الأول بعد التحديثات الجذرية التي خضع لها الجيش الصيني ابتداءً من العام 2015 تحت إشراف مباشر من الرئيس، ليكون أسرع القوى العسكرية تحديثاً في العالم، فيما صنفت الصين كقوة عسكرية عظمى محتملة، مع قدرة دفاع إقليمية كبيرة، وقدرات إسقاط قوة عالمية متزايدة.
أهم الخطوات في تحديث جيش التحرير الشعبي، أكبر قوة عسكرية في العالم، كان تخفيض عدد القوات 300 ألف جندي.
ويتكوّن جيش التحرير الشعبي من خمس وحدات: القوة البريّة، والبحريّة، والقوات الجوية، وقوة الصواريخ، وقوة الدعم الاستراتيجي. ويمثل الجيش أكبر قوة عسكرية بريّة في العالم، إذ يصل عديد القوات إلى 975000 جندي، أي حوالي 48 في المئة من القوى العاملة فيه (2.035.000 صيني) يضاف إليهم جيش من الاحتياط قوامه 510.000 أفرد (وفقاً لتقديرات عام 2018)، فيما تشكل ميزانيته ثاني أكبر ميزانية للدفاع في العالم، بعد الولايات المتحدة وتبلغ نحو 177.9 مليار دولار عام 2019 وتمثل 1.3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد.
وتشمل خطط التحديث تعزيز دور القوات الجوية والبحرية بعدما كانت القوات البرية تشكل عماد الجيش، واستراتيجية ردع جديدة أساسها الاعتماد على صواريخ بالستية وكروز لشن ضربات دقيقة وشبكة مكثفة من صواريخ أرض جو ومقاتلات جديدة، فيما ستملك بكين خمس حاملات طائرات بحلول العام 2025، و10 بحلول العام 2050 بينما دخلت عشرات الغواصات الجديدة الخدمة في السنوات الأخيرة.
وذكر الكتاب الأبيض الذى يحمل عنوان “الدفاع الوطني الصيني في العصر الجديد”، الصادر عن مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني، والصادر في شهر تموز/يوليو الماضي، أن جيش التحرير الشعبي الصيني “قام بإصلاح قيادة الجيش والنظام القيادي له” وأنه “جرى تحسين حجم القوات المسلحة وهيكلها وتكوينها”.
وتأتي عملية تطوير الجيش الصيني بما يتلائم مع الاتجاهات الجديدة في تطور الثورة العالمية في المجال العسكري والتكنولوجي وحرب المعلومات والفضاء، على أن تنتهي عملية التحديث في العام 2035 ليكون الجيش الأقوى عالمياً بحلول العام 2050.
وتعليقاً على هذه الخطوات، يرى وائل عواد أن الصين، ومن خلال تعزيز قدراتها العسكرية الهجومية والدفاعية وإنتاجها لأسلحة متطورة ونوعية تضاهي السلاح الأميركي والغربي، وتغيير عقيدتها العسكرية في الآونة الأخيرة، تعطي إشارة إلى “بدء مرحلة جديدة من القوة وعرض العضلات وحماية مصالحها القومية في جميع أرجاء العالم”.
قدرات التصنيع العسكري
يترافق تحديث جيش التحرير الشعبي مع ثورة كبيرة في التصنيع العسكري في الصين، التي أصبحت لاعباً مهماً في سوق بيع السلاح العالمي.
وعملت بكين على تطوير حاملات طائرات إضافة إلى طائرات عسكرية متطورة، بجانب تطوير سلاح الغواصات، بالإضافة إلى أسلحة قادرة على استهداف الأقمار الصناعية في عمق مداراتها أو التشويش عليها أو حتى السيطرة عليها وخطفها.
يترافق تحديث جيش التحرير الشعبي مع ثورة كبيرة في التصنيع العسكري في الصين، التي أصبحت لاعباً مهماً في سوق بيع السلاح العالمي.
الولايات المتحدة تراقب عن كثب الخطوات التي تنجزها بكين على صعيد التصنيع العسكري. وفي تقرير غير سري لوزارة الدفاع الأميركية، نشر في بداية العام الحالي، ورد أن “الصين شارفت على الانتهاء من صناعة بعض أنظمة الأسلحة الأكثر تطوراً في العالم، وهي في بعض المجالات تفوقت بالفعل على منافسيها”.
وأوضح التقرير الذي حمل عنوان “القوة العسكرية للصين” أنه نتيجة لسياسة “الحصول على التقنية بأي وسيلة متاحة”، أصبحت الصين الآن في المقدمة في عدة مجالات، مثل صناعة السفن العسكرية والصواريخ المتوسطة المدى والأسلحة الأسرع من الصوت.
وأشار التقرير أيضاً إلى أن تنامي القوة العسكرية للصين وامتلاكها قدرات متطورة في الجو والبحر والفضاء، وكذلك الفضاء الإلكتروني، سيمكنها “من فرض إرادتها في المنطقة”.
كذلك كشف تقرير “التوازن العسكري في الشرق الأوسط 2019″، الذي نشره “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فرع الشرق الأوسط”، هذا العام، عن “تفوق موازنات البحث والتطوير العسكري لدى الصين على مثيلاتها في الغرب، والذي نتج عنه تقدم الترسانة الصينية كماً ونوعاً، تلبية لاحتياجاتها العسكرية الوطنية، وانتقالها إلى مرحلة توفير بدائل تنافسية للأسلحة والمعدات الغربية من حيث التقدم في مستوى الأداء بسعر أقل، وقدرة الصين على بيع عتاد نوعي لدول يرفض الغرب تزويدها بالسلاح، وهو العتاد المتضمن لقطع بحرية وطائرات مسيرة، لاسيما لدول مثل باكستان، ونيجيريا، حيث ترفض أميركا بيع تلك الأنواع من الطائرات لها”.
كذلك كشف التقرير عن أن “لدى بكين خطة طموحة لتطوير الذكاء الافتراضي فيما تسرع في خطوات تطويرها لهذا البرنامج في صناعاتها العسكرية”.
وتحيط بكين مشروع تطويرها العسكري بسرية تامة وصفته مجلة “جينس” الدفاعية” بـ”لغز المجاهيل المعلومة” الذي يعتمد مبدأ “المعرفة على قدر الحاجة”، موضحةً أن “التفاصيل الدقيقة للأسلحة الصينية المتقدمة ليست واضحة حتى الآن مع ذلك هناك بعض المعلومات عن البرامج المتقدمة و التي هي في طور العمل على تجهيزها أو أنه وقف العمل عليها”.
هلع “البنتاغون”
لا تغفل الولايات المتحدة عن التطورات المذهلة في قدرات الصين العسكرية وهي تراقب عن كثب الخطوات التي تقوم بكها بكين.
وتظهر التصريحات والتسريبات الأميركية في هذا الصعيد قلقاً متصاعداً من القوة العسكرية المتنامية للصين والتهديدات المحتملة التي قد تنتج عنها.
واشنطن أقرّت علنا في “إستراتيجية الدفاع الوطني” الصادرة وزارة الدفاع “البنتاغون” منتصف عام 2018 بأنّ الصين “منافس إستراتيجي يسعى لتحديث قواته المسلحة لضمان سيطرته الإقليمية على المحيط الهادي وجنوب آسيا، ومقارعة نفوذ الولايات المتحدة العالمي”.
ترافقت هذه النظرة مع خطوات، منها أن “البنتاغون” ضاعف مؤخراً مبادراته لتطويق القدرات العسكرية للصين عبر زيادة العمليات البحرية وإجراء أول تجربة لصاروخ تقليدي متوسط المدى في المحيط الهادىء وتدريبات على عمليات إنزال.
كما أبلغ وزير الدفاع مارك إسبر، الذي خصص جولته الدولية الأولى لآسيا مطلع آب/ أغسطس الماضي، بكين بأن الولايات المتحدة تريد أن تنشر صواريخ جديدة في آسيا بسرعة، وإذا كان ممكناً في الأشهر المقبلة، وذلك بهدف الحد من صعود قوة الصين في المنطقة.
بدوره، أعلن وزير سلاح البر الأميركي راين ماكارثي، أن بلاده ستطور الصواريخ التقليدية الجديدة المتوسطة المدى من أجل التصدي لصعود الصين، ولتغيير “المعادلة في جنوب شرق آسيا”.
وكشف ماكارثي أيضاً عن رغبة بلاده بإبرام اتفاقات شراكة مع حلفاء في المنطقة تمنح الجيش الأميركي حق التمركز في قواعد محلية ما “سيسمح بتطويق استثمارات المنافسين الذين يمتلكون قوة شبه مساوية” لقوة الصين.
ينطلق الخبير في الشؤون الآسيوية وائل عواد، في تحليله لخطوات واشنطن الجديدة، من أن الولايات المتحدة لا تخفي قلقها من التفوق الصيني المتنامي، مضيفاً أن قدرات بكين بتجاوز والتفوق على القدرات الأميركية الاقتصادية والعسكرية “يسبب قلقاً دائماً للادارات الأميركية المتعاقبة” التي تعتبر الصين التحدي الأكبر لهيمنتها على العالم”.
بناء على ذلك يرى عواد أن واشنطن “تسعى لتطويق وتحجيم دور الصين إقليمياً وعالمياً من خلال حشد الحلفاء وبناء المحاور الإقليمية وعسكرة آسيا الباسيفيك وهذه السياسة الأميركية يقابلها تحد من الصين وتهديدات بأنها لن تتهاون وسترد الصاع صاعين”.
تسعى الولايات المتحدة لتطويق وتحجيم دور الصين إقليمياً وعالمياً من خلال حشد الحلفاء وبناء المحاور الإقليمية وعسكرة آسيا الباسيفيك
بدوره يؤكد عماد الأزرق أن واشنطن تستهدف محاصرة بكين عسكرياً من خلال اقامة ونشر القواعد العسكرية وتعزيز تواجدها بالمنطقة لدفع القيادة الصينية دائماً للتحرك واتخاذ قراراتها تحت الضغط.
ويضيف الأزرق أن سعي “البنتاغون” لتطويق القدرات العسكرية للصين، “يأتي انطلاقاً من أوراق الضغط العديدة التي تستخدمها واشنطن في حربها التجارية على الصين للحصول على أكثر مكاسب ممكنة، كما أنها تأتي في سياق سياسة الترهيب التي تمارسها واشنطن مع حلفائها في المنطقة لضمان استمرار تعاونهم وولائهم لها، والحصول منهم على أكبر دعم اقتصادي ممكن لدعم الاقتصاد الأميركي”.
“من أجل نضال عظيم”
تحضر في السنوات الأخيرة عبارة ضرورة تطوير الجيش والاستعداد للحرب لضمان السلام العالمي في خطابات الرئيس شي جيبينغ وتشديده الدائم على أن القدرات العسكرية تمثل أهمية استراتيجية في حماية الأمن القومي. دعوات شي وأهمية الجيش بالنسبة لإدراته يأتيان لضمان المرحلة الحاسمة التي تمر بها بلاده في طريقها لتكون قوة عالمية ذات مستقبل مشرق، وما يعنيه ذلك من أزمات وتحديات ستواجهها.
وفيما يؤكد شي أن بلاده”ستحتاج إلى الكثير من الاستثمارات وعلى رأسها الاستثمار في الجيش القوي للحدّ من هذه المخاطر”، فإنه يشدد دوماً على أن “هنالك وسائل واختبارات عديدة لنا في الدفاع عن السلم والحفاظ على الأمن ومنع نشوب الحرب. لكن الوسيلة العسكرية هي الوسيلة النهائية دائماً”.
وبالتزامن مع الخطوات الموضوعة لتنفيذ توصيات مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم في 2017 بتقوية الجيش والنهوض به لتحقيق حلم الصين، تدرك بكين أن مساعيها التي ستكون محفوفة بالمخاطر في ظل الصراع مع والولايات المتحدة، تتطلب نضال حاضرة له إيماناً منها بما شدد عليه الزعيم ماو تسي تونغ، يوم تأسيس جمهورية الصين الشعبية “من أجل تحقيق حلم عظيم، يجب خوض نضال عظيم”.