

إن المقصود بذاكرة الألم “ذاكرة الضحايا وذويهم“، إن كانوا قد فارقوا الحياة، و”ذاكرة المجتمع” التي توجّعت بسبب ما عاناه الضحايا وذويهم والمجتمع ككل من آلام تركت تأثيراتها اللاحقة، والتي تحتاج إلى معالجات تنسجم مع قيم العدالة من جهة، وتستشرف إعادة بناء المجتمع على نحو سليم من جهة أخرى كي لا يتكرر ما حصل من استلاب للضحايا وحقوقهم الإنسانية، لا سيّما تعريضهم لآلام مبرحة، تظلّ محفورة في الذاكرة الجمعية.
وسؤال الضحايا هو سؤال قلق وليس سؤال طمأنينة، وهو سؤال ضيق وليس سؤال رهاوة، بقدر ما هو سؤال شك وليس سؤال يقين، والسؤال يولّد أسئلة: ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ وكيف السبيل إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر؟
وقد ابتدع الفكر الحقوقي الدولي وعبر تجارب مختلفة فكرة العدالة الانتقالية، التي تُعتبر ذاكرة الألم إحدى أركانها كي تكون في دائرة الضوء، ولا يلفّها النسيان، لذلك كثيراً ما يتكرّر في الحديث عن العدالة الانتقالية: نغفر دون أن ننسى، وتلك المسألة مهمة وضرورية كدرس للأجيال المقبلة، ولكي نتابع المقصود بذاكرة الضحايا (ذاكرة الألم)، لا بدّ من التعمّق في مفهوم العدالة الانتقالية، فما المقصود منها؟
ما المقصود بالعدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية مفهوم ما يزال غامضاً أو ملتبساً، خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به “الانتقالية” فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية (الجنائية) المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟
وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق واعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون بهدف تحقيق المصالحة الوطنية المجتمعية.
لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي رافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديموقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديموقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح واقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرّر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي.
إن مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون
وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الاصلاحية الضرورية وسعي لجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة وذويهم، فضلاً عن إبقاء الذاكرة حيّة مجتمعياً، فيما يتعلّق بالانتهاكات السابقة، والهدف هو الحيلولة دون تكرار آلام الماضي. ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم ما يسمّى ﺑ “العدالة الانتقامية”، التي تقود إلى الثأر والكيدية، الأمر الذي يجعل دورة العنف والألم مستمرّة
قد يتصوّر البعض أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب.
ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والانسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطء في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولا سيّما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسيس وبخاصة بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية، وبخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول/سبتمبر 1973، الذي قاده الجنرال بنوشيه ضدّ حكومة سلفادور ألندي المنتخبة.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.
كما شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وثمة تجارب غير مكتملة أو مبتورة لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية، وخصوصاً كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي.
ولا بد من ادراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديموقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.
قد يعتقد البعض أن وصفة العدالة الانتقالية لوحدها ستكون شافية لإصلاح الأوضاع وإعادة الحقوق وانتهاج سبيل التطور الديموقراطي، خصوصاً بتسليط الضوء على ذاكرة الألم، لكن مثل هذا الاعتقاد غير واقعي ان لم يترافق مع اعتبار العدالة الانتقالية مساراً متواصلاً لتحقيق المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والمجتمعي والقضاء على بؤر التوتر والارهاب والعنف، وصولاً إلى انجاز مهمات الاصلاح المؤسسي والتحوّل الديموقراطي.
وبالرغم من حداثة التجربة التاريخية للعدالة الانتقالية، الاّ أنها أكدت انه لا توجد تجربة انسانية واحدة ناجزة يمكن اقتباسها بحذافيرها، بل هناك طرقاً متنوعة ومختلفة للوصول اليها وتحقيق المصالحة الوطنية والانتقال الديموقراطي، ومثل هذا الاستنتاج يعنينا على المستوى العربي، فلا يوجد بلد عربي يمكنه الاستغناء عن مبادئ العدالة الانتقالية وصولاً للتحوّل الديموقراطي، خصوصاً وأنها بحاجة إليه بهذه الدرجة أو تلك لوضع المستلزمات الضرورية للإصلاح والتحوّل الديموقراطي ووضع حد للانقسام والتمييز المجتمعي.
إن مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون، الأمر الذي يحتاج تأهيل وتدريب وتطوير للأجهزة الحكومية وبخاصة القضائية والتنفيذية بما فيها أجهزة الشرطة والأمن.
- نص محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي السنوي الموسوم “ذاكرة الألم في العراق” بدعوة من كرسي اليونيسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية التابع لكلية الآداب في جامعة بغداد 16 نيسان/أبريل 2025 (برعاية من العتبة العباسية في كربلاء).