

تخيّلوا امرأة باتت جدة تتباهى بسبعينها، تحمل على صدرها عبء السنين، تجلس مع أحفادها تحكي لهم قصة الجد، لكنها لا تحكيها ببساطة، بل تغصُّ غصةً تعصر القلب في كل كلمة تنطقها.
وداد حلواني ليست فقط المرأة التي فقدت عدنان حبّ حياتها، بل هي الجدة التي تحكي، بكل وجع وأمل، قصة وطن غائب، قصة حق يُنتظر، قصة ذاكرة مُقيمة، ذاكرة لا تمضي.
في كتابها “ذاكرة ليست تمضي” الصادر عن دار الساقي، تكتب وداد حلواني كمَن يفتح الجرح ليراه الجميع، لا لتشتكي، بل لتشهَر الحقيقة في وجه النسيان. لا تسرد فقط ما جرى، بل تبني ذاكرة عامة، إنسانية، مقاومة. ذاكرة لا تسير في خط الزمن، بل تقاومه.
“سمير؛ غدًا سأوقع كتابي وأنت بعيد، بعيد. أنتَ من شجعني على المضي بعد أن قرأت أول نص. أنا أخذتُ وقتًا طويلًا بالكتابة وأنت استعجلت الرحيل. غدًا ستكون معي يا سمير. إنها تجربتي الأولى، هل ستُمسك بيدي لأتمكن من التوقيع”.
لا بأس من التذكير بهذه الكلمات التي خطّتها وداد، عشية التوقيع، على الفايسبوك، وفوقها صورة شقيقها الراحل سمير مراد (المعروف عند مجايليه الشيوعيين واليساريين بـ”سمير سعد”).
ولمن لا يعرف سمير – هذا الرجل لم ينل حقه مثل كثيرين من المناضلين الماركسيين – فقد كان سندًا لشقيقته وداد، هما الآتيان من طرابلس، في شمال لبنان إلى بيروت، مع موسم الجامعات، عشية الحرب الأهلية. تقول وداد:
“في بيروت، عشت قناعاتي. خبرتها. غربلتها. واكتسبت أخرى إضافية. في بيروت صرت سيدة نفسي”.
هي سيدة نفسها أم سيدة الوقت؟
يُجيب على هذا السؤال الكاتب والصحافي اليساري اللبناني المخضرم الياس شاكر، في سياق تقديمه للكتاب:
“تروي وداد حالتها الخاصة، بعد أن أمضت عقودًا محاولة أن تستكتب الناشطات والناشطين لتأتي الشهادات دعمًا للقضية، إلى أن اكتشفت من تجربتها هذه أن لديها هي أيضًا ما يُقال حتى بمعزل عن القضية. تتابع نشأتها فتاة صغيرة مشاكسة إثباتًا لاستقلاليتها عن عالم الكبار الذي تحب، ثم مشاكسة ضد المرسوم لها شرطًا لدخولها هذا العالم الواسع وصولًا أخيرًا إلى المشاكسة الكبرى في النضال (…). بمشاكستها ضد الوقت صارت وداد سيدة الوقت”.
***
منذ الصفحات الأولى، يظهر عدنان، ليس كشخص غائب فقط، بل كنبض دائم في السرد. تقول وداد:
“لم تكن قصتنا قصة حب عابرة. كانت مساحة أمان في وطن هشّ، وجسرًا بين حياتين: ما قبل الغياب وما بعده”.
تكتب وداد لعدنان وعنه كما لو أن الحبّ وحده قادر على هزيمة الغياب، وتُخبّئ في رسائلها كلّ ما لم تستطع قوله علنًا. في إحدى هذه الرسائل المنشورة، تخاطبه:
“لم أسمح لهم أن يسرقوك مرتين: مرة بالجسد، ومرة بالنسيان”.
لكنّ وداد حلواني لا تكتب من موقع الحبيبة فقط، بل من موقع المناضلة. من تلك التي حملت صورة عدنان إلى الشارع، ثم حملت صور مئات الغائبين، وصارت الصوت العام لذاكرة أرادها البعض أن تُمحى. وداد لم تكن ناشطة، بل نارًا مشتعلة لا تطفئها السنوات. واجهت السياسيين، الوعود الكاذبة، الخيبات، والبيروقراطية، وأصرّت على أن الحقيقة ليست خيارًا بل حقًّا.
قادت وداد نضالًا طويلًا وصعبًا كانت محطته الأبرز إقرار البرلمان اللبناني القانون الرقم 105 عام 2018 (قانون المخفيين والمفقودين قسرًا)؛ القانون الذي يعترف بحقّ الأهالي في معرفة مصير أحبّائهم المخفيين قسرًا. تقول وداد في الكتاب:
“ما طالبنا به لم يكن امتيازًا، بل أبسط الحقوق: أن نعرف، فقط أن نعرف”.
ومثل كل من اختبر الحرب الأهلية في لبنان، لم تكتب وداد حلواني عن الحرب كحدث سياسي، بل كصدى داخلي. تحكي عن الاجتياح، عن القصف، عن الخوف، عن الذكريات التي تفجّرت مع كل طلقة وقذيفة:
“كلما نزل القصف، كنت أعود إليك. كنت أراكَ في كل وجه مذعور، في كل جثة بلا اسم، في كل نافذة تُهشَّم. الحرب لم تأخذك، لكنها تُذكّرني بك في كل مرة”.
***
في “ذاكرة ليست تمضي”، لا فصل بين الحب والسياسة، بين الغياب والنضال، بين الخاص والعام. إنه كتاب عن امرأة لم تسمح للوجع أن يلتهمها، بل حوّلته إلى قوة دفع، إلى ذاكرة نابضة، إلى صرخة ما تزال تُدوّي منذ أربعة عقود.
إنّه كتاب عن الحبّ الذي لم يمت، عن الحقّ الذي لم يُنسَ، وعن وداد التي صارت لنا جميعًا وجه الحقيقة. وداد التي تملك الوقت وتستعد لهزيمته وربما تجميد عقاربه حتى تفاجئنا كل مرة بجديدها.. وهذه المرة أتى كتابًا نأمل أن يكون ولّادة كتب جديدة، فكل عنوان من عناوين فصول الكتاب الستة يصلح لأن يكون كتابًا. المهم أن وداد قرّرت وبدأت وحتماً ستجد إلى جانب شقيق رحل (سمير) وشقيق آخر لا يبارحها هو أحمد الذي “لولاه لما كان لهذا المولود أن يرى النور”.. حتمًا ستجد وداد حلواني الكثير من هؤلاء الأصدقاء الذين سيفتخرون إن سمحت لهم بوضع خبرتهم بتصرف ناشطة صارت رمزًا للدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته.
(*) كتاب “ذاكرة ليست تمضي” (197 صفحة)، صادر عن دار الساقي (2025)، تصميم الغلاف عفيفة الحلبي. صورة الغلاف من الأرشيف الشخصي لوداد حلواني.