أكثر من ذلك تستمرّ “الجماعة” في ازدواجيّتها بين المستويين (الخطاب والممارسة) على ما بينهما من بونٍ، لأنها لم تستطع المواءمة بين دوائر الانتماء المختلفة، فكرياً وفقهياً؛ ولربّما كان السبب أنها لم تغادر مرحلتها الدعويّة البتة (الطفولة)، بالرغم من أنّ التنظير الإسلامي التقليدي تحدّث عن مرحليّة في العمل الإسلامي، يُفترض أن تُتوّج بالتمكين.
مع “طوفان الأقصى”، كان من المنتظر أن يؤدّي خوض “الجماعة” غمار العمل العسكري مجدّداً بمعيّة حركات المقاومة إلى أن تكون أكثر جرأة في تبنّي خيارات حاسمة، إلا أنها راوحت مكانها باعتماد خطاب مرتبك، يعلو به الأمين العام الشيخ محمد طقوش إلى المستوى الأمميّ الرساليّ، ثم ينحدر به الآخرون إلى الأطر اللبنانية الضيّقة.
صحيح أن النظر الفاحص في حركة “الجماعة”، الراهنة والتاريخية، يستدعي التحفظ، إلا أنه يُثبت أن المشكلة متجذّرة في البنية الفكريّة والتنظيميّة المتّصلة بجماعة “الإخوان المسلمين”. فـ”الإخوان”، برغم انتشارهم في عشرات البلدان والأقطار، وبرغم تنظيمهم الهائل عالمياً، فإنهم يُراكمون فشلاً حين خوضهم في الممارسة السياسية؛ والأنكى أنهم لا يقنعون بالدّعوة والتبليغ والشأن الإنساني بل يُصرّون على الممارسة السياسية التي لم يكن حصادهم فيها ومنها شيئاً مذكوراً، إن لم يكن وبالاً.
لنمثّل الإشكالية ولنخترْ مشهداً يختزلها، فنجد أن الأمين العام للجماعة الإسلامية يخطب في مراسم تشييع القياديين من آل خلف في عكار، اللذين استُشهدا في الجنوب اللبناني “على طريق القدس”، فيؤكّد “استكمال مسيرة الجهاد حتى آخر رمق من أجل تحرير أرضنا في لبنان ومقدّساتنا في فلسطين”، مشدّداً على أنّ “غزة لن تبقى وحدها تواجه الإجرام الصهيوني”، معلناً أنّ “الجماعة لن تفوّض أمرها لا إلى شرق ولا إلى غرب بل إلى الله تعالى”، مما يعني أن الالتزام بتحرير الأرض المقدسة، ومواجهة الإجرام الصهيوني، في صلب مسؤوليات “الجماعة”، ولا يحول بينها وبين ذلك حدود وطنية أو إرادة دولية.
لم يُدارِ الشيخ طقوش في خطاب التشييع أحداً، بل أطلق العنان لخيارات “الإخوان” المبدئية، إذ عاهد المؤسّسين، لا سيما الشيخ الراحل فتحي يكن والشيخ فيصل مولوي والأمين العام السابق عزّام الأيوبي بالمضي في النهج “الإخوانيّ”.
في المقابل، يكتب المسؤول الإعلامي في “الجماعة”، د. وائل نجم، في مسألة نصرة “طوفان الأقصى” فيَجهَد ولا يفلح، في إبراز تمايز “الجماعة” و”قوات الفجر” في أدائهما العسكريّ بين محورين، ويقصد “محور المقاومة” و”محور التطبيع”، ليخرج بكونه محوراً دون العالمين!
لا بدّ لـ”الجماعة الإسلامية” أن تنهض لتحقيق شعاراتها على أرض الواقع ما بين الأسلمة والجهاد والشهادة. لكن تردّدُها ظاهر، فحيناً تهتف للقدس، وحيناً تعود إلى كنف الكيان الوطنيّ فتعتذر، ولا يُحتسب لها في ميزان “الوطنية والسيادة” رصيدٌ، وهي ماضية على سنّة مَن سبق متأرجحة ما بين خطاب الأممية والكيانية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً
أتكون التجربة “الإخوانية” في عالم العسكر من طينة مختلفة؟
تُكرّر “الجماعة” تجربة لم تكد تخرج منها بعد، حين اندرجت في صفوف الـرابع عشر من آذار في زمن الانقسام الوطني، وافترقت عن فريق الـثامن من آذار (2005)، من دون أن يجمعها بفريقها جامع إلا العصب السنيّ والموقف من اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ومن دون أن يُفرّقها عن الآخرين إلا الخصام مع سوريّا، لا سيما إثر اندلاع الأزمة السورية (2011)، في الوقت الذي كانت تتوهم فيه تمايزاً ما كان موجوداً إلا في خيال قيادتها، إذ هي أقرب إلى أخصامها ثقافياً ومفهومياً منها إلى “حلفائها”!
كذلك يفعل نائب بيروت، القيادي في “الجماعة”، الدكتور عماد الحوت إذ يتشبّث بالتمايز، برغم وقوعه في التناقض على المستوى المفهوميّ بين الوطنية ومفرداتها وتجسّداتها القانونية، وبين الأممية الإسلامية. فمن جهة، يُعلن تسليمه بسلطة الهياكل الرسمية في لبنان، وخصوصاً الجيش اللبناني، صاحب الشرعية في احتكار العنف والسلاح، ثم يصف حربه ضد إسرائيل بالحرب الدفاعيّة (وهو محق)، كأنّما يحاول التبرّؤ من استقلالية قرار المواجهة، ومن التنسيق مع المقاومة الإسلامية، فيما يصرّ- من جهة أخرى – على خوض “الجماعة” حرباً أخلاقية انتصاراً لغزة وللفلسطينيين المظلومين؛ فلا هو ترك المهمّة للجيش اللبناني كي يتصدّى وفقاً للدستور والقانون الوطنيّ الذي به تشبّث، بالرغم من عجز الجيش الميدانيّ، ولا هو تبنّى الخيار الشعبيّ المتاح والناجح، على غرار المقاومة الإسلامية – حزب الله.
فهل فشل الأمين العام طقوش في التعبير عن قرار “الجماعة” وسياستها وروحيتها، أم لـ”العلمانيين” في “الجماعة” رأي آخر؟
يبدو الجواب غير ناضج حتى الآن، لأنّ الأمين العام يُدشّن مرحلة حركيّة مفصليّة في تاريخ “الجماعة”، عنوانها الانخراط أكثر في ديناميات المواجهة الشعبية للسياسة الصهيونية وعسكرها في المنطقة بالتكامل مع محور المقاومة، وفق ما تجلّى في المرحلة التي تلت “طوفان الأقصى”، ممّا جعل بعض المتحاملين يصفونه بالموالي لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس)، ويوحون بأنه رجلها في “الجماعة”!
هل استجابت قواعد “الجماعة الإسلامية” لسياسة أمينها العام؟
تُظهر مناسبات “الجماعة” و”قوات الفجر” حراكاً شعبياً داعماً للخيار السياسي المقاوم، بالرغم من تلقّي الجسم التنظيمي ضربات ثقيلة نسبة إلى جسم “الجماعة” ولياقتها الحركية، وإن حصّنت هذه المواجهة “الجماعة” شعبياً، وعالجت الهوة بين شعاراتها المزمنة وركونها المزمن، بل منحتها حصانة طبيعية تجاه النزيف التنظيميّ الذي عانت منه طويلاً بسبب استنكافها عن مجاراة طموحات جمهورها. فـ”الجماعة الإسلامية” كحاضنة دعوية على الساحة الإسلامية السنية كانت فضاءً لنموّ خيارات حركية إسلامية، على اختلافٍ في شدّة تطرفها، بسبب تلكّؤ التنظيم الإسلامي التقليدي عن مواكبة حركة الشباب والديناميات الاجتماعية والحاجات الجماهيرية والطموحات… وما فتنة “داعش” منّا ببعيدة، حين ثار حَراك في طرابلس “عاصمة المسلمين السنة” على قولة النائب السابق محمد عبد اللطيف كبارة (أبو العبد كبّارة)، وتنازعت الجماعات المتطرفة الشباب المسلم فيما كان من الممكن أن تكون “الجماعة” هي الإطار الضامن للاعتدال الإسلامي. لكنها لم تفعل، أو لم تكن ترغب في ذلك، بل سايرت الظروف العامة، محلياً وإقليمياً، ولم تكن بمستوى الاستجابة للتحدّي الواسع.
إلى ذلك، لم تستطع “الجماعة” تطوير خطابها تجاه المكوّنات الإسلامية الفاعلة كحزب الله، في ما خصّ الانقسام على الساحة اللبنانية، أو الحرب في سوريا… واستمرّ خطابها على تقليديّته بل سلبيّته، من دون تقديم خريطة طريق أو برنامج سياسيّ ناجع يخدم مشروعاً بمستوى قوميّ أو أمميّ.
ويستمرّ الضعف البيّن ظاهراً في تصريحات العديد من وجوه “الجماعة الإسلامية” من ذوي الميول الكيانية الذين يُظهرون استلاباً أمام الخريطة الاستعمارية لصفقة سايكس-بيكو، وما أنتجته من هياكل ومؤسسات، ولا يجرؤون على تحدّيها، في الوقت الذي لا تزال شعارات الجمهور المعتمدة وليدة شرعية للمدرسة الإخوانية في كلّ جمع واحتفال، حيث يهتفون بالتكبير، وبترديد شعار “الإخوان”:
“الله غايتنا/ الرسول قدوتنا/ القرآن دستورنا/ الجهاد سبيلنا/ الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.
لا بدّ لـ”الجماعة الإسلامية” أن تنهض لتحقيق شعاراتها على أرض الواقع ما بين الأسلمة والجهاد والشهادة. لكن تردّدُها ظاهر، فحيناً تهتف للقدس، وحيناً تعود إلى كنف الكيان الوطنيّ فتعتذر، ولا يُحتسب لها في ميزان “الوطنية والسيادة” رصيدٌ، وهي ماضية على سنّة مَن سبق متأرجحة ما بين خطاب الأممية والكيانية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فهل تكون عُهدة الأمين العام الحالي مفصليّة في الواقع، فتسلك “جماعته” سبيلاً مختلفاً في عالم الحركيّة، كما سبقت حركة حماس شقيقاتها إلى ذلك، بفضل ذخيرتها الفكريّة ومراكمتها الحركيّة، لتكون جسماً تنظيمياً مخلصاً لعقيدته ومستجيباً لحركة جمهوره، من دون قيود وهمية أو عجز تنظيري في مواكبة الواقع.. وهذا هو رد “حماس” على استشهاد رئيس مكتبها السياسي اسماعيل هنية بانتخاب يحيى السنوار خلفاً له أفضل رد سياسي على من يحاول أن يحصل بالاغتيال على ما عجز عنه في الميدان.