فليخرج اليسار العربي من التنظير إلى الفعل

تعيش منطقة الشرق الأوسط مخاض "إعادة تكوين"، يرتبط بجملة متغيرات بنيوية في طبيعة الصراعات وفي نظمها، ما قد يُحدث انتقالاً صعباً في الوظيفة والدور لكثير من المكونات السياسية والاجتماعية والعرقية والأثنية.. وبالتالي يجعل المواجهة تتخذ أشكالاً مغايرة تماماً عما كان سائداً.

الثابت الوحيد حتى الآن هو العدو الصهيوني، الذي فتحت له كل إمبرياليات الغرب الاستعماري مخازن أسلحتها وأموالها مانحة إياه دعماً وغطاءً غير مسبوقيّن منذ قيام الكيان حتى اليوم.. وما نشهده في هذه الأيام التاريخية من انحياز أميركي وغربي للحرب الإسرائيلية ضد إيران هو دليل إضافي على وظيفة عدونا من جهة ومصير كل من يرفع رأسه ويقول لا من جهة ثانية.

لقد أسقطت تلك الإمبرياليات كل شعاراتها الزائفة، من حقوق إنسان وديموقراطية وحرية.. في مهب المصالح المرتبطة بمواقع نفوذ أو نهب ثروات. وللتذكير، هذا ما كان يجري منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، أي منذ أن وضعت “سايكس بيكو” أوزارها في منطقتنا ورمت أمتعتها وبضاعتها في بلداننا. هذه الطبيعة متأصلة في التكوين والأساس وليس بالاكتساب؛ فتاريخ ورثة الأنوار لم يكن نوراً بل عدواناً بلبوس التحضّر، وبمضامين استعمارية، وعليه جاء توزيع الدول والممالك وطبيعته التفتيتية بالإضافة إلى شعارات الحرية وحقوق الإنسان..

هي إذن كانت البذرة التأسيسية للانتداب ولاحقاً للاحتلال. هنا كانت المعضلة التي وقعت فيها النخب السياسية العربية أو الشرق أوسطية، سواء عن قصد وتواطؤ أم عن جهل، فالنتيجة واحدة والواقع يشي بذلك وبوضوح. لم تكتف تلك النظم بالمخططات فقط، بل عملت على زرع كيان هجين في منطقة “التنوع”، ثم جاءت لتقيم بيننا منتدبة، محتلة. هو واقع عشنا تداعياته قرناً من الزمان ولمّا نزل.

الوقائع المحققة

لقد سقطت الدول في فخ التقسيم المرسوم في الأساس؛ فسايكس بيكو لم تعط دولاً، بالمعنى العلمي المتعارف عليه في مضمون كلمة “دولة”، بل أعطت كيانات مغايرة، إن بالتكوين أو بالوظيفة. لقد عادت إلى الخطاب السياسي العربي والشرق أوسطي مفاهيم العشيرة والمذهب والعرق والأثنية، ما يفرض اتباع سلوك الصراع الدائم بين تلك المكونات من أجل البقاء.

لقد عاد الخطاب السياسي إلى ما دون منطق الحداثة، المتعثرة منذ بداياتها، وفقدنا أي إمكانية لولوج أبواب الأنوار من خلال قضاياها ومرتكزاتها، فأُجهضت كل محاولات إعادة تكوين العقل العربي ووعي أبنائه لمتطلبات العصر وروحه.

لقد آثر الاستعمار الغربي غلق أبواب أي إمكانية لنسج علاقات بينية بين أبناء المنطقة وأية محاولة لكسر السيطرة بكل اشكالها، فسقطت دول سايكس بيكو بين “تجميعة” مذاهب أو أعراق أو دول فاقدة لموجبات قيامها، مانعة في الوقت نفسه إمكانية أي استقلال مهما كان نوعه، باستثناء الذي تحتفل به الدول وهي ترفع علم منتدبها السابق شاكرة له على ما فعله!

إن ما يحصل في المنطقة من محاولات لإعادة تشكيلها وفق أسس مغايرة أصبح واضحاً وجلياً. لقد سقطت دول، إن بالجغرافيا أو بالوظيفة، وتقدمت مشاريع مختلفة. المنطقة في مهب إعادة التكوين؛ المشاريع المذهبية أو العرقية أو الدينية تتقدم في كل اتجاه وتنشئ لنفسها كيانات وأدوار وباتت محمية من قوى الغرب الاستعماري. فبحجة حقوق الأقليات بدأ مشروع التفتيت. وفي المقابل، التوسع الرأسمالي بعدته وعديده ودوله وأمواله ومشاريعه يتقدم وبخطى ثابتة، فتتقاطع المصالح بينه وبين تفتيت الدول؛ فكلما توسعت مشاريع الرأسمال كلما ضاقت حدود الدول وانتفت وظائفها وتفككت بناها. هي معادلة واضحة، إذ لا يتطابق قيام الدول الوطنية، إن بالجغرافيا أو بالوظيفة، مع مشاريع دول الاستعمار في منطقتنا، فنرى اليوم هذه الفوضى الكبيرة ما يُعيدنا إلى مصطلح “الفوضى الخلاّقة” التي بشرتنا به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في بدايات الألفية الثانية والتي أكدتها حروب افغانستان والعراق ولبنان وفلسطين.. وعليه تستكمل اليوم المرحلة الأكثر خطورة بوضع المشروع موضع التحقق الفعلي.

المعركة واضحة وأدواتها مكشوفة ومعلنة. لا يمكن أن يلتبس الأمر على اليسار العربي بكل أطرافه، فليخرج من الخطاب إلى الفعل، فالبيان ليس سلاح والمطولات اللغوية ليست مواجهة. الفئوية والأنوية والمعايير المتوارثة لم تعد تجدي نفعاً، فمصير المنطقة يحدده اليوم الاسرائيلي والغرب الاستعماري وليس الشعوب. لا مكان للمقارنة. تجميع القوى مطلوب والتقاطعات المرحلية مطلوبة. نحن في مرحلة كسر الهيمنة وضرب مشروعها

ما العمل؟ 

هو سؤال متعدد الاتجاهات والاجابات، إذ لا يجوز بأن يكون جوابه مرتجلاً أو ردة فعل؛ لقد فشلت حركات التحرر الوطني بكل فصائلها ومرتكزاتها، التي شغلت حيزاً مهماً من المواجهة، إن في العراق أو فلسطين أو سوريا أو لبنان، في تقديم المشروع السياسي الواضح وتنفيذه في دولها، إذ استسهلت منطق السلطة على منطق الدولة وآليات بنائها، ففشلت في بناء “الدور المطلوب” وقمعت في آليات السلطة، وتحولت بأجزاء منها إلى استبداد. و”القوى الاسلامية المقاومة” لم تبتعد عن ممارسة السلوك نفسه، إذا كانت “مقاومات” وعينها أيضاً على سلطة. هم في المنطلقات متناقضين، إن بمواجهة المشاريع الغربية في منطقتنا بكل اشكالها، أو في بناء الدول الوطنية والتي قامت على تفاهمات تحولت إلى شراكة، تجمعها السلطة وممارستها وتفرقها كل بقية القضايا، وهذا ما كان الوضع عليه، تحديداً في لبنان وفلسطين. من خلال هذا التوصيف المبسط نستكمل، بأن المواجهة المفتقدة للمشروع السياسي الجامع كانت “كعب أخيل” الذي نفذت إلى داخله أشكال من تنظيمات، ملتبسة في تكوينها ووظيفتها ومختلفة في ولاءاتها، ما مكّنها من تسلّم راية مواجهة الأميركي من موقع بعيد كل البعد عن منطلقات الشعوب وتطلعاتها، وهذا ما شكّل في كثير من الأحيان مخرجاً للأميركي بالانهزام المرحلي كحالة افغانستان لمصلحة حالة هجينة من حكم لا يمكن أن يتعايش إلّا مع ذاته وإيديولوجيا لا تحكم إلّا أصحابها وحكم غير معترف بشرعيته.

إقرأ على موقع 180  جان عبيد.. الحكيم والحَكَم

من هذا المنطلق، ونحن في أتون تحولات متسارعة في المنطقة، تُزال حدود وتُرسم غيرها، تتداخل المنطلقات وتتقاطع الدروب، تذهب نظم وتولد أخرى.. الأرجحية اليوم لمشروع الاحتلال ولتعطيل الدول. هو مشروع بأوجه متعددة وبأدوات مختلفة. الأميركي هو المسيطر، وحدود الكانتونات تُرسم بالدم والنار، الدول الوطنية تنهار فتصبح إمارات ولكل واحدة أمير له من يحميه ويواليه. المشروع الوطني – القومي – العروبي سقط في مفرمة المذاهب والطوائف والملل، عاجز عن الصمود أو المواجهة. دول تفككت وكيانات تتمدد كاسرة الجغرافيا. سايكس – بيكو تُعيد رسم خرائطها وأدوار دولها وحكّامها. حدود المواجهة وقواها وأهدافها واضحة ومعلنة. المشاريع المعمول بها مخططاتها مكشوفة والعمل جاري على تنفيذها. الأميركي والاسرائيلي يمارسون القتل الممنهج والتوسع على حساب الدول والحدود والشعوب. دول تفقد وحدة أراضيه وأخرى تستباح وحدود تتغير، تتقلص دول وتتمدد أخرى.. فماذا عسانا فاعلين؟

اليسار بكل فصائله، مطالب بأن يُقلع عن الخطابات المكررة، وأن يكسر شرنقة التقوقع والأدوار المفقودة؛ المعركة واضحة وأدواتها مكشوفة ومعلنة. لا يمكن أن يلتبس الأمر على اليسار العربي بكل أطرافه، فليخرج من الخطاب إلى الفعل، فالبيان ليس سلاح والمطولات اللغوية ليست مواجهة. الفئوية والأنوية والمعايير المتوارثة لم تعد تجدي نفعاً، فمصير المنطقة يحدده اليوم الاسرائيلي والغرب الاستعماري وليس الشعوب. لا مكان للمقارنة. تجميع القوى مطلوب والتقاطعات المرحلية مطلوبة. نحن في مرحلة كسر الهيمنة وضرب مشروعها. فلتتضافر كل الطاقات لأجل هذا الهدف من دون الالتفات إلى الوراء. هي معركة مصير، الرابح فيها هو من سيبني مستقبل المنطقة ويحدده، والخاسر هو من سيدفع الثمن. هي مرحلة يتقدم فيها المرحلي على ما عداه..

الاسلام المقاوم

خطوط المواجهة ليست مرتبطة باستهداف هذا الطرف أو ذاك، بل يشمل المنطقة بكل تكويناتها. الأنظمة تواطأت وساومت وفتّشت عن مصالحها أينما كانت. لا يجب أن يكون القرار من خارج الحيّز المقاوم الذي يتسع للجميع. حماية النظم الحاكمة أو المشاركة فيها، بالرغم من فشلها وتواطؤها مع العدوان ليست “براغماتية” بل خطأ. لا يستوي المشروع المقاوم التحرري مع الدخول في هياكل قائمة اثبتت فشلها وتبعيتها، هي بالأساس وجدت لأجل ذلك وهي صنيعة الغرب ومدعومة منه، بل بكسره والدخول في بناء الدولة الوطنية القادرة على المواجهة وعلى تغليب مصالح شعوبها. المذاهب والطوائف والأعراق ليست الحيّز الذي تُبنى فيه مشاريع التحرر والتحرير بل هي مكان للمساومات.

وللقوى القومية (بكل فصائلها)؛ السلطة ليست استبداداً، وإطلاق حرية الشعوب يحمي الخيارات الكبرى. المنطقة في مهب الضياع، المشاريع التقسيمية تتقدم بوضوح في منطقتنا، مستفيدة من إرث لم يكن بمجمله ايجابياً. إعادة تكون الخطاب السياسي وممارسته أولوية لإعادة تصويب الاتجاهات.

إن عودة المشروع الوحدوي على أسس واضحة أصبحت اليوم فرض واجب على الجميع؛ كسر الهيمنة بكل أشكالها؛ فك التبعية بكل أنواعها؛ بناء البرنامج وتجميع المقدرات الشعبية وتعبئتها.. كُلها تُشكّل المدخل اللازم لإعادة بلورة طبيعة الصراع في منطقتنا.. وحتماً كانت فلسطين وستبقى هي البوصلة والاتجاه.

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

كاتب، أكاديمي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  نتائج إنتخابات بريطانيا وفرنسا.. مائة سنة إلى الوراء!