

لكنْ… خطر لي للتوّ مقارنة مختلفة تماماً، بين “الكيان الغاصب” وطائر الوقواق. لا بُدّ أنكم تعرفون هذا الطائر وتشاهدونه يومياً داخل المدن!
ففي منتصف تسعينيات القرن العشرين، نشرتْ لي وزارة الثقافة السورية في دمشق، أول تعريب أقوم به لمجموعة قصص لليافعين، باللغة الإسبانية، للأديبين الإسبانيين المعروفين رافائيل سانتشيث فيرلوسيو وميغيل ديليبِس؛ وكان عنوان الكتاب: “ضيف الثلوج وحكاية مثيرة لثلاثة طيور”.
وفي حكاية “الوقواق”، حكى الأديب ديليبِس عن هذا الطائر “الغازي” والمتطفّل والمزعج والشبيه بالغراب، لكنه يستوطن المدن، ولون ريشه أسود ورمادي، وصوته غريب ومنفّر، ولا أحد من سكان المدن يحبّه، ولا أحد من الطيور اللطيفة والمسالمة، كالحسّون والدوري والكروان والحمام بأنواعه، يقترب منه ويستطيع مجاورته، بل إن تلك الطيور تهرب منه وتبتعد عنه اتّقاءً لِشرّه المستفحل! أما الإنسان، فينفر من شكله ومن صوته الشبيه بالنعيق! فالجميع يكرهه بلا استثناء!
أعود معكم إلى حكاية الوقواق للأديب ديليبِس: فقد عرّفنا هذا الأديب الإسباني على كيفية عيش هذا الطائر “الطفيليّ”. فالوقواق لا يبني له عشّاً كما تفعل باقي الطيور، بل “يحتلّ” أعشاش الطيور الأخرى! فلدى أُنثاه القدرة على توزيع بيوضها على أعشاش الطيور الأخرى، “حيلةً وغيلةً”؛ ولبيوضه، هذه، ميزة “الخبث” في أنها تتلوّن باللون نفسه لبيوض الطيور في تلك الأعشاش: فتستطيع بخبثها، وهي لمّا تفقس بعدُ، أن تكون بيضاء أو سمراء أو منمّشة، حسب لون البيوض في العشّ المضيف لها “غصباً”، فهي “تسرق” من البيوض في هذا العشّ المضيف “ألوانها وتراثها وطعامها” كذلك، بعد أن تفقس! كيف؟ سأشرح لكم هذا الأمر.
حين تمارس بيوض الوقواق “خبثها”، فتتلوّن بألوان بيوض العشّ المضيف، لا تميّز الأنثى “صاحبة” هذا العشّ بين بيوض الوقواق وبيوضها، فتحتضنها جميعاً وتدفئها حتى تفقس، وهي لا تدري أنّ صغار الوقواق ستشكّل كارثة حقيقية على صغارها! فالوقواق الصغير، ما أن تفقس عنه البيضة، حتى يستغلّ ذهاب الأنثى الأم لإحضار الطعام لصغارها، فيقتل لها صغارها، في البيض، بدفع البيض خارج العشّ، فيقع وينكسر ويموت الجنين، أو بدفع الصغار خارجه للموت، أو بالاستحواذ على كل الطعام الذي تأتي به الأنثى الأم، فتكون النتيجة هي ذاتها، “قتل” صغار الطيور، أصحاب العشّ الأصليين!
هكذا، يبقى الوقواق الصغير وحيداً في العشّ المضيف، مستمتعاً بكل الطعام، قاتلاً لكل “صغار” الأمهات من الطيور… أما الإناث الطيور صاحبات العشّ المضيف، فتستمرّ في تغذية صغار الوقواق، معتقدةً أنها صغارها! وهكذا، يكبر الوقواق وينمو ريشه ويقوى ويطير على حساب حياة الطيور، “سكان” الأعشاش الأصليين والأصيلين، فيستوطن المدن لإزعاجنا بصوته المنفّر وعدائيته للطيور المسالمة وحتى للإنسان… وتتكرّر مأساة الطيور الصغيرة المسالمة، طالما استمرّ هذا الوقواق في “احتلال” أعشاشها! لكنه، مع ذلك، فقد حرمتْه طبيعته من “السَكَن والسكينة”، فهو لن يعشّشَ مطلقاً ولن يكون له بيت طبيعي وسيبقى “غريباً” عن محيطه “ومنبوذاً” فيه! وتالياً، فهو لن يبقى له وجود أصيل في “الحياة الطبيعية” لطيور البيئة المسالمة وللبشر، بل سيظلّ “طارئاً” عليها “ومؤقتاً” فيها!
في هذه الأيام العصيبة التي يمرّ بها إقليمنا ومحيطنا، تذكّرتُ هذه الحكاية، وخطرتْ لي فكرة المقارنة بين كل ما يفعله الوقواق من “تطفّل واحتلال غصباً، وحِيَل وخبث، وسرقة موصوفة للفرح والتراث والأرض، واعتداء على منطقتنا كلها، وتشريد وقتل للناس غيلةً، وبخاصة للأطفال، بوحشية”، وشنّ الحروب الواسعة على كلّ دولة ذات سيادة، كما “يشنّ الوقواق حربه قتلاً” على الأعشاش الأصيلة وعلى “سكانها الأصليين”! فهذا الكيان الغاصب لا يعيش ولا ينمو إلا بالاعتداء وإعمال القتل والتدمير في منطقتنا وفي أرواح سكانها، وبخاصة في فلسطين، جنوب بلاد الشام، وفي لبنان، وها هو اليوم يعتدي على إيران وحواضرها كي ينعم وحده بمقدّرات المنطقة وبالتوسّع والسيطرة، باستخدام شتّى الذرائع، فهو لا يعدمها مطلقاً!
***
أخيراً، ولمن يردّد على مسامعنا، صباحَ مساء، بذريعة الواقعية السياسية، بأنّ الكيان واقع حقيقي في هذه المنطقة ولن يزول، أقول: ليس كلّ ما نراه هو الواقع الحقيقي فعلاً، فأنا على يقين أنه لن يكون لهذا الكيان الغاصب -“الوقواق” سَكَناً مُستداماً وسَكينة في منطقتنا وفي بلاد الشام تحديداً، بل سيبقى وجوده “غريباً ومنبوذاً وطارئاً ومؤقتاً”، فها هم مستوطنوه يرحلون بالقوارب، هرباً من القصف، وها هي الهجرة العكسية لهم تتفاقم، ولا بُدّ لملايين المارّين “بين الكلمات العابرة” من أن يخرجوا يوماً، من “أرضنا، من برّنا، من بحرنا، من مِلحنا، من جرحنا”، وألا يُقيموا بيننا… فقد آنَ لهم أن ينصرفوا!