

كنتُ طفلاً أتردد مع أمي على بيت أمها لنقضي في صحبة العائلة الممتدة يوما بليلة أو ليلتين كل أسبوع. هناك في قلب قاهرة المعز يعيش المصري ساعات من تاريخ بلده. طراز البيت والمسجد المقابل له ومدرسة حفظ القرآن الملحقة به والسقا الواقف في انتظار خروج المصلين وبائع البليلة وفي الغالب رافعاً جلبابه حتى قرب وسطه، ومن مسافة غير بعيدة يأتي من عشرات الدكاكين المنتشرة على جانبي شارع أمير الجيوش صوت الدق على النحاس تمهيداً لجليه، لا يهدأ الدق إلا عند سماع الآذان صادراً من مئذنة الجامع بأحلى صوت وأجمل لحن.
***
لم أقضِ وقت الطفولة كله في أحضان عدد غير قليل من الخالات والقريبات، فالرجال قليلون في عائلتنا. كانت التقاليد تفرض أن نتعلم نحن الصغار بنينا وبنات اللغة العربية والدين بين يدي شيخ معمم. أعتقد الآن، وقد صرت أكبر منه بعقود، أن له الفضل في وضع الأساس السليم ليس فقط لإتقان اللغة كتابة ونطقاً، بل له فضل آخر لا يقل شأناً، وهو أنني تعلمت تفسير كثير من الظواهر والمفاهيم والعادات بإعادتها إلى جذورها في تاريخ البلد، مصر يعني، وبخاصة تاريخها السياسي.
***
للرحلة الأسبوعية مع والدي إلى حي الحسين والوكالات التجارية العملاقة في شارع الموسكي والغورية والصاغة لأداء فروض تجديد الولاء للكبار في عائلته. هناك كنت أسمع، ولم أكن اقتربت من سن الشباب، حكايات حب في مصر يرويها باعة من اليهود والمغتربين من الريف والصعيد. كانت لوالدي وأشقائه وأقربائه ممن كانوا في مثل عمره روايات عن بطولات وتضحيات المصريين في ثورة 1919.. يشعر السامع وكأن مصر ولدت في تلك الثورة، إلا عندما يمتد الحديث إلى ثورة عرابي التي يقسم كل متحدث أنها لم تكن هوجة كما يدعي البعض.
***
لا تفوتني مناسبات كانت ضرورية لتشكيل الوعي الوطني لطفل ثم مراهق شغوف بمعرفة كل ما هو جديد وكل ما يقف وراء مظاهر أو ظواهر. أتذكر جريدة مصر الناطقة التي كانت تنقل لنا في دور السينما مظاهر استقبال “جلالة الملك المعظم”. أتذكر الحفاوة التي كنا نستقبل بها زيارات الملك ورؤساء حكوماته. حدث خلال مرحلة أكثر تقدماً في مسيرة نضجي أن استفسرت من والدي عن السبب وراء نقص الحفاوة مقارنة بسنوات الطفولة المتأخرة وسنوات المراهقة المبكرة. أتذكره يقول شيئاً عن تدخل الإنجليز في تفاصيل السياسة المصرية وفساد أهل القصر والشعبية المتزايدة للوفد.
***
لاحظتُ الفتور من استجابات الحضور لظهور الملك وحاشيته في جريدة مصر الناطقة ومن تحول الشعبية في اتجاهات أخرى. من هذه الاتجاهات على سبيل المثال الإقبال الأشد على توديع المحمل مزوداً بالدموع والفرحة وأحيانا كثيرة الهتاف لفريق الفرسان المرافق له. منها أيضاً تصاعد وتيرة مظاهرات الطلبة ضد الإنجليز ثم ضد الملك والإنجليز معاً. لا شك في أن المظاهرات في حد ذاتها كانت إحدى أهم مدارس بناء الوعي الوطني.
***
بالنسبة لتجربتي الخاصة أعتقد أنه مما رسخ في عقل الطفل في تلك الأيام حب الوطن تجنيد الأطفال في عموم مصر بأسرها لمدة أسبوع كامل للتدريب على الاحتفال بعيد ميلاد الملك وعيد جلوسه على العرش. ظل المنظر في ميدان عابدين محفوراً في مخيلتي لسنوات عديدة تغذيه أمي التي كانت تفاخر شقيقاتها وجاراتها بابنها المحظوظ.
***
رسخ الحب للوطن أيضاً، إلى جانب المظاهرات والاستعراضات الرياضية في ميدان عابدين، الانتخابات الدورية لعضوية مجلس النواب. أتذكر جيداً أحد معلمي الحي وقد امتطى حماراً وأطفال من الأحياء المجاورة بالجلاليب تركض خلفه وهي تهتف باسمه ملحقة به رتبة البكوية. كانت المناسبة كافية لتجعل الحي يعيش فرحة حقيقية لا تُصنع فيها، فها هو ابن الحي يدخل البرلمان تحت القبة التي منحت الحي هيبة إضافية بعد كونه حي سكن موظفي الدولة ومعظم مباني الحكم.
***
كان والدي على حق حين شجعني على الانضمام لفريق الكشافة بالمدرسة الابتدائية ثم في المدرسة الثانوية وفي الجامعة. أتصور أنه أراد إلى جانب رغبته في دعم الوعي بالوطن، وكان محقا في هذه الرغبة فعائد الانضمام إلى الكشافة مراهقاً ثم شاباً كان فوق كل تصور.
***
دار الزمن دورة من دوراته. صار الشاب رجلاً ثم كهلاً. تغيرت فيها أمامه السياسات والأشخاص والأشياء. تغير علم مصر الأخضر ولم يقنع الشاب سبب واحد من كل الأسباب التي ترددت دفاعاً عن العلم الجديد. ثم تغير لبعض الوقت اسم مصر بل واختفى لسنوات عاد بعدها، وإن ضمن صيغة أوسع، ولكن وسط ترحيب يعزز التمسك باسم مصر، مصر الوطن.