خواطرُ رجلٍ مسن..

إنها والله لنقلة كبرى. سنوات وأنا أكتب في هذا الباب من صفحة الرأي بالشروق يوميات عن تطورات أو أحداث في حيواتي الماضية، حياة الطفولة وحياة المراهقة وحياة الشباب وحياة تنقلت فيها بين الدبلوماسية والعودة للدراسة والصحافة والعمل السياسي العربي، عن هذه وتلك نقلت بعض ثمار تنقلي بينها وبين ثقافات لا اتفاق أو توافق بينها إلا ما ندر.

حاولت بنجاح قليل ولكن كافٍ أن أفصل بين ما هو شخصي جداً، يعني شئون أفراد عائلتي وبين ما هو ضروري في كتابة سير ذاتية لاطلاع أشخاص، أقصد قراء، لم أتبادل معهم العلاقة التي تسمح لهم بأن يتسللوا إلى داخل هذا الفانوس السحري الذي يحتاج لينبس أو يكشف عن بعض أهم مكنونه إلى أكثر من حكة إصبع أو دفء صدر حنون أو عذوبة كلمة من لسان فاهم.

***

أعترف أنني لم أجد صعوبة كبيرة في اختيار الحدث أو أبطاله أو نهايته. فالماضي لمن عاشه كنز يستحيل أن يفنى وبخاصة إذا توافرت شروط: ذاكرة تتجدد وفضول لا يهدأ وشهود بشهادات متنوعة. أظن أن الكتابة عن تجارب ماضي متعة لا تجاريها متعة أخرى. لا شك أن المؤرخين محظوظون باختيارهم مهنة الكتابة التاريخية ولكن المسئولية هائلة وخطيرة والتسلح بالضمير وحده لا يحمي. الإغراء قائم باستمرار، أن يعيد المؤرخ كتابة واقعة بعينها أو صفحة بكاملها.

***

عشت أسمع عن المسنين أن ذاكرتهم باعترافهم مشكوك في سلامتها. وفي الحقيقة لم أقابل مسناً، وأنا منهم، إلا واشتكى من ظاهرة النسيان. ينسى الفرد منا ما حدث له بالأمس، أو من دقائق، ولكنه لا ينسى مشاهد كثيرة عن طفولته وسنوات دراسته الابتدائية. أنا نفسي ما زلت أتذكر وبالوضوح، غير الممكن، أوقات قضيتها داخل مشربية بابها على الداخل مغلق ومن خلفي “الستات” مجتمعات حول صينية القهوة وعلى سطحها السبرتاية وعلبة البن والملعقة والفناجين، مطمئنات إلى أن الأطفال رضعاً كانوا أو أكبر قليلاً محشورون في أمان داخل المشربية، هم أيضا وأعني الأطفال، مطمئنون فالأمهات أجساماً أو أصوات على بعد صرخة جوع أو لسد حاجة من طفل أو أكثر داخل مشربيات صالة أو غرفة “المسافرين” يتسلى من موقعه بالمارة والباعة المتجولين في الطريق من ناحية وبنساء العائلة من الناحية الأخرى.

***

ما زال الجدل دائراً إن كان ما رويته بتكرار وإصرار عن مشربيتي في بيت العائلة المطل على الجامع في شارع أمير الجيوش الجواني سرداً صريحاً وصادقاً لجانب من ذاكرة طفل. أنا نفسي عشت مراهقتي وفترة من شبابي أشك في هذه الذاكرة فتجرني قدماي إلى البيت العتيق، حتى بعد أن صار مدرسة لأتأكد من وجود المشربيات واتساع سعتها لطفل غير قليل الحجم. أما وقد كبرت وبقيت الرواية وغيرها من الروايات عن الطفولة في مخيلتي لا تغادر وتتحدى منطقاً بعد آخر صرت أقبل بكثير من التردد المنطق القائل إن المشربية واقع حقيقي وكذلك استعمالها لتأمين حياتنا كأطفال ولراحة الأمهات والخالات واقع أيضاً، أما ذاكرة طفل ثم مراهق وشاب ورجل ومسن تحتفظ به لعقود فلذلك تفسير وهو أن هذه الجماعة كانت تكرر أمامي هذه الرواية حتى صارت محفورة في مخيلتي..

***

لم يعد هذا الأمر يهمني بنفس الدرجة بعد أن صرت في غمار محاولة فهم ما يدور حقيقة في رأس رجل مسن أو سيدة مسنة. احترت في التعريف بصفة المسن. لا الكهل مرغوبة ولا العجوز محببة ولا الشيخ مناسبة. عندما يكون موضوعنا كبار السن فنحن في واقع الأمر ولمراعاة الدقة أمام فئة من البشر لم يوجد مثلها من قبل. أعني ما أقول. قالت شقيقتي ونحن نناقش وضع مسني هذه الأيام بالمقارنة بوضعهم قبل أربعين عاماً: “كانت إذا اجتمعت خالاتي في مناسبة اعتبرناهن من جيل المسنات علماً بأن أكبرهن سناً لم تزد في ذلك الحين عن الخمسين ولم تعش حتى الستين وواحدة منهن عاشت دون الأخريات حتى السبعين”.

***

كان في حيّنا مقهى تحت عنوان “قهوة المالية”. يرتاده بانتظام متقاعدو وزارات المالية والتعليم والصحة وغيرهم من أصحاب المعاشات. هم في العرف العام مسنون. كل منهم كان صاحب مرض خائلي أو حقيقي. أغلبهم يحملون عصا يتكئون عليها أثناء المشي أو لزوم الهيبة. أنا شخصياً أذكرهم وقد خلعوا طرابيشهم ووضعوها على أقرب كراسي غير مشغولة وراحوا يلوحون بمنشاتهم لطرد الذباب والناموس إن وجد. كان سن الستين في نظر الحكومة ومؤسساتها خط النهاية لمشوار المواطن المصري منذ ولادته وحتى وفاته. كثيراً ما سمعت عبارة “حسن الختام” تتردد على ألسنة ضيوف أبي ولم أفهم وقتها دلالاتها.

***

أما وقد تحدثت عن ضيوف أبي، أجد من المفيد وأنا أحكي عن كبار السن في تلك الأيام أن أفرد له سطوراً ولو كانت قليلة. تزوج وهو دون العشرين من ابنة الجيران وهي دون الرابعة عشر وأنجبا أنثى ثم ذكرا . تأخر وصولي لاثني عشر عاماً لأسباب صحية غير معلومة في تلك الأيام. ولّد هذا التأخير تعلقاً بالغاً بالمولود رضيعاً ثم طفلاً فمراهقاً فشاباً فرجلاً متزوجاً وأباً لطفلين ثم ثلاثة. أثمر التعلق حرصاً على تلبية أي رغبة لهذا الإبن، أكانت متخيلة هذه الرغبة أم معلنة. أثمرت أيضاً تناقضات في العلاقة ظلت غير معلنة أو محاطة بقصص محبوكة عاشت أمي ترويها دفاعاً عن أبي وعن العلاقة.

إقرأ على موقع 180  مراهم الهدنة غير كافية.. ونار الإقليم قابلة للإشتعال

هذه العلاقة أثمرت من بعده في شخصي مسناً آخر تطبع ببعض طباعه ولكن بإيقاع وإيحاءات زمن آخر غير إيقاع وإيحاءات زمانه الأول.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لماذا قرر بايدن عدم دعوة مصر إلى "قمة الديموقراطية"؟