العودة إلى قسطنطين زريق: معنى النكبة الفلسطينية مُجدّداً ومُجدّداً

تتكدّس الأسئلة ومعها تتكدّس تداعيّات الهروب من الأجوبة. لم يبدأ ذلك مع كوارثنا الأخيرة حيث نسينا فنّ طرح الأسئلة ناهيك بالأسئلة الصحيحة، وبالتأكيد لا جواب خارج أفق السؤال الغائب أصلاً. لهذه القصة تاريخ؛ بعضه من عمر إحتكاك مشرقنا مع الغرب، وآخرها يعود إلى نكبة فلسطين، "النكبة المستمرّة" بلغة الياس خوري، وما لحقها من نكبات وهزائم حتى يومنا هذا. نكبة في لبنان ونكبة في سوريا ونكبة جديدة في ما تبقى من فلسطين.

إلتصق مفهوم “النكبة” بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل وهزيمة الجيوش العربيّة وتحوّل أكثر من 800 ألف فلسطيني إلى لاجئين، وإفراغ وتدمير أكثر من 400 قرية فلسطينية. لم ينتظر قسطنطين زريق المفكّر والأستاذ الجامعي السوري لكي يبدأ في طرح الأسئلة. تبدى السؤال عنده خطوةً أولى في هجوم مضّاد يطال مواقع الفكر والثقافة المهيمنين في ذاك الزمن للرّد على ما حلّ بفلسطين؛ فكان كتابه “معنى النكبة” الصادر في العام 1948.

إفتتح زريق كتابه “معنى النكبة” بتوصيف دقيق لهزيمة العرب في فلسطين ليس بوصفها نكسة بسيطة “بل إنّها نكبة شديدة، لا بل من أشدّ ما حلّ بالعرب خلال تاريخهم الطويل. سبع دول تقف عاجزة مهزومة، خطب ناريّة في المحافل الدوليّة تحمل إنذاراً تلو الإنذار إن صدر هذا القرار أو ذاك”. أمام هذا الواقع الجديد المؤلم، يتابع زريق “من الحق والواجب أن نقرّ بقوة العدو الهائلة، فلا نُحمّل أنفسنا من اللوم فوق ما تستحق. ولكن من الحق والواجب كذلك أن نقرّ بأخطائنا ونتبيّن مصادر الضعف في كياننا، وأن نعرف مدى مسؤوليتنا في هذه الكارثة التي أصابتنا. ومن الشرّ كل الشرّ أن نتهرّب من هذه المسؤوليّة، ونعمي أبصارنا عن مناحي تقصيرنا، فننحى باللائمة على هذا أو ذاك من سوانا دون أن نرى الضعف والعيب والفساد في نفوسنا. فما أكثر ما نسمع بيننا اليوم من شتم اليهود، ومن تنديد بالإنكليز والأميركان والروس وبمجلس الأمن وسيط الأمم المتحدة وبكل من يقف مناوئاً لنا في هذا الصراع” (معنى النكبة.. ص 13).

أدرك زريق باكراً، وفي خضّم ما كان يجري في فلسطين في سنة 1948 أننا أمام نكبة حقيقيّة تطال كياننا، ليس فقط الكيان العلمي-العسكريّ نتيجة الهزيمة العسكريّة، بل تمتدّ إلى بنائنا الثقافي والفكري والإجتماعي، وهنا يكمن البعد الأهم والأخطر من النكبة حيث كشفت عن ضعف وخلل في مكامن ثقافتنا ونمط تفكيرنا. لذلك علينا أولاً: تبعاً لمقاربة زريق الإقرار بأخطائنا، لا بل بخطايانا، ومن ثمّ ننتقل إلى تحديد المسؤوليات وتحمّلها ومواجهتها، وهذا يكون بطرح الأسئلة مهما كانت صارمة وقاسية، بعيداً عن إلقاء اللوم على الآخرين، الإنكليز أحياناً واليهود أحياناً أخرى والأميركان في كل الأحيان؛ وبهذا يكون صاحب “معنى النكبة” قد حدّد نهجاً جديداً في التفكير والمقاربات الجديدة تبلورت لاحقاً في محاضراته وكتاباته الكثيرة، وفي قلبها يكمن طريق الخروج من النكبة إلى الإنتصار.

إذن نحنُ أمام مسار فكري حركي ينطلق من الواقع، واقع النكبة، يبحث في أسبابها الكامنة ويحاول تقديم الإجابات الصحيحة والصريحة، لأن “التساؤال هو الخطوة الأولى نحو التقدّم الفكري” بالنسبة لزريق، وذلك من أجل التحرّر من رواسب فكر النكبة والعبور الجريء نحو تحملّ المسؤوليّة ومن بعدها النهوض مجدّداً. وهذا يتطلّب “إنقلاباً تاماً في أساليب تفكيرنا، وعملنا وحياتنا بكاملها”. إنّها “الحقيقة الإنقلابيّة” التي تكلّم عنها لاحقاً المفكّر نديم البيطار.

حمّل قسطنطين زريق المفكّرين والمثقفَين العرب مسؤولية جديّة في الخروج من البلبلة والتخبّط الفكري الذي نجم عن النكبة لأنّها، من وجهة نظره، لم تُشرّد فقط مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم ووطنهم هائمين على وجوههم، “بل إنّ أفكارهم وآراءهم وأفكار أبناء وطنهم في شتى منازلهم قد شُرّدت أيضاً وهامت، فانتشرت فيهم بلبلة في الرأي، أقل ما يقال فيها نذيرٌ بشرّ أعظم إذا لم تُبدّد ويحل محلها تفكير صاف وعزم موحد”

بعد نكبة 1948، لم تُطرح كما دعا زريق الأسئلة الصعبة التي تنفذ إلى قلب المشكلة، والإقرار بالأخطاء لم يرَ النور، ولا المسؤوليّة وجدت من يتحمّلها. فكانت صواعق النكبة الثانية بإنتظار لحظة الإنفجار، فكانت الهزيمة أو قل النكبة الثانية، أو النكبة مجدّداً كما عنون قسطنطين زريق كتابه “معنى النكبة مجدّداً” الصادر عام 1967. وبدل السير نحو الإقرار بالأخطاء وتحمّل المسؤوليّات قامت إنقلابات عسكريّة بدتْ في الشكل ثأراً للنكبة وهزيمة الجيوش العربيّة ونجاح المشروع الكولونيالي الصهيوني بقيام دولة إسرائيل، لكن في الجوهر شكّلت قطعاً لطريق التغيير الحقيقي المطلوب في جميع الميادين؛ أكان في بناء الدولة والمؤسّسات وإنعاش الحياة السياسيّة بكل ما تعنيه كلمة سياسة، أو في خلخلة البناء الثقافي والإجتماعي المولِّد للنكبات والهزائم اللاحقة.

كانت نبرة قسطنطين زريق النقدية قاسية، فبعد مرور عقدين من الزمن على “معنى النكبة” حلّت الكارثة الجديدة، أو ما عرف بنكسة 1967، فأطبق المستعمرون على ما تبقى من أرض فلسطين، إضافة إلى أراضٍ عربية مصريّة وسوريّة وأردنيّة. والمتعارف عليه أن الكاتب العربي محمد حسنين هيكل هو من ألصق تعبير النكسة بدل الهزيمة بما حلّ سنة 1967، للتخفيف من وطأة تلك الكارثة. فكانت الخطوات الأولى للمراوغة والتمويه والهروب من المواجهة والإقرار بالأخطاء وتحمّل المسؤوليّة وطرح الأسئلة الصارمة القاسية أيضاً؛ فجاء كتاب زريق “معنى النكبة مجدداً” ليُعيد التأكيد على أنّ ما حصل في حرب 1948 كان عبارة عن نكبة لا نكسة، ومثلها ما أصابنا اليوم، في نكبتنا الجديدة.

إقرأ على موقع 180  أنطون سعاده.. شهيد فلسطين الشاهد (2/1)

بقيت الأسئلة الأساسيّة؛ أسئلة كتاب “معنى النكبة” دون أجوبة فجاءت نكسة أو هزيمة 1967 وجاء معها كتابه الجديد “معنى النكبة مجدّداً” حيث أعاد طرح الأسئلة القديمة والجديدة من وحي الهزيمة الثانية: “كيف يُمكننا أن نقلب المجتمع العربي قلباً جذرياً وسريعاً من مجمتع إنفعالي توهّمي ميثولوجي شعري إلى مجتمع فعلي تحقيقي عقلاني علمي؟ فالعلم الحديث هو مصدر القوّة الحربيّة والإقتصاديّة والسياسيّة. ولا يقوم العلم فقط في المصانع والمختبرات والإختراعات وسائر الإكتشافات النظريّة، بل يقوم بالعقليّة المدرّبة المنتظمة، العقليّة التي لا ترضى بالوهم بل تثور عليه والتي تؤمن بالواقع والإختبار” (معنى النكبة مجدّداً ص 16-17).

حمّل قسطنطين زريق المفكّرين والمثقفَين العرب مسؤولية جديّة في الخروج من البلبلة والتخبّط الفكري الذي نجم عن النكبة لأنّها، من وجهة نظره، لم تُشرّد فقط مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم ووطنهم هائمين على وجوههم، “بل إنّ أفكارهم وآراءهم وأفكار أبناء وطنهم في شتى منازلهم قد شُرّدت أيضاً وهامت، فانتشرت فيهم بلبلة في الرأي، أقل ما يقال فيها نذيرٌ بشرّ أعظم إذا لم تُبدّد ويحل محلها تفكير صاف وعزم موحد” (معنى النكبة: ص 17) ولهذا ركّز على دور المثقّف المفكّر العربي باكراً في أعماله الفكريّة حتى ما قبل النكبة و”معنى النكبة”؛ ففي كتاب “الوعي القومي” الصادر سنة 1939، ركّز على أهميّة الفكر والقول والعمل والشعور بالمسؤوليّة في حياتنا.

بالنسبة لزريق هناك ثلاثة مقاييس بها نعرف مدى تقدّم مجتمع ما. السيطرة على الطبيعة، الروح العلميّة، وإحترام الشخصيّة الإنسانيّة. وإن أردنا أن نختزل هذه المقاييس بواحد؛ إنّه مقياس الحريّة (ص 39). كان زريق حقّا سبّاقا في الفكر العربي وبخاصة الفكر القومي في الكلام عن الشخصيّة الإنسانيّة والحريّة التي يتمتّع بها الفرد.

ماذا لو كان قسطنطين زريق حيّاً اليوم في زمن “طوفان الأقصى”؟

حتماً سيكون شاهداً بألم شديد وبغصّة أشد على إستمرار هيمنة ثقافة ونمط تفكير كرّس حياته النقديّة لخلخلته وتفكيكه. فكرامة الإنسان التي دعا إليها شبه غائبة والروح العلميّة كذلك، أما غياب الحريّة فحدّث ولا حرج. فالفرد مهان لا بل غائب والكرامة مداسة والحريّة غائبة؛ أما العقليّة التى دعا إليها أيضاً والتي تؤمن بالواقع كنقطة إنطلاق، عكس العقليّة التى تؤمن بالوهم التي دعا للثورة عليها فما زالت تهجر ديارنا. وها هي العقليّة المهيمنة اليوم ما تزال بعيدة عن الواقع والعقلانيّة لا بل تلتحف بالوهم الذي دعا للثورة عليه والإطاحة به. وهل هناك أشدّ بعداً عن الواقع والعقل، وأشدّ وهماً من دعاة ومثقفي “طوفان الأقصى”؟

Print Friendly, PDF & Email
إسكندر منصور

كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركية

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  أزمة الإخوان المسلمين.. نُذر النهاية