الإعتراف بدولة فلسطين.. صحوة دولية متأخرة!

منذ مذبحة الجوعى وصولاً إلى مجزرة مخيم النصيرات مروراً بمحرقة رفح، ما زال عالم الشمال، دولاً وحكومات، يستمر بالتواطؤ في صمته ويغرق في عجزه، ويتردد في خياراته ومواقفه، باستثناء قلة خرجت عن صمتها لتبادر إلى الاعتراف بدولة فلسطين ظناً منها بأنها تُقدِم على فعل يساهم في دعم الفلسطينيين بمواجهة مذبحة وحشية إسرائيلية متلفزة يتعرضون إليها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى يومنا هذا.

لا شك في أن توحش دولة الاحتلال في حملتها الهمجية الأخيرة والمتواصلة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أدى إلى نفور بعض الدول من الوحشية التي تمارسها تلك الدولة، إلا ان مقاومة الفلسطينيين وصمودهم الأسطوري هو الذي أعاد إحياء القضية الفلسطينية على موائد المجتمع الدولي، وأجبر عالم الشمال بكل ما يخفي من نظرة إمبريالية استعمارية إستعلائية عنصرية مقيتة تجاه شعوبنا لغاية اليوم، على التراجع عن مواقفه الداعمة للحملة العسكرية الهمجية الإسرائيلية، أمام هول ما يجري على الأرض الفلسطينية، ودفع بعضهم الآخر للبحث عن فكرة يترجمون من خلالها تعاطفهم مع الفلسطينيين، فلم يجدوا سوى مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية واختاروا سلطة رام لله شريكاً لهم فيها!

لا شك في أن هذه القرارات تُشكّل انجازاً معنوياً يستحقه هذا الشعب المقاوم الساعي لدحر الاحتلال. لكن لا بد من تذكير تلك الدول، أن مسألة الاعتراف التي نشهد فصولها حالياً ليست بالأمر الجديد، فمعظم دول العالم قد اعترفت بدولة فلسطين التي أعلنتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج منذ أكثر من 35 عاماً، واليوم نشهد اعترافات 142 من إجمالي 193 دولة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية – معظمها خارج الفضاء الأوروبي الغربي وأميركا الشمالية – بالإضافة إلى دعوات صدرت عن مجموعات متنوعة من الخبراء والمقررين الأمميين لحقوق الانسان ومن بينهم المقرّرة الخاصّة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، تحث فيها الدول والمجتمعات على الاعتراف بدولة فلسطين لضمان إحلال السلام في الشرق الأوسط. هذا بدوره أيضاً إقرار مهم في الجانب المعنوي بحقوق الشعب الفلسطيني، ولكن برغم أهمية هذا الإقرار الدبلوماسي الدولي، إلا أنه يبقى ضبابياً وغير واضح المعالم لعدم استناده على قرارات الأمم المتحدة التي تنص بوضوح على “إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس”.

ما من مساعدة حقيقية للشعب الفلسطيني اليوم إلا من خلال المقاطعة الشاملة لهذه الدولة المتوحشة ومعاقبة مجتمعها وقادتها من خلال طرد كافة حملة الجوازات الإسرائيلية من أراضي الدول الرافضة للمحرقة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني إلى حين ايقاف الحرب وإزالة الاحتلال، ومن ثم لا مانع من الحديث عن دولة فلسطينية كاملة السيادة

وعليه، فإن كل تلك الدعوات والاعترافات لا قيمة لها على الاطلاق إن لم تكن تنص بشكل واضح وصريح على اقامة دولة كاملة السيادة على بقعة جغرافية محددة ذات حدود معينة تجسد مفهوم السيادة لتلك الدولة، فتحديد الجغرافية والحدود مسألة أساسية في كيانية الدولة – من منظور ليبرالي على الأقل – ومن دون ذلك يكون الاعتراف فارغاً من مضمونه إلا إذا كانت الغاية من ذلك مكافأة السلطة الفلسطينية على صمتها إزاء الابادة الجماعية بحق شعبها في غزة، وعجزها عن توفير الأمن للفلسطينيين في مواجهة قطعان المستوطنين المتوحشين الآخذين بالتوسع في الضفة منذ اتفاقية أوسلو المشؤومة التي لم يحصل الفلسطينيون منها سوى على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثّلة بسلطة مدنية على جغرافية متشظية بالمستوطنات من أجل إدارة حياة الناس وقمع غضبهم من تجاوزات المحتل وتوسع مستوطنيه.

لذا يجب أن يكون معلوماً لدى كل من يرغب بالاعتراف بدولة فلسطينية أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى ترفيع ممثليات السلطة إلى ممثليات دولة؛ الفلسطينيون بحاجة اليوم إلى وقف التطهير العرقي بحقهم؛ وقف الابادة الجماعية بحقهم؛ وقبل كل شيء إزالة الاحتلال ومستوطنيه من غزة والقطاع بالحد الأدنى، ومن دون ذلك، لا معنى لأي كلام حول الاعتراف بدولة فلسطينية. فالاعتراف الضبابي بالدولة الفلسطينية من شأنه أن يضر بتضحيات الشعب الفلسطيني ومقاومته ويؤثر سلباً على مساره النضالي. وعلى هذه الدول أن تدرك أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم بهذا الشكل الضبابي لن يخدم إلا النهج الاميركي المتبع في القضية الفلسطينية ومستقبلها المتمثل بـ”صفقة القرن”، أي الاعتراف بدولة فلسطينية بلا حدود، بلا سيادة ومنزوعة السلاح تمزقها المستوطنات وضامنة لأمن اسرائيل، هذا أولاً.

ثانياً؛ إفراغ التعاطف الدولي النشط من مضمونه من خلال تحويل الموضوع، من زوال الاحتلال إلى كيفية تسمية السلطة القائمة حالياً في رام الله، وبالتالي إجهاض كافة تضحيات الشعب الفلسطيني.

ثالثاً؛ وهو الأخطر، حرف مسار الغضب الدولي الناتج عن هول المذبحة الجارية بحق الفلسطينيين نحو الحديث عن دولة فلسطينية في ظل الاحتلال، ما يعني بالضرورة تقويض العمل المقاوم لهذا الشعب الرازح تحت الاحتلال.

وبرغم ذلك، لم تخفِ أميركا غضبها من تلك الاعترافات المتتالية، في اشارة واضحة إلى تلك الدول أنه لا يجدر الاعتراف بدولة فلسطينية من دون ضمان أمن اسرائيل وسلامة مستوطنيها. ما يعني أن يتم الاعتراف بالدولة بعد مسار تفاوضي طويل من أجل الحصول على مزيد من التنازلات من الجانب الحقوقي للشعب الفلسطيني.

إقرأ على موقع 180  فرويد في حرب غزة.. الصدمة والتداعيات!

وعليه، إذا أرادت تلك الدول المتعاطفة، مساعدة الشعب الفلسطيني، عليها أن تُمارس ضغوطاً جدية لايقاف الحرب وازالة الاحتلال أولاً، والعمل بشكل جدي لمعاقبة إسرائيل وليس فقط قادتها، بعدما كشفت الحرب الأخيرة مدى نازيتهم المقنّعة وتعطشهم للدماء من خلال ترحيبهم المستمر والعلني بعمليات القتل الجماعي الجارية في غزة وإصرار أغلبيتهم على استمرارها وإجماعهم على حجب الإغاثة الإنسانية عن نساء وأطفال غزة، حتى أن أطباءهم يتباهون وبشكل علني في التوقيع على عرائض يُرحّبون فيها بقصف المستشفيات في غزة ويطالبون باستمرارها، في ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الانساني، ما يجعل صفة التوحش صفة ملازمة لإسرائيل، دولة ومجتمعاً، برغم إصرار الغرب على تبرير سلوكياتها باعتبارها “ديموقراطية تدافع عن نفسها”!

وعليه، ما من مساعدة حقيقية للشعب الفلسطيني اليوم إلا من خلال المقاطعة الشاملة لهذه الدولة المتوحشة ومعاقبة مجتمعها وقادتها من خلال طرد كافة حملة الجوازات الإسرائيلية من أراضي الدول الرافضة للمحرقة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني إلى حين ايقاف الحرب وإزالة الاحتلال، ومن ثم لا مانع من الحديث عن دولة فلسطينية كاملة السيادة. من دون ذلك تبقى تلك الاعترافات بمثابة صحوات متأخرة لا تُعبّر إلا عن حجم الإحراج الأخلاقي التي تعاني منه تلك الحكومات أمام أجيالها الجديدة حول حقيقة ما يحكم العالم من ديناميكيات استبدادية تتمثل بكيانات وظيفية تحكم العالم، والقلق العميق لانكشاف زيف منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تتبناها تلك الدول أمام شعوبها عندما يتعلق الأمر بشعوب عالم الجنوب، في لحظة تعرٍّ تاريخية لزيف الدول المستقلة وسيادتها وقراراتها!

Print Friendly, PDF & Email
نشأت زبداوي

باحث فلسطيني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  فرويد في حرب غزة.. الصدمة والتداعيات!