برغم تغيير الأولويات على صعيد السياسات العالمية وكذلك توازن القوى مع تغيير أوزان بعض اللاعبين الأساسيين مقارنة مع الماضى، تستمر لعبة التنافس على مناطق النفوذ، سواء ارتفعت أو انخفضت حدتها فى مرحلة أو فى أخرى. لعبة تحمل عناوين مختلفة وتعكس مصالح قديمة وأخرى جديدة شكلت كلها ديناميات ما يعرف بنظام ما بعد «بعد الحرب الباردة». النظام الذى لم يستقر بعد فى قواعده وأنماط علاقاته حتى الآن. واشنطن تحاول التمدد مباشرة أولا ثم تعزيز هذا التمدد لاحقا عبر منظمة حلف شمال الأطلسى إلى حدود روسيا الاتحادية أو مناطق النفوذ السوفييتى سابقا. يأتى ذلك فى إطار التنافس المستمر مع موسكو على «الإرث» السوفييتى.
الدخول الصينى فى هذه اللعبة جاء ليدعم روسيا فى إطار لعبة التنافس حاليا بين واشنطن وبكين. من مظاهر هذا الدعم توقيع اتفاق تعاون أمنى روسى صينى جديد منذ أيام. الموقف الأوروبى ـ ولو أن هنالك بعض التمايزات ـ لا يخرج عن الإجماع المبدئى فى إطار الاتحاد الأوروبى، فى دعم الحليف الأمريكى.. ويظهر ذلك أيضا عبر موقف منظمة حلف شمال الأطلسى. لكن لأوروبا مصلحة مباشرة وأساسية فى وقف التصعيد الذى قد يؤدى حسب احد السيناريوهات المتداولة إلى حرب روسية، بشكل أو بآخر، يكون الرد الغربى عليها «بسلاح» الدبلوماسية والاقتصاد والسياسة، الأمر الذى يعرض المصالح الحيوية للجميع للخطر ولو بأشكال وبدرجات مختلفة.
من المطالب الروسية الأساسية فى هذه الأزمة حصولها على تأكيد بعدم انضمام أوكرانيا وجورجيا أيضا إلى منظمة حلف شمال الأطلسى. بالطبع ترفض واشنطن الطلب الروسى. الكل يدرك أن التصعيد الذى قد يؤدى إلى أزمة قد تتخذ بعدا عسكريا أمر خطير على مصالح جميع الأطراف المعنية
نسمع ونقرأ فى هذا السياق عن بلورة ما يعرف «بالخطة باء» كأن يتم البحث فى استيراد الغاز من قطر وأذربيجان وغيرها كبديل عن الغاز الروسى، فيما هنالك سيناريو يجرى تداوله، فى الجهة المقابلة، يتعلق بمشروع جديد لتصدير روسيا للطاقة إلى الصين الشعبية فيما لو خسرت السوق الأوروبية.
تركيا التى تربطها بأوكرانيا علاقات تعاون وثيقة تعمل للتوسط بين كييف وموسكو دون أن يعنى أن ذلك التوسط قد يلاقى النجاح المطلوب لوجود تحفظات روسية عديدة فى هذا الخصوص. فرنسا تجهد بشكل خاص، عبر الزيارة الرئاسية الفرنسية إلى كل من موسكو وكييف، بالتنسيق مع ألمانيا لاحتواء التصعيد والبحث عن تسوية سياسية لهذه الأزمة.
وللتذكير فإن فرنسا وألمانيا إلى جانب كل من روسيا وأوكرانيا يشكلون ما يعرف برباعى النورماندى (نسبة إلى الاجتماع الذى حصل فى النورماندى عام ٢٠١٤). الاجتماع الذى ضم إلى جانب القوتين الأوروبيتين كلا من روسيا وأوكرانيا، والهدف من هذه المجموعة تسوية الخلافات بين الطرفين الأخيرين.
من المطالب الروسية الأساسية فى هذه الأزمة حصولها على تأكيد بعدم انضمام أوكرانيا وجورجيا أيضا إلى منظمة حلف شمال الأطلسى، الأمر الذى يعنى تمدد النفوذ الأمريكى وتمركز واشنطن على حدود منطقة النفوذ الحيوى الروسى. بالطبع ترفض واشنطن الطلب الروسى. الكل يدرك أن التصعيد الذى قد يؤدى إلى أزمة قد تتخذ بعدا عسكريا أمر خطير على مصالح جميع الأطراف المعنية. ويبقى البحث عن تسوية سياسية شاملة للمصالح الأساسية للكل أمر ممكن وإن لم يكن سهلا.
يستدعى ذلك إطلاق مسار الحوار المطلوب والمؤدى إلى تخفيض حدة النزاع. ويتحدث البعض، ضمن الأفكار المطروحة، عن نموذج حل على الطريقة الفنلندية خلال الحرب الباردة، كأن تكون أوكرانيا «غربية التوجه والانتماء» السياسى دون أن تنتمى إلى تحالف عسكرى غربى.
فأزمة من هذا النوع بأطرافها وموقعها، إذا لم يتم احتواؤها بنجاح فإن تداعياتها السلبية ستتخطى القارة القديمة لتلقى بثقلها على الأوضاع العالمية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“