

هذا الحوار المثير للدهشة كان يدور بين بعض محتويات المكتب التي كانت تودع “كوب الشاي” الخاص بالسيد الرئيس والذي كان يئن من داخل سلة المهملات بعد أن ألقى به صباح اليوم اثر حادث انقلاب الشاي على بدلته. قال الكوب بصوت يملأه الأسى: لم أخطىء في شيء، كعادتي كنت أقف في وضع الانتباه وهو من أطاح بي أثناء تلويحه بيده أمام المرآة فسقط الشاي على بنطاله، فبأي منطق يتهمني بمحاولة اغتياله ومن ثم يلقي بي في سلة المهملات ومن يدري ما المصير المحتوم الذي ينتظرني، أنا لست ارهابياً ولا معارضاً سياسياً أو حتى ممارساً لها أنا مجرد “كوباية شاي”.
التقط طرف حديثه المكتب الخشبي العريق الذي عاصر العديد من السادة الرؤساء وقال بصوت رخيم: من منا سياسي ومن هذا “المختون عقلياً” الذي يمكنه تصنيفنا كسياسيين، فأنا على سبيل المثال وعلى الرغم من معاصرتي للعديد من الرؤساء إلا أنني مجرد “ترابيزة كبيرة” أحمل الأوراق والأقلام لا أكثر ولا أقل وحتى أكون دقيقاً معك أنا كمثل الحمار يحمل أثقالا.
صدّق اللابتوب على كلام المكتب وقال بصوت متحشرج وكأن “مروحة البروسيسور ملأها التراب”: أنت محق اللهم إلا إذا كان السيد الرئيس يرى أن “كل” من يمارس السياسة “حمير”. أنا أيضاً مثلك لا أمارسها ولا أعدو كوني مجرد “حاسوب آلي” لا يستخدمني كثيراً ربما لاعتقاده بأنني مصباح علاء الدين الذي سيُلبي له كل طلباته وحينما لا يجد من الأمر بد بعد “دعكي كثيراً” يقوم بفتح اليوتيوب من خلالي ليستمع الى أغنية “اخترناك وبايعناك” فتنفرج أساريره ويعيد تشغيلها مرات ومرات وكأنها غُنيت من أجله، فهل ما أقوم به يُصنّف كعمل سياسي؟
جاء من أطراف الغرفة صوت رقيق يقول في كلمات مقتضبة: وأنا أيضاً لا أمارس أي عمل سياسي.. أنا مجرد ستارة! أقصى ما أقوم به في هذا المكان أن أقوم بحجب الشمس عن رأسه حتى لا يصيبه الصداع لا قدر الله فيكون مصيري مصير هذا الكوب المغلوب على أمره.
وبصوت يملأه الكبر قاطع الكرسي الجلدي حديث الستارة: عن أي سياسة تتحدثون، ماذا لو كنتم تمارسون الدور الذي أمارسه فالرئيس لو لم يجلس عليّ ويشعر بالراحة لما استطاع اتخاذ العديد والعديد من القرارات السياسية المصيرية.
دقت ساعة الحائط وقالت للكرسي: ولكن ماذا لو انتهى عمرك الافتراضي وفشلت في أن توفر له الشعور بالراحة التي اعتادها منك، يومها لن تجدي معك حبة زرقاء أو حمراء وسيكون مصيرك مثل مصير هذا الكوب المغلوب على أمره، القرارات السياسية لا علاقة لها بالكرسي ولا المكتب ولا الستارة، القرارات السياسية أساسها الزمن فعامل الوقت هو فقط المؤثر في جدوى تلك القرارات وأنا المسئول عن الزمن في هذا المكان.
ووسط هذه الحالة الجدلية الدائرة قاطعهم القلم: إن كان لأحد دور سياسي هنا فبالتأكيد أنا، أنا من يوقع جميع القرارات والقوانين. هنا، قاطعه المكتب ساخراً: يا راجل؟ قرارات إيه! آخر استخدام لك كان في كتابة مقادير الأكلات!
توتر الجو قليلاً حتى انفتح درج المكتب ببطء وهو يقول: أسرار الدولة بالكامل هنا، ورق مهم ومستندات سرية ومخاطبات دولية جميعها في عهدتي، ربما لا أمتلك أي معلومة أو تفاصيل عما فيهم ولكن يكفيني شرف حفظها عندي.
قال الكوب للدرج: مستندات وسرية؟ لقد ذكرتني بالنكتة الشهيرة التي تتحدث عن هذا الشخص الذي جاء مهرولاً إلى صديقه ليخبره أن زوجته على علاقة بعبده الكهربائي، فرد عليه الزوج بكل ثقة: عبده ده لا هو بالكهربائى ولا يفهم فى الكهرباء، أنا بقول “كفاية كلام في السياسة ووجع القلب ده علشان منخسرش بعض” بصراحة جميعنا مجرد “اكسسوار” لكنكم مكبرين الموضوع، أعتقد أننا ديكور جميل الشكل ولسنا أدوات سياسية إطلاقاً.
بالطبع كلام سليم، هكذا قالت اللوحة المعلقة على الحائط بصوت فلسفي هادىء ثم أسهبت في الكلام: أنا أرى أن السياسة الحقيقية لا تكمن فينا كأدوات، السياسة يمارسها الأشخاص الذين يجلسون في هذا المكان يتناقشون ويُصدرون قرارات تتحكم في مصائر العباد والبلاد، وأن جل ما نقوم به أن نشاهدهم فقط فنحن مجرد شهود وللأسف شهود صامتين، قولاً واحداً “إحنا مش بتوع سياسة”.
فجأة فُتح مقبض الباب ودخل عامل النظافة مهرولاً يصرخ: إيه ده؟ إنتو بتتكلمو؟
تأهبت محتويات المكتب ونظرت إليه وقالت له بصوت واحد: لأ طبعاً. أكيد صنف الحشيش الذي تتناوله مخلوطاً بالكيتامين. نظر عامل النظافة في ذهول الى محتويات المكتب الساكنة وكان الصمت يطبق على المكان اللهم إلا من صوت التلفاز الخافت، ثم اتجه صوب سلة المهملات وقام بتفريغها من القمامة يتقدمها الكوب الذي تقرّر التخلص منه واعدامه، وقبل أن يهم بالخروج من المكتب توجه صوب التلفاز لإيقاف تشغيله والذي كان يبث في تلك الأثناء مقتطفات من بعض خطابات الرئيس السابقة بمناسبة ترشحه لدورة انتخابية جديدة وهو يقول بنبرة حادة في أحدها للسادة الحضور: “أنا بترشح كرمالكم.. أنا منذور للبلد وللناس. ما بحبش السياسة، لكن مستعد أضحي كرمالكم”.
(*) ملاحظة: هذا النص لا يخص دولة عربية بعينها ولا رئيساً بعينه.. إنه نص خيالي لا يمت للواقع بصلة أبداً.. اقتضى التوضيح.