رحلة رجل مسن حافزه الشغف

بعد غياب امتد ليومه الخامس عدت إلى بيتي، عدت لأنام في فراش أعرفه ويعرفني، عدت لأتعامل مع حمام أحترم قواعده ويحترم تفاصيلي، عدت إلى مكاني وأشيائي وإلى مخابئ أسراري وملفات أوراقي. عدت والسعادة تصحبني.. أحاطت بي يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، لم تسمح لي بممارسة غضب أو شك أو ملل أو ضيق. بفضلها تغلبت على وساوس تصنعها عادة وتطلقها ظروف وخفايا وتجارب السن المتقدم.

قضيت قبل السفر أياما غير واثق تماما من صحة وسلامة قرار أتخذه لصالح الموافقة على السفر مع مجموعة من النساء والرجال وقضاء فترة أجمع فيها الصحبة الطيبة بالمناقشة الجادة وجلسات سمر محببة وحفلات من الأكل الفاخر والخدمة المتميزة. كأيّ مسن، حسب تجربتي المتواضعة وما قرأت وسمعت، كان يجب أن يتملكني كثير من القلق. فالسفر، أو حتى الغياب المطول عن المسكن المعتاد يحمل مفاجآت بينما قلب المسن قد يكون غير مؤهل لتحملها. المشكلة، كما لاحظت، تكمن في حالة عدم اليقين، وهي الحالة التي يتردد بين العامة أنها مرتبطة تماما بحال كل المسنين. أرفض هذا التعريف للمشكلة.

***

تقول تجربتي كمسن مُراقب ومُجرّب إن اليقين، وليس عدم اليقين، سمة من سمات كبار السن. المسن لا يتردد عند طلب تلبية رغبة أو حاجة لأنه يعلم يقينا، بحكم تجارب العقود العديدة، ما الذي يريده أكثر من أي شيء آخر ومتى. يعرف لمن يلجأ عند إعلان الحاجة أو الرغبة. لاحظ مثلا أنه لن يلجأ لمن لا يستطيع تلبية رغبته أو حاجته.

***

يقينا في رأيي أن المسن يمارس في هدوء أرقى درجة من الحب. يمارس الصراحة في نقاء ونعومة. أعرف أنه لن يكرر ما كان يفعله قبل أربعين أو خمسين عاما حين كان مثل كل من في مثل عمره متردد اليقين، يخشى أن يقابل إعلانه أو صراحته بما لم يحب أن يسمع أو يرى. قلبه على كفه كما كان يردد الأقدمون.

***

المسن متيقن من أن الزمن أصبح محدودا ولن يعود كما تعود عليه فضاءً رحبا رهن مشيئته. بالتأكيد لا مسنّاً سوف يراهن بعمره ولا حتى بسنوات منه على هدف أو حلم، فللأحلام سقوف لا يجوز للمسن تجاوزها وإلا أخل بالتوازن الدقيق بين سعادة متوخاة وسنوات مقررة ومتناقصة وعقل يعمل برتابة وحرية وجسد لا يستسلم لوهن أو إكراه.

***

يحن المسن كغير المسن، بين الحين والآخر، إلى ما ينعش إنسانيته ويزيل ما يكون قد لحق بمنظومة أخلاقياته وبعض مبادئه من غبار أو صدأ. حانت لي هذه الفرصة يوم تلقيت نبأ موعد تحدد لاجتماع مجلس أمناء مؤسسة اجتماعية شاركت في تأسيسها قبل ثلاثة عقود أو ما يزيد. أعترف بأنني امتنعت خلال السنوات الأخيرة، أقصد السنوات السابقة على سنوات السن المتقدم، عن حضور اجتماعات مماثلة لمؤسسات وجمعيات كانت لها جميعا ذات المكانة في نفسي قبل أن يتدهور حال أكثرها، شاخت قبل أن تفلح أو ترهلت جسما ونحفت عقلا أو عثرت على من يشتري بكارتها بمال غير نظيف ولهدف غير الهدف الذي نشأت من أجله.

***

مؤسستي التي أنتمي إليها فخورا وشاكرا لم تخضع لأعاصير زمن لم يرحم مؤسسات وجمعيات خرجت إليه أو دخلته ضعيفة البنية وبقلب مريض وإيمان هش. أحلى ما في أهل مؤسستي الرغبة المتأصلة في نفوسهن ونفوسهم للتعلم وإتقان الإيمان بما يفعلن ويفعلون. تأكدت خلال السنوات الثلاثين، تأكدت من على بعد وأنا أراقب وأتسمع وأتأمل أو من على القرب وأنا ألامس الحقائق على أرض الواقع المادي الصعب معظم الوقت، تأكدت من غزارة ما تعلمن وتعلموا ومن قوة الإيمان بجوهر القضايا التي يشتغلن ويشتغلون على تسويتها.

***

توقفت لحظات خلال سعيي وراء فهم أفضل لطبيعة هؤلاء الناس. سمعت غريبة حاضرة تتحدث عن أهل مؤسستي بكل الاحترام الذي يستحقه “موظفو” هذه المؤسسة. اعترضت وصححت ما نطقت به قائلا: “عزيزتي: أهل مؤسستي لسن موظفات، هن وزملاؤهن من الذكور، شركاء في عقيدة وليسوا موظفين في خدمتها. جاؤوا إلى رحاب هذه المؤسسة مراهقين ومراهقات، نضجوا في رحابها يطورونها ويطورون معها أنفسهم ويحرزون لها ولهم إنجازا بعد آخر”.

***

حان وقت الإياب. عند الباب وقفت صاحبة مشروع إقامة هذه المؤسسة لتوديعي وهي شامخة. مددت يدي تصافح يدها ولساني يقول “أحسنت يا صديقتي. فقد نجح مشروعك في اليوم الذي صارت فكرته عقيدة يعتنقها العاملون في المؤسسة ويلتزمون مبادئها وقواعدها، يوم صار العاملون والعاملات أصحاب مصلحة في نجاح المؤسسة وفي نشر عقيدتها”.

***

بدأت مهمتي في العين السخنة مزودا بآمال كبار. عدت منها إلى بيتي بحب أكبر وأعمق لمجموعة من المصريين تثق في نفسها وتؤمن بما تفعل. والحب كما لا شك تقدرون، أفضل زاد للمسن في رحلته، رحلة تقع ضمن برنامج أحلى أيام العمر.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تاريخ مصر الحديث.. الملك الأخير فاروق
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  "أبو مازن".. "الإيباك" أقرب من غزة!