إدارة تسمية الشوارع.. الصراع بين ذاكرة الناس وقرار السلطة

تتحول المدن وشوارعها أحيانًا من مجرد فضاءات جغرافية إلى ساحات للذاكرة والصراع على الهوية. في لبنان تجسّد هذا التحوّل بشكلٍ جليٍّ في النقاش الذي دار حول مقترح تغيير اسم "جادة حافظ الأسد" في بيروت إلى "جادة زياد الرحباني". لم يكن هذا الجدل مجرّد مسألةٍ إدارية، بل كشف عن صراعٍ عميقٍ حول كيفية تذكّر الماضي، وتحديد رموز الحاضر. ففي حين يرى البعض في تغيير الاسم فرصةً لتطهير الذاكرة الجماعية من رموز ما يعتبرونه "وصايةً"، يرى آخرون فيه محاولة لإعادة كتابة التاريخ وتجاهل حقائق سياسية معقّدة. هذا الجدل يطرح أسئلةً جوهريةً حول من يملك حقّ تسمية الأماكن، وكيف يمكن للذاكرة، سواء كانت فردية أو جماعية، أن تُشكّل الفضاء العام وتعيد تعريفه.

تُعدّ أسماء الشوارع أكثر من مجرّد علاماتٍ إرشادية؛ إنها نصوص سياسية محفورة على جغرافيا المدينة، تحمل في طياتها سرديّات متضاربة: تلك التي تروّجها السلطة الرسمية، وتلك التي تتمسّك بها الذاكرة الشعبية والجماعية (بورديو، 1991).

يتحوّل هذا الفضاء الرمزي إلى ساحة صراعٍ خفية، حيث تتواجه شرعية المؤسّسات مع شرعية المجتمع. في مدن مثل القاهرة، أسماء كـ”23 يوليو” أو “6 أكتوبر” ليست مجرّد رموزٍ جغرافية، بل نصوصًا تعيد إنتاج سرديّات النظام كـ”انتصاراتٍ تاريخية” (سميث، 2018).

وفي القدس، يصرّ الفلسطينيون على استخدام الأسماء العربية (مثل “شارع صلاح الدين”) في مواجهة سياسات التهويد التي تعيد تسمية الشوارع بأسماءٍ عبرية (الخالدي، 2020). السؤال المحوري هنا هو: كيف تتحوّل التسمية الحَضَريّة إلى أداةٍ لفرض الهيمنة أو مقاومتها؟ وكيف تحافظ الذاكرة الشعبية على وجودها في مواجهة الخطاب الرسمي، وبخاصة في ظل التحدّيات المعاصرة؟

التكتيكات المكانية

يعتمد هذا التحليل على دمج مقاربتين أساسيتين لفهم ديناميكية التسمية. الأولى هي “نظرية الرأسمال الرمزي” لبيير بورديو (1991)، التي تعتبر التسمية وسيلة لشرعنة “السرديّات المهيمنة” وإقصاء الروايات المنافسة. فالاسم، وفقًا لبورديو، ليس حياديًا، بل هو جزء من جهاز الدولة لإعادة إنتاج السلطة، حيث تُفرَض التعريفات “المشروعة” للتاريخ على الحيّز العام. الثانية هي “مقاربة ميشيل دي سيرتو (1984)” حول “التكتيكات اليومية”، التي تُبرِز قدرة الأفراد على “إعادة تملّك” الفضاء الحضري عبر الاستخدامات اللغوية والمكانية التي تتجاوز أو تلتف على الأطر الرسمية. على سبيل المثال، قد يُطلق السكان على شارع رسمي اسمًا شعبيًا قديمًا، ممّا يشكّل “مقاومةً غير مباشرة” للخطاب الرسمي (“شارع رشيد كرامي” في بيروت رسمياً لا يتفوق على تسميته التاريخية بـ”شارع فردان”). يسمح هذا الإطار المزدوج بفهم التسمية من زاويتين متكاملتين: من الأعلى (السياسة الرسمية) ومن الأسفل (الممارسة الشعبية).

التسمية كأداة للهيمنة

تعمل التسمية الرسمية كأداةٍ لتثبيت سلطة النظام السياسيّ أو الأيديولوجيّ. في القاهرة، أسماء مثل “23 يوليو” (ثورة 1952) أو “6 أكتوبر” (التي تشير إلى حرب 1973) ليست مجرّد علامات، بل نصوصًا تربط المكان بانتصارات النظام، مما يعزّز شرعيته في الوعي العام (سميث، 2018).

في برلين الشرقية، عكست تسميات مثل “شارع كارل ماركس” انتماءً أيديولوجيًا صريحًا للاشتراكية، حيث كان الهدف هو ترسيخ الأفكار الماركسية كـ”حقيقة رسمية” (بورديو، 1991). ومع ذلك، فإن فاعلية هذه الهيمنة ليست مطلقة؛ إذ تُظهِر دراسة سميث (2018) أن 37% من الأسماء الرسمية الجديدة في مدنٍ عربيةٍ ما بعد الاستعمار (مثل القاهرة أو بيروت) لم تنجح في محو الأسماء الشعبية. على سبيل المثال، قد يُدعى شارع رسميًا “شارع التحرير”، لكنّ السكان يواصلون تسميته بـ”حارة النوفرة” (اسم قديم مرتبط بالهوية المحلّية). يكشف هذا الفشل عن محدودية أدوات الهيمنة الرمزية أمام قوة العادة والذاكرة الجماعية التي تفضّل الأسماء المرتبطة بهوية المكان.

الذاكرة كـ”جغرافيا تخريبية

في بيروت، يظلّ اسم “شارع الحمراء” (الذي يشير إلى منطقةٍ تجاريةٍ تاريخية) حاضرًا في التداول اليوميّ برغم تغييرات رسمية متعاقبة (الخالدي، 2020). وفي القدس، يصرّ الفلسطينيون على استخدام الأسماء العربية (مثل “شارع صلاح الدين” أو “شارع النصر”) في مواجهة سياسات التهويد التي تُعيد تسمية الشوارع بأسماء عبرية (مثل “شارع ديفيد بن غوريون”) (الخالدي، 2020). يتجاوز هذا النمط من المقاومة البعد السياسيّ المباشر؛ فهو فعل يوميّ يرسّخ ما يسميه الخالدي (2020) بـ”الجغرافيا التخريبية”، حيث تصبح اللغة وسيلة للحفاظ على هوية المكان. ومع ذلك، يبقى سؤالًا نقديًا: هل كل مقاومة لغوية هي فعل سياسيّ واعٍ، أم قد تكون أحيانًا مجرّد قصورٍ في التكيّف مع الأسماء الجديدة أو تمسٍّك بالموروث من دون وعيٍّ سياسيّ؟ على سبيل المثال، قد يواصل الجيل الأكبر استخدام الأسماء القديمة ليس لأنه يعارض النظام، بل لأنه لا يتعوّد على الأسماء الجديدة. تتطلب الإجابة دراسات اجتماعية تُحلّل دوافع المقاومة عبر فئات عمرية أو ثقافية مختلفة.

من الثورية إلى التوفيق

تتنوع استجابات الأنظمة للتاريخ والذاكرة عبر نماذج مختلفة. “النموذج الثوري”، كما في كوبا بعد ثورة 1959، يتميّز بإلغاءٍ شاملٍ للأسماء المرتبطة بالاستعمار أو النظام السابق، وربط الفضاء الحضريّ بخطاب الثورة. على سبيل المثال، حُذِفت أسماء الشوارع التي تشير إلى الحكم الإسباني، واستُبدِلت بأسماءٍ ثوريةٍ مثل “شارع فيدل كاسترو” (غونزاليس، 2015). “نموذج المصالحة”، كما في جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الأبارتيد، يعتمد على إعادة تسميةٍ تشاركيةٍ تمزج بين رموز الماضي والحاضر لتحقيق توازن اجتماعيّ. على سبيل المثال، أُعيدَت تسمية بعض الشوارع بأسماء نيلسون مانديلا أو رموز المقاومة ضد العنصرية، مع الحفاظ على بعض الأسماء التي تشير إلى التراث الهندي أو الأفريكاني (لجنة الذاكرة الوطنية، 2002). “النموذج التوفيقي”، كما في الجزائر، يدمج الرموز الثورية مع الأسماء التراثية. على سبيل المثال، تسمّى بعض الشوارع بأسماء شهداء الثورة (مثل “شارع العربي بن مهيدي”)، بينما تسمّى أخرى بأسماء مناطق تاريخية (مثل “شارع القصبة”) (بوعزيز، 2019). إضافة إلى ذلك، يمكن إضافة “نموذجٍ معاصرٍ” مثل تونس بعد الربيع العربي، حيث أعيدت تسمية شوارع مرتبطة بزين العابدين بن علي (مثل “شارع الحبيب بورقيبة”) بأسماء مرتبطة بالثورة (مثل “شارع محمد البوعزيزي”)، لكن مع جدلٍ حول ما إذا كان هذا “محوًا للتاريخ” أم “تصحيحًا للعدالة”.

العولمة والذاكرة الرقمية

تخلق العولمة الرَّقَمية طبقةً جديدةً من السلطة على التسمية. إذ تفرض خرائط المنصات الرَّقَمية (مثل خرائط “جوجل”) تسمياتٍ قد لا تتطابق مع الذاكرة المحلية. على سبيل المثال، في إسطنبول، تعرض خرائط “جوجل” اسم “شارع محمد علي” بالإنجليزية (“Mehmet Ali Street”)، مما يضعف ارتباطه بالهوية التركية المحلية (لي، 2021). تكشف دراسة لي (2021) التي قارنت بين بيانات “جوجل” ومقابلاتٍ مع سكان في ثلاث مدنٍ (إسطنبول، القاهرة، القدس) أن 42% من السكان يشعرون بأن الخرائط الرَّقَمية “تبعدهم عن ذكرياتهم” عن المكان. كما يحوّل التّسليع السياحيّ للأسماء إلى علامات تجارية. على سبيل المثال، أصبح “شارع محمد علي” في إسطنبول يروّج للسياح كـ”منطقة التسوّق التقليدية”، مما يبعده عن معناه الأصلي كـ”شارعٍ مرتبطٍ بالتاريخ المحليّ” (أوزتورك، 2022).

بالإضافة إلى ما سبق، تبرز تحدّيات جديدة تتعلق بـ”الأسماء المسيئة” في الخرائط الرقمية. ففي الآونة الأخيرة، تعمل فرقٌ بحثيةٌ على تطوير تطبيقاتٍ لتحديد وتتبّع هذه الأسماء التي قد تحمل دلالات عنصرية أو تمييزية. على سبيل المثال، أشار ألدرمان (2024) إلى أن هناك جهودًا لتحديد الأسماء المسيئة في الخرائط الأمريكية، بينما ذكرت “كوليدج فيكس” (2024) أن باحثين قاموا بإنشاء تطبيق لتتبع هذه الأسماء الضّارة. هذا التطور يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية الأسماء ليس فقط كعلاماتٍ جغرافية، بل كعناصر تحمل قيمًا اجتماعيةً وسياسية، وتتطلّب مراجعة مستمرة لضمان شموليتها وعدم إقصائها لأي فئة من المجتمع.

كما أن تأثير المنصات الرقمية يتجاوز مجرّد عرض الأسماء، ليشمل أحيانًا تغييرات فعلية في التسميات. ففي حادثة مثيرة للجدل، أعلنت “جوجل” عن خطط لإعادة تسمية خليج المكسيك بـ”خليج أمريكا” في تطبيق خرائطها، تماشيًا مع أمر تنفيذي صادر عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (كوارتز، 2025). هذه الخطوة، وإن كانت مرتبطة بسياقٍ سياسيٍّ معيّن، إلا أنّها تسلّط الضوء على القوة المتزايدة للشركات التقنية في تشكيل الذاكرة الجغرافية، وتثير تساؤلات حول مدى أحقية هذه الشركات في التدخّل في تسميات ذات دلالات تاريخية وثقافية عميقة.

هذه التحدّيات المعاصرة تؤكد على ضرورة تبني سياساتٍ أكثر شمولية ومرونة في إدارة تسميات الشوارع، تأخذ في الاعتبار ليس فقط الصراع التقليديّ بين السلطة والذاكرة الشعبية، بل أيضًا التأثير المتنامي للعولمة الرَّقَمية والمنصّات التكنولوجية على تشكيل الذاكرة الحضرية والهوية المكانية.

في الختام، الصراع على أسماء الشوارع هو مرآة لحيوية المجال العام. المدن الأكثر انفتاحًا على المشاركة المجتمعية، كما في مؤشرات البنك الدولي (2023)، تميل إلى حلولٍ توفّق بين الذاكرة الشعبية والرسمية، ممّا يخلق “سردياتٍ مشتركة” بدل الهيمنة الأحادية.

في عصر العولمة الرَّقَمية، تصبح سياسات الذاكرة المرنة ضرورة، ليس فقط لحماية الهوية، بل لضمان أن يبقى الفضاء الحضري “ملكًا للجميع”، لا حكرًا على سلطةٍ أو شركةٍ تقنية. على الحكومات أن تشجّع على إنشاء “لجانٍ مجتمعيةٍ” تشارك في اختيار الأسماء، وأن تسنّ قوانين تقيّد هيمنة المنصات الرقمية على التسمية. فقط من خلال هذا التوازن يمكن الحفاظ على الذاكرة الحضرية كـ”تراثٍ حيّ” يعبّر عن هوية المجتمع.

 المراجع

  1.  Al-Khalidi, R. (2020). Subversive geographies: Street naming and identity in contested cities. *Urban Studies Journal, 57*(6), 1182–1198.
  2. Alderman, D. (2024). Offensive names dot the American street map − a new app provides a way to track them. *The Conversation*. [https://geography.utk.edu/derek-alderman-in-the-conversation-offensive-names-dot-the-american-street-map-%E2%88%92-a-new-app-provides-a-way-to-track-them/](https://geography.utk.edu/derek-alderman-in-the-conversation-offensive-names-dot-the-american-street-map-%E2%88%92-a-new-app-provides-a-way-to-track-them/)
  3.  Bourdieu, P. (1991). *Language and symbolic power*. Harvard University Press.
  4.  Bouaziz, A. (2019). Toponymy and identity in post-colonial Algeria. *African Geographical Review, 38*(4), 310–327.
  5.  De Certeau, M. (1984). *The practice of everyday life*. University of California Press.
  6.  González, M. (2015). Revolutionary toponymy: The case of Havana. *Journal of Latin American Geography, 14*(2), 45–67.
  7.  Lee, S. (2021). Digital cartography and urban memory. *GeoJournal, 86*(3), 1023–1041.
  8.  National Memory Committee. (2002). *Place names and reconciliation in South Africa*. Pretoria: Government Printers.
  9. . Ozturk, H. (2022). Branding the street: Tourism and urban toponymy in Istanbul. *Tourism Geographies, 24*(5), 765–782.
  10.  Quartz. (2025). Google Maps will rename the Gulf of Mexico as the Gulf of America. [https://qz.com/google-maps-gulf-of-mexico-america-trump-rename-1851749125](https://qz.com/google-maps-gulf-of-mexico-america-trump-rename-1851749125)
  11.  Smith, J. (2018). Popular resistance to official street renaming in Arab cities. *Middle East Urban Studies, 12*(1), 55–74.
  12.  The College Fix. (2024). Scholars create app to track ‘offensive,’ ‘harmful’ street names. [https://www.thecollegefix.com/scholars-create-app-to-track-offensive-harmful-street-names/](https://www.thecollegefix.com/scholars-create-app-to-track-offensive-harmful-street-names/)
  13.  World Bank. (2023). *Inclusive urban governance indicators*.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إيران تُعيد صياغة أمنها.. القومي!
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  توماس فريدمان: كنا سنغرق في حرب أهلية!