

غالباً ما ظهر التناقض بين بعض المواد في الدساتير السورية المتعاقبة، وكان أبرز هذه التناقضات بين المادة التي تنص على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام والمادة التي تتحدث عن أن المواطنين متساوون بغض النظر عن الدين.
وفي السياق السوري الراهن، يحقُ لنا أن نتساءل عن الإعلان الدستوري السوري الذي أقرّه رئيس البلاد في 13 آذار/مارس 2025، والذي شابته الكثير من العيوب، كان التناقض بين مواده واحداً من أبرزها، عدا عن غياب مواد هامة عنه، وعن كونه إعلاناً لم يضمن المساواة بين النساء والرجال.
وقبل الحديث عن مثالب هذا الإعلان لا بد من الإشادة بالمواد التي تضمن الحقوق العامة والحق بالتنمية الشاملة، ويأتي في مقدمتها المادة 11: “يهدف الاقتصاد الوطني إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الشاملة… ورفع مستوى المعيشة للمواطنين“. وأيضاً المادة 12: “تصون الدولة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتكفل حقوق المواطن وحرياته. تعد جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري، وتعد الفقرة الثانية من هذه المادة فقرة رائدة في ضمان حقوق الإنسان استناداً للشرعة الدولية لحقوق الإنسان“. وكذلك المادة 13: “تكفل الدولة حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة، تصون الدولة حرمة الحياة الخاصة، وكل اعتداء عليها يعد جرماً يعاقب عليه القانون، للمواطن حرية التنقل، ولا يجوز إبعاد المواطن عن وطنه أو منعه من العودة إليه“. ويسري ذلك على المادة 14: “تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقاً لقانون جديد“. وأيضاً على المادة 18: “تصون الدولة كرامة الإنسان وحرمة الجسد وتمنع الاختفاء القسري والتعذيب المادي والمعنوي، ولا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم، باستثناء حالة الجرم المشهود، لا يجوز إيقاف أي شخص أو الاحتفاظ به أو تقييد حريته إلا بقرار قضائي“. والمادة 19: “المساكن مصونة، لا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا في الأحوال المبينة في القانون“. والمادة 22: “تعمل الدولة على حماية الأطفال من الاستغلال وسوء المعاملة، وتكفل حقهم في التعليم والرعاية الصحية“. والمادة 44 التي تحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية؛ والمادة 48 التي تجعل الدولة مسؤولة عن تهيئة الأرضية المناسبة لتحقيق العدالة الانتقالية.
هذا الإعلان الدستوري شابه الكثير من التناقض والنقص، ولم يعكس رؤية متقدمة لمكانة المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ولا يُمثّل إلا خطوة متواضعة جداً على طريق القطع مع الاستبداد الذي عانت منه البلاد لأكثر من ستة عقود من الزمن
التناقض في المواد
أما التناقض فيبدأ في مرجعية الإعلان التي تمثلت بـ”مؤتمر النصر” الذي شارك فيه عدد من الفصائل العسكرية التي “انتصرت” وأطاحت بحكم آل الأسد، ومن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني (25 شباط/فبراير 2025) الذي وُجهت الكثير من الانتقادات لطريقة اختيار أعضائه وعضواته ولأن توصيات هذا المؤتمر لم تعكس كل ما جرى طرحه في جلساته.
وبهذا الشكل تكون شرعية الإعلان مستمدة من قرارات ممثلي الفصائل “المنتصرة” ومن توصيات لم تمثل محصلة إرادة المشاركين والمشاركات في المؤتمر، وليست مستمدة من شرعية وطنية تمثيلية، حتى ولو لم تكن منتخبة.
وأقرت المادة 1 من الإعلان اسم الدولة “الجمهورية العربية السورية” ويعكس الإصرار على إيراد صفة العربية على الدولة تناقضاً مع الرؤية المستقبلية لسوريا التي جرى التعبير عنها في التوافقات التي توصل إليها كل من رئيس البلاد، أحمد الشرع، وقائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي. وهنا تفقد هذه التوافقات أية قيمة قانونية ولا يبقى لها إلا رمزية سياسية، لأن مكانة أي مادة دستورية أقوى من أية تفاهمات سياسية.
كما تتناقض المادة 4: “اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة” مع الفقرة الثالثة من المادة 7: “تكفل الدولة التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، والحقوق الثقافية واللغوية لجميع السوريين“.
أما المادة 2 التي تُركّز “على مبدأ الفصل بين السلطات” فتناقضها الصلاحيات الكبيرة لرئيس البلاد في المادة 24: يُشكّل رئيس الجمهورية لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب .. يُعيّن رئيس الجمهورية ثلث أعضاء مجلس الشعب.. حتى أن المادة 39 تسمح للرئيس بالاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب، ولا تقر القوانين بعد الاعتراض إلا بموافقة ثلثي مجلس الشعب، وهو أمر صعب التحقيق. كما أن المادة 47 تنص على أن رئيس الجمهورية هو من يسمي أعضاء المحكمة الدستورية العليا. وخلاصة القول هنا إن رئيس البلاد يحق له التدخل في مهمات السلطة التشريعية والسلطة القضائية.
تمييز المسلمين
وحال هذا الإعلان الدستوري كحال معظم الدساتير السورية التي ميّزت المسلمين عن بقية المواطنين السوريين عندما أكدت المادة 3 على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، في تناقض فج مع المادة 10 التي تنص على أن المواطنين “متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب“.
وجرى تكريس تمييز الدين الإسلامي عن بقية الأديان في سوريا في جعل “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع“، في تغيير يعكس الموقف السلفي للسلطة الحاكمة، فقد كانت معظم الدساتير السورية تنص على أن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع. وتتناقض هذه الفقرة مع معظم القوانين السورية التي لا تحمل أية صبغة دينية.
وتحمل الفقرة الثانية من المادة 3 تناقضاً داخلها عندما تصون حرية الاعتقاد ولكن فقط لمعتقدي الأديان السماوية، وعندما تربط كفالة حرية القيام بجميع شعائر الأديان السماوية بعدم الإخلال بالنظام العام! وقضية الإخلال بالنظام العام مسألة فضفاضة يمكن أن يندرج تحتها تقييدات واسعة طالما أن الأمر خاضعٌ لإرادة السلطة الحاكمة، ويمكن أن تضيف إليه أو تلغي منه ما تشاء من القواعد بحجة أن المجتمع “عايز كدة”!
الضرورات تبيح المحظورات!
والتناقض الداخلي ذاته يظهر أيضاً في المادة 23 التي تنص على مسؤولية الدولة في صيانة الحقوق والحريات ولكن “يجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تُشكّل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة“، وشكّلت مسوغات الإخضاع للضوابط مروحة كبيرة يسهل استخدامها من السلطة الحاكمة عند أصغر مخالفة أو تحد لسياسات هذه السلطة.
كما يبدو التناقض واضحاً بين المادة 26: يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية حتى اعتماد دستور دائم، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة وفقاً له. مدة ولاية مجلس الشعب ثلاثون شهراً قابلة للتجديد، والمادة 52: تُحدّد مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية، حيث يجب أن تنتهي المرحلة الانتقالية بمجرد اعتماد الدستور الدائم وإجراء الانتخابات التشريعية وفقاً له، والمفروض أن يجري الانتهاء من هاتين المهمتين مع انتهاء ولاية مجلس الشعب المُعيّن، حتى لا تضطر السلطة الحاكمة للتجديد له لمدة تساوي مدته الأصلية وهي ثلاثون شهراً.
عن أية مكانة للمرأة يتحدث الإعلان؟ هل يتحدث عن المكانة الحالية للمرأة في المجتمع والقوانين، وهي مكانة أقل بكثير من مكانة الرجل؟ وأما كان الأجدر بهذا الإعلان أن ينص على الارتقاء بهذه المكانة حتى تعادل مكانة الرجل في الأسرة والمجتمع؟
غُبنٌ بحق المرأة السورية
وفي قضايا حقوق المرأة يُعيدنا هذا الإعلان إلى المعضلة الكبيرة في الدساتير السورية عامة وهذا الإعلان خاصة، وهي غياب النص على المساواة بين النساء والرجال بشكل صريح. وعلى الرغم من إيجابية الفقرة الثانية من المادة 21: تكفل الدولة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة، وتحميها من جميع أشكال القهر والظلم والعنف، إلا أن حماية المرأة من التمييز بأشكاله كافة كان غائبا عن هذه الفقرة. كما تعيدنا الفقرة الثالثة من المادة 3: الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية وفقاً للقانون، إلى معضلة أخرى تتمثل في أن حقوق النساء داخل الأسرة مرهونة بانتمائها الطائفي! في الوقت الذي تطالب فيه الحركة النسوية، وجزء هام من الحركة النسائية، بقانون أسرة مدني موحد لكل السوريين والسوريات لاستئصال التمييز من قوانين الأحوال الشخصية، جميعها، التي تُكرّس قوامة رجال العائلة على نسائها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه القوامة تنعكس في عدد من القوانين المدنية مثل قوانين العقوبات والعمل والتأمينات.
ونتساءل عندما نقرأ المادة 21: تحفظ الدولة المكانة الاجتماعية للمرأة، وتصون كرامتها ودورها داخل الأسرة والمجتمع، وتكفل حقها في التعليم والعمل. عن أية مكانة للمرأة يتحدث الإعلان؟ هل يتحدث عن المكانة الحالية للمرأة في المجتمع والقوانين، وهي مكانة أقل بكثير من مكانة الرجل؟ وأما كان الأجدر بهذا الإعلان أن ينص على الارتقاء بهذه المكانة حتى تعادل مكانة الرجل في الأسرة والمجتمع؟ ولماذا الحديث عن دور المرأة داخل الأسرة دون الحديث عن دور الرجل داخل الأسرة؟ وهل يعكس هذا الأمر تكريساً للدور النمطي للمرأة داخل الأسرة؟
وماذا عن الفقرة الثانية من المادة 11: يقوم الاقتصاد الوطني على مبدأ المنافسة الحرة العادلة ومنع الاحتكار؟ ونحن نعرف أن النساء هن الخاسر الأكبر في اقتصاد المنافسة الحرة، حيث تكون المرأة العاملة، وبخاصة في القطاع الخاص، مسلوبة حقوق إجازة الأمومة حتى ولو نصّ عليها قانون العمل، حيث يلجأ أصحاب العمل إلى الاستغناء عن تشغيل النساء. وبسبب المنافسة الحرة غالباً ما تخرج النساء من سوق العمل الرسمي (المنظم) لتتجه نحو العمل في سوق العمل غير المنظم، حيث لا حقوق مضمونة.
ماذا غاب عن هذا الإعلان؟
يُمكن البدء بأن غياب مبدأ السيادة للشعب يشكل مثلباً كبيراً في ترسيخ الديموقراطية التي غابت أيضاً عن هذا الإعلان. كما غاب عن الفقرة الثانية من المادة 14: تضمن الدولة عمل الجمعيات والنقابات، حرية تشكيل وعمل الجمعيات. وكان من الأفضل في المادة 15: العمل حق للمواطن، إضافة كلمة وواجب، ومن شأن إضافة هذه الكلمة (واجب) دفع السلطة الحاكمة إلى رسم سياسات حكومية تُشجّع النساء على العمل، ولا سيما أن حصة النساء من قوة العمل في سوريا، وفقاً للإحصائيات الرسمية، لا تتعدى خمس هذه القوة.
وغاب عن المادة 30 التي تتحدث عن مهمات مجلس الشعب مهمة مساءلة واستجواب الوزراء وليس مجرد عقد جلسات للاستماع. وغابت في المادة 43 آلية تشكيل المجلس الأعلى للقضاء. أما الفقرة الثانية من المادة 49: تستثنى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية وكل الجرائم التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين، فلم تشمل كل الجرائم التي ارتكبتها الأطراف المسلحة من غير النظام. كما غاب في المادة 50: يتم تعديل الإعلان الدستوري بموافقة ثلثي مجلس الشعب بناء على اقتراح رئيس الجمهورية، حق مجلس الشعب باقتراح تعديل للإعلان الدستوري وفق آلية ديموقراطية دون أن ترتهن إرادة هذا المجلس لاقتراح من رئيس الجمهورية. وإضافة إلى كل ما سبق لم يحجز الإعلان الدستوري “كوتا” محددة للنساء في جميع المواقع المنتخبة أو المعينة.
وفي خلاصة هذا النقاش للإعلان الدستوري يُمكن القول إن هذا الإعلان الدستوري شابه الكثير من التناقض والنقص، ولم يعكس رؤية متقدمة لمكانة المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ولا يُمثّل إلا خطوة متواضعة جداً على طريق القطع مع الاستبداد الذي عانت منه البلاد لأكثر من ستة عقود من الزمن.
(*) الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع 180 بوست