حين تصبح المسلّمات أوراق مساومة.. أزمة المنطق التفاوضي في لبنان

يُقال في أدبيات التفاوض إن الطاولة ليست مساحة لتبادل المجاملات، بل ميدان صراع منظم تُدار فيه المصالح وفق قواعد دقيقة. فقد وضع المنظرون، من روجر فيشر ووليام يوري (Roger Fisher and William Ury) إلى توماس شيلنغ (Thomas Schelling)، جملة مبادئ باتت تُدرّس في كبريات الجامعات، أبرزها:
  1. التفريق بين الحقوق الجوهرية وأوراق المساومة: ما كان من طبيعة الحق أو من مقتضيات القانون الدولي لا يجوز إدخاله في بازار التنازلات، بل يُعامل بوصفه مسلمة تفاوضية (Negotiation Premise) تُشكّل قاعدة انطلاق، لا بندًا للنقاش.
  2. إدارة السقوف التفاوضية (Bargaining Range Management): حيث يدخل الطرفان بأعلى المطالب، فيُنشأ مجال للتراجع المدروس وصولًا إلى مساحة اتفاق. غير أن هذه التقنية لا تُطبّق على الحقوق البديهية، بل على الملفات المختلف عليها بطبيعتها.
  3. مبدأ المقايضة العادلة (Fair Exchange Principle): التفاوض الناجح يقوم على معادلة “عطاء مقابل أخذ”، أي أن كل تنازل يجب أن يُقابله مكسب موازٍ أو يفوقه قيمة.

انطلاقًا من هذه المبادئ، يظهر الخلل عندما تُطرح في الحالة اللبنانية الراهنة ملفات من قبيل: انسحاب إسرائيل من المواقع المحتلة، وقف الاعتداءات اليومية، إطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، إعادة إعمار قرى الحافة الأمامية المُدمّرة، وكأنها أوراق تفاوضية تُقايض بملف سلاح حزب الله. والحال أن هذه البنود الأربعة لا تدخل في خانة “المكتسبات”، بل هي من الواجبات الطبيعية على المحتل ومن مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن.

إدخال هذه الحقوق في دائرة المساومة لا يندرج ضمن تقنيات التفاوض السليمة، بل يُمثّل في جوهره إضعافًا للـ(BATNA) الوطني (Best Alternative to a Negotiated Agreement) أي أفضل بديل متاح في حال فشل المفاوضات. فبدل أن يستند المفاوض إلى أرضية صلبة قوامها حقوق ثابتة يفرضها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، يجد نفسه قد حوّل هذه الحقوق إلى أوراق قابلة للمقايضة والخسارة. بذلك، يصبح البديل الواقعي عند انهيار المفاوضات هشًّا، لأن ما هو غير قابل للتنازل أصلاً قد أُدخل إلى بازار الأخذ والرد، وفُقدت معه ميزة الضغط التي تمنح المفاوض قوة الصمود والمناورة.

يفترض أن تكون هذه الحقوق راسخة بوصفها أرضية لا نقاش فيها، فيما يُفتح التفاوض الحقيقي على ملفات إضافية تضيف قيمة استراتيجية:

  • التعويضات المالية والسياسية عن عقود من الاحتلال والدمار، أقلّه التدمير الذي حصل في المعارك الأخيرة وتفجير المنازل والبلدات حتى بعد أن أصبح قرار وقف إطلاق النار نافذًا.
  • الضمانات الأمنية عبر آليات دولية واضحة، لا مجرد وعود عابرة.
  • ترسيم الحدود البرية والبحرية بشكل نهائي لتجنّب نزاعات مستقبلية.
  • البعد الإقليمي والديموغرافي مثل ملف اللاجئين الفلسطينيين وأثره على التوازنات اللبنانية.

على أن ما يزيد المعضلة تعقيدًا هو أن الوسيط الأميركي لم يتقمّص دور الوسيط بالمعنى الأكاديمي للكلمة، أي ذاك الذي يبتكر حلولًا خلاقة ويقدّم مقترحات عادلة، بل اكتفى بلعب دور ساعي البريد بين تل أبيب وبيروت؛ ينقل الشروط أكثر مما يصوغ حلولًا، ويضغط أكثر مما يسعى إلى توازن. فالمفاوضات، وفق نظريات التوسط الحديثة، تحتاج إلى “وسيط مبدع” (Creative Mediator) يبتكر صيغًا تكسر الجمود وتفتح أبوابًا للتسوية. أما حين يتحول الوسيط إلى ناقل رسائل منحاز، فإن الطاولة تصبح مجرد واجهة لموازين القوى القائمة على الأرض، لا مختبرًا لإنتاج حلول عادلة ومستدامة.

بهذا المعنى، يصبح النقاش حول السلاح مشروعًا فقط إذا أُدخل في معادلة مع مكاسب استراتيجية مضاعفة، لا إذا جرى مقايضته بحقوق طبيعية لا يُفترض أصلًا التنازل عنها. فالتفاوض، كما يقول شيلنغ، هو “فن جعل التهديدات والوعود قابلة للتصديق”، أي أن قوة المفاوض لا تُقاس بما يتخلى عنه، بل بما ينجح في تثبيته كمسلمة قبل أن يبدأ الحوار.

وكما كتب فيشر ويوري في كتابهما المرجعي (Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In): “لا تفاوض ناجحاً من دون أن يُبنى على ما هو مشروع وعادل. فالمسألة ليست في اقتسام الكعكة وحسب، بل في الاعتراف أولًا بما هو حق لا يقبل التجزئة”.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الجواهري.. نهر العراق الثالث وغابته المترامية
جوسلين معلوف

مستشارة قانونية حائزة على إجازة في الحقوق، إلى جانب دبلوم دراسات عليا في القانون العام، وماجستير في الدبلوماسية والمفاوضات الاستراتيجية؛ لبنان.

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  أسرى "الطوفان" والغزو البري.. مَنْ يسبق مَنْ؟