سيكتشف أُولي الأمر، بل الناس أجمعهم، بعد الوباء، أن التناقضات الداخلية لرأس المال المالي ستكون مدمرة. هل تستطيع الرأسمالية تحمل أعباء هذا الخراب؟
أدى الانكماش الاقتصادي بعد الحرب العالمية الأولى الى تباعد ديبلوماسي واجتماعي، وأدخل الدول في حروب جمركية بين بعضها داخل النظام الرأسمالي. حدث شرخ كبير، أدى الى حصول تحالف كبير، جزء منه الاتحاد السوفياتي، وفي قيادته الولايات المتحدة، لدحر المعسكر الرأسمالي الآخر الذي قادته النازية والفاشية.
الآن تتصاعد الفاشية حول العالم. تعبر عن نفسها في الاتجاه الي اليمين المتطرف، وعلى أنقاض الشيوعية والاشتراكية في بيئات فقيرة كان يمكن أن تكون يسارية. لم يكن صدفة أن وزيرة خارجية أميركية سابقة وأستاذة جامعية أصدرت كتاباً منذ بضع سنوات تحذر فيه من صعود الفاشية. قبل ذلك، أصدرت احدى أساتذة بابل كتابا بعنوان “عالم يحترق”. وكتب أستاذ جامعي أميركي آخر كتاباً بعنوان “انهيارات” حضارات العالم. ربما كان ذلك رداً على كتاب صامويل هنتنغتون حول “صراع الحضارات”، ومقولة فرانسيس فوكوياما حول “نهاية التاريخ”. هل تعني نهاية التاريخ سوى نهاية الجنس البشري، أو انهيار حضارته، وليس فقط توقف التاريخ؟
الآن، وقد قاربت رئاسة دونالد ترامب نهايتها، هل سوف تنتهي معه سياسة “كم أفواه” الدول الكبرى التي تخولها نفسها منافسة الامبراطورية الأميركية؟
على هذه الدول الكبرى أن تخضع وأن تدفع ثمن خضوعها للامبرطورية، بالأحرى ثمن دفاعها عنها. القوة العسكرية الأميركية، إذا قيست بالانفاق العسكري، تضاهي ضعف الانفاق العسكري لبقية العالم مجتمعاً. منطق العقوبات الذي تفرضه الدولة الأميركية على دول أخرى، وعلى مواطني دول أخرى، يناقض كل محتوى انساني ناضلت البشرية من أجله، وهو أن تكون لكل دولة سيادتها على أرضها، وأن تحاكم الدولة مواطنيها على أرضها. لقد أسموه القانون الدولي. مفهوم غامض ملتبس لكنه مفيد كي تبقى “الديبلوماسية” الدولية على شيء من التحضر. إذا كان القانون الدولي قد أنتج الأمم المتحدة والمنظمات الدولية للنقد، وأخرى للتجارة، وأخرى للتبادل المصرفي، وكذلك مؤسسات أخرى للتنمية والصحة والثقافة وحقوق الانسان وحقوق الطفل، الخ..، فإن الولايات المتحدة تنسحب منها أحادياً دون نقاش، الواحدة بعد الأخرى.
ليست الكورونا هي ما أنتج “اللوكداون” في السياسة العالمية، بل هي السياسة الأميركية التي أنتجت “اللوكداون” وفرضته على دول العالم. لا يحدث شيء في العالم دون تدخل أميركي، إدعاءً للوساطة في سبيل السلام
“أميركا أولاً” تعبير مضمر في السياسات الأميركية منذ استقلال الولايات المتحدة. تعبير يعني خضوع دول العالم لسيادة الولايات المتحدة. لا سيادة إلا للدولة الأميركية. يخضع لها البشر الآخرون: دولاً وأفراداً. لا يحاكم جندي أميركي ارتكب جرماً في بلد آخر، إلا في الولايات المتحدة ولا يخضع لقوانين البلد الذي ارتكب الجرم فيه بل للقوانين الأميركية. هذا بينما يخضع كل غير الأميركيين في العالم للقانون الأميركي. الإرهاب هو ما يقوم به غير الأميركيين في العالم، في أي صقع من العالم، مما يمس المصالح الأميركية، بالأحرى ما تعتبره السلطة الأميركية مصالحها. المصالح الأميركية لا تعني ما يجري على الأرض الأميركية، بل كل ما يجري في العالم. رهينة أميركية واحدة تكون الخبر الأول في كل نشرات الأخبار العالمية. في الوقت ذاته، جعلت بلداناً أخرى، في ما يسمى العالم الثالث سابقاً، لتكون مقراً لسجون التعذيب. جميعها تقريباً بإشراف الولايات المتحدة، أو من ينوب عنها من الحكام المحليين.
“اللوكداون” تعبير شاع مؤخراً بعد انتشار وباء الكورونا. مضمونه قديم. على الدول الأخرى أن تسجن نفسها في إطار ما تقرره السياسة الأميركية. “أميركا أولاً” معناه أميركا دائماً على حق. ليست الكورونا هي ما أنتج “اللوكداون” في السياسة العالمية، بل هي السياسة الأميركية التي أنتجت “اللوكداون” وفرضته على دول العالم. لا يحدث شيء في العالم دون تدخل أميركي، إدعاءً للوساطة في سبيل السلام.
الحرب مثل سيف ديموقليس المعلق فوق رؤوس العباد والدول الأخرى، كبرى كانت أم صغرى. السياسة الخارجية الأميركية هي سياسة حرب. النظام العالمي الذي تفرضه الولايات المتحدة هو نظام حرب. مئتان وأربعون سنة من الاستقلال خاضت فيها دولتها أكثر من مئتي حرب. امتلاك السلاح النووي يعني آجلاً أم عاجلاً خراب البشرية. الولايات المتحدة هي القوة النووية الكبرى. هي التي تختار الدول الأخرى التي يمكنها امتلاك هذا السلاح. ألا يسترعي الانتباه رفض النووي لإيران، بينما باكستان، وهي دولة اسلامية أخرى، وعلى الحدود الشرقية لإيران، يُسمح لها بالنووي.. أما النووي الاسرائيلي فهو أمر مسكوت عنه. لا يصنف امتلاك النووي إرهاباً، ولا الاستبداد لدى الشعوب الأخرى إرهاباً، ولا التدخل في شؤون الدول الأخرى إرهاباً. عشوائية السياسة الخارجية الأميركية تقرر ما هو الإرهاب ومن هو الإرهابي وما مصير الإرهابي، سواء كان دولة أم فرداً.
لا تشكل حكومة في لبنان وفيها رائحة حزب الله. يتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية سلوك “قبضاي الحي”
الدولة التي يمارس قادتها الإرهاب، سواء جاؤوا الى السلطة بالانتخابات الديمقراطية أو بالانقلابات على الديمقراطية هم أقرب الأصدقاء لدى الولايات المتحدة. بعد أن صنفوا حزب الله ميليشيا، صنفوه إرهابياً. لا تشكل حكومة في لبنان وفيها رائحة حزب الله. يتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية سلوك “قبضاي الحي”. السلاح النووي بدايته الولايات المتحدة. ليس فقط ناغازاكي وهيروشيما. كل سلاح نووي لدى أية دولة في العالم بدايته الولايات المتحدة الأميركية. يصنف سلباً إذا كانت الدولة التي امتلكته تخالف الإرادة الأميركية، أو إذا صارت كذلك، كما هي الحال في إيران.
بين دول العالم، خمسة عشرة دولة تملك السلاح النووي. يستبعد من لا ترضى عنه الولايات المتحدة؛ ويخضع للعقوبات. قريباً سوف يحل تعبير”التباعد الديبلوماسي”، مكان التباعد الاجتماعي. تعابير أبوكالبتية (نهاية العالم في الايديولوجيا الدينية) تستخدم في السياسة الدولية. الآخر المستبعد، المعاقب، هو من لا يخضع للسياسة الأميركية. الولايات المتحدة بلد ديمقراطي، لكن السياسة الخارجية يضعها البنتاغون (وزارة الدفاع) لا وزارة الخارجية. يضعها البنتاغون، آلة الحرب الكبرى، آلة تملك القدرة على تدمير العالم. لا يستطيع أي رئيس أميركي أن يغيّر ذلك، ولا حتى جو بايدن. الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي جناحان لتنظيم واحد، محركه القوة العسكرية الأميركية. الدولار عملة الاحتياط العالمية تحميه هذه القوة. لا معنى للدولار إذا لم تكن وراءه قوة تحميه. الإرادة الأميركية فقط هي الدولار. لا القوة الاقتصادية.
اختارت أميركا لنفسها دور الشعب المميّز، شعب الله المختار. التعبير توراتي. صار صهيونياً. هكذا صارت الولايات المتحدة: الصهيونية الكبرى في العالم. اسرائيل ربيبة أميركا لأنهما يحملان الايديولوجيا ذاتها. لو كانت اسرائيل دولة كبيرة لما كان ذلك يحق لها. هي الولاية الواحدة والخمسين بين الولايات الأميركية. التطبيع مع اسرائيل يوازي التطبيع مع أميركا ذاتها.
هؤلاء لا يرون أن أكثر الزيادات في ثروات الأغنياء في السنة الأخيرة، مع “اللوكداون”، كانت للأكثر ثراء في الأصل. هؤلاء هم أصحاب منصات الانترنت الأساسية (غوغل، فايسبوك، مايكروسوفت، الخ..)
تحقق أميركا تفوقها وسيادتها على العالم بواسطة “هاردوير” السلاح و”سوفت وير الديجيتال”. بالحرب التقليدية والنووية؛ وبالسيطرة على العقول وعلى ثقافة العالم. بالقوة الغاشمة كما بالقوة الذكية. ليس هناك تناقض أو تمييز بين الإثنتين كما يقول جوزف ناي. القوة الصلبة (هاردوير) تؤمن الحماية لكل المصالح الأميركية حول العالم، وتمارس التدخل العسكري، حتى الحرب، في الدول التي لا تنتظم. ليس الأمر خياراً بين هذا وذاك، كما يقول ناي. أميركا كل متماسك من هذا وذاك. شعب لديه هذا وذاك ولديه أكثرية بيضاء، أكثريتها مسيحية صهيونية من النوع الذي يرتاد الكنائس باستمرار، والذي يؤمن بتفوّق الرجل الأبيض ويرفض تطورية داروين، ويمارس من حيث لا يدري داروينية من نوع آخر. هي الداروينية الاجتماعية التي ترفض أسس الداروينية، حول تطوّر الانسان من كائنات أدنى، ويقبل النتائج الاجتماعية للداروينية ما دامت تنتهي الى نتائج عنصرية. نتائج أقل ما يقال فيها أنها تعتبر بقية العالم عبئاً على الرجل الأبيض وعالمه المغلق. كثير من هؤلاء نيوليبراليون يدينون الدولة. كما قال رونالد ريغان: “الدولة ليست الحل بل هي المشكلة”. هؤلاء لا يقبلون اللقاح من أي نوع ولا حتى اللقاح ضد الكورونا، لأنه في نظرهم الله هو الذي يشفي أو لا يشفي. هم يعتقدون أن مصدره الدولة، أو شركات تدعمها الدولة. هؤلاء لا يستطيعون الإقرار بأن وجودهم يعتمد على الدولة. طريقة العيش الأميركية التي يتباهون بها تعتمد على الدولة. يريدون الكعكة وأكلها في الوقت ذاتها. وهم مستعدون لدعم أي حرب تشنها الولايات المتحدة. مع شرعية ذلك أو من دونها. مع قرار من الكونغرس يسمح بالحرب، كما هو القانون، أو بدون ذلك. برغم أكاذيب جورج بوش الإبن وكولن باول حول أسلحة الدمار الشامل في العراق، قبلوا الحرب ضده بحماسة. أرادوا اعتبار عراق صدام حسين مصدر إزعاجهم. تغاضوا عن كون جميع الذين دبروا كارثة 11 أيلول/سبتمبر هم سعوديون إلا واحداً. السعودية حليف كنظام لا يزعجهم. لم ير صدام إشارة “الرجاء عدم الإزعاج” على الباب.
هؤلاء لا يرون أن أكثر الزيادات في ثروات الأغنياء في السنة الأخيرة، مع “اللوكداون”، كانت للأكثر ثراء في الأصل. هؤلاء هم أصحاب منصات الانترنت الأساسية (غوغل، فايسبوك، مايكروسوفت، الخ..). السجن المنزلي يعاظم استخدام الانترنت والهاتف الذكي. كذلك التعليم عن بعد. بورصة وال ستريت تعاظمت خلال أزمة الكورونا ولم تتراجع. تعاظم جحافل العاطلين عن العمل، لم يمنع تزايد ثروات أصحاب تكنولوجيا الديجيتال. ربما العكس هو الصحيح. لكنه تعاظم يؤدي الى مزيد من الفقراء حول العالم وفي الولايات المتحدة. ليست المشكلة في من يُختار للرئاسة، بل في التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي. النظام الذي يلزمه (صار يلزمه) عدد أقل من العاملين. المصيبة أن ذلك يقودهم الى الاستنتاج أن هناك حاجة أقل للبشر. وأن على البشرية أن تتناقص ولو بالحرب الفعلية (هاردوير السلاح).
سقطت الأنظمة الاجتماعية في السابق طوعاً أو كرهاً. ربما لأنها أصبحت تتنافى مع الطبيعة البشرية في تطورها
انتشار الأسلحة النووية يعرض مصير البشرية للخطر. انتشار الخلوي والانترنت يجعل كل شخص تحت المراقبة. لا أحد متروك لنفسه. وباء الكورونا يجبر كل فرد على البقاء بعيداً عن الآخرين. الحياة الاجتماعية شبه معدومة. التواصل مع الآخرين، الحياة الاجتماعية، هي مصدر التطوّر لدى الأفراد. مع التباعد ينغلق الفرد على ذاته. تنمو الأوهام. تنتصر الحقائق الافتراضية. تصير الذات فاقدة موضوعها؛ فاقدة أي تواصل اجتماعي إلا مع الآلات الذكية. هذه تملي حقائقها على الناس. تعيد تشكيل عقولهم وقلوبهم. لا يعود مهما المصير الاجتماعي، مصير البشرية. التناقض الكبير هو أن ذلك يحدث (فردية مطلقة) في وقت تتعرض فيه البشرية لأخطار الفناء، من الوباء الى الأسلحة النووية.
سقطت الأنظمة الاجتماعية في السابق طوعاً أو كرهاً. ربما لأنها أصبحت تتنافى مع الطبيعة البشرية في تطورها. تعتبر الرأسمالية الآن أنها هي الطبيعة البشرية ولن يتاح لها شرف السقوط دون تدمير البشرية. أصبح وجودها معاد للطبيعة بكل أشكالها. اكتشف الكثير من الناس أن للرأسمالية بداية كنظام اجتماعي. وما له بداية له نهاية. يتوقع الناس سقوط الرأسمالية برغم أن الكثيرين ما زالوا يعتقدون بأبديتها وكأن وجودها واحد من قوانين الطبيعة. لكن سقوطها حتمي كي لا يسقط الوجود البشري. ليس ضرورياً أن تعرف كيف ومتى. كل ما علينا معرفته هو أن الرأسمالية كان في بدايتها فائدة للبشرية، خاصة على صعيد التواصل الاجتماعي والعلم الوضعي. لكنها وصلت الى أوج هذا التطوّر حتى باتت تفقد التواصل الاجتماعي وتدعو للتباعد الاجتماعي. وأصبح العلم الذي أوصل للسلاح النووي واختراع كائنات حية جديدة، خطراً على البشرية. صار وجود الرأسمالية يتناقض كلية مع الوجود البشري. سوف تختار الطبيعة أيهما يبقى: البشرية أم النظام الرأسمالي؟.