أوقفوا هذا التّلاعب.. بمفهوم “الدّولة”!

نكرّر منذ فترة غير قصيرة نسبيّاً التّنبيه إلى خطورة الاستخدام المثاليّ - بمعنى غير الواقعيّ - بل والدّوغمائيّ المتطرّف في الغالب: لمفهوم "الدّولة" (و"بناء الدّولة" بطبيعة الحال) من قبل بعض اللّبنانيّين، لا سيّما منذ بداية السّنة الجارية. وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ "بناء الدّولة" تحديداً بات يُستخدم أكثر فأكثر من قبل الجهات الاستعماريّة المتجدّدة في لبنان وفي المنطقة، بهدف تغطية السّياسات الاستغلاليّة والاستبداديّة والاحتلاليّة لهذه الجهات... والهادفة طبعاً إلى حماية مشروعها المركزيّ "إسرائيل"، ربّما قبل أيّ شيء أو أيّ جهة أخرى في هذه البقعة من الأرض. ويبدو أنّ الـShow مستمرّ ليس فقط على لسان توم برّاك، بل أيضاً وللأسف، على لسان كثير من مسؤولينا وسياسيّينا وناشطينا الحاليّين... عن حسن أو عن سوء نيّة (والله أعلم بباطن النّفوس).

ولكي تتأكّد بأنّنا حقّاً أمام استخدام دوغمائيّ لمفهوم “الدّولة”، يُمكنك عزيزي القارئ أن تتفرّج كيف أصبح “بناء الدّولة” في جارتنا سوريا مثلاً… عبارةً عن “بناء دولة” بالتّعاون مع تنظيم “القاعدة ” وأبنائه وأخواته وقياداته (بعضهم كان مسؤولاً في “داعش” كما نعلم)! وبمعزل عن رأينا في تنظيم “القاعدة” والمجموعات والفصائل التي تُشبهه، لا شكّ في أنّ سلوك القوى الاستعماريّة الغربيّة مع السّلطة الجديدة في دمشق، يُشكّل دليلاً واضحاً على أنّ الهدف الحقيقيّ والواقعيّ من دعوة هذه القوى لنا – المستمرّة والمتجدّدة إلى درجة الهَوس أحياناً – للحفاظ على “الدّولة” و”لبناء الدّولة” ولبسط “سيادة الدّولة” إلخ…. إنّ هدفها لَهُو التّمويه والتّغطية على خططها الاستعماريّة الطّابع والمضمون والمقصد إذن.

حكومات غربيّة، بُناة “عصر النّهضة”، وبُناة الثّورة الصّناعيّة، وبُناة الثّورات الحقوقيّة الدّيموقراطيّة وما إلى ذلك؛ وبُناة الحداثة وما-بعد-الحداثة (في ما تزعم طبعاً)… تقوم “ببناء الدّولة” مع قيادات تنظيم “القاعدة” والتّنظيمات السّلفيّة المتحالفة معه. تخيّل المشهد من الزّوايا التّاريخيّة والفكريّة وحتّى السّياسيّة… بل شاهده أمامك عزيزي القارئ!

المهمّ، وكما أشرنا في السّابق، يُمكننا تعريف المقولات أو الأطروحات الدّوغمائيّة في هذا الاطار على أنّها، وباختصار، مقولات أو أطروحات قد تكون “عقلانيّة” (Rationnelle) في ذواتها… ولكنّها، متى تخرج من إطار ذواتها نحو الواقع، تسقط أمام هذا الأخير وتنهار أمام التّجربة.

في أحيانٍ كثيرة، عندما تسمع بعض مسؤولينا الحاليّين يتحدّث – بدوغمائيّة غريبة التّطرّف واقعاً – عن “حقّ الدّولة، المقدّس أو شبه المقدّس، في كذا وكذا”… تهيمن عليك، كلبنانيّ، حاجة ملحّة إلى الصّراخ عالياً: عن أيّ “دولة” نتحدّث؟

حقّاً، عن أيّ “دولة” يتحدّث بعض مسؤولينا تحديداً، عندما يُنادون لها بعدد من الحقوق النّظريّة، مع اهمال حقيقة أنّ على هذه الدّولة – في المبدأ – واجبات أيضاً (وربّما ابتداءً)؟

أليس على “الدّولة” أن تقوم بواجباتها، وأن تُثبت أنّها تُحقّق أهدافها ومقاصدها ووظائفها؟ أم أنّنا نُكرّر هذا الشّعار لمجرّد إرضاء هذه القوى الاستعماريّة التي ذكرناها آنفاً؟

هكذا يُقدَّمُ الأمرُ إلى أهلنا اليوم، مع التّبسيط: أنتم أمام “دولة” تدّعي حقوقاً، وهي في الغالب (وتاريخيّاً)… لا تحمي، ولا تبني، ولا تُصلح… ولا حتّى تخدم كما سنرى في ما سيلي.

ولكي نبتعد قليلاً عن مواضع الخلافات الأكبر والأكثر اشتعالاً حاليّاً، فلنتجوّل معاً في أمثلة معيّنة، ومن حياتنا اليوميّة الأشدّ بساطةً قدر الامكان… حتّى نقتنع سويّاً بأنّ الأمر يتخطّى الخلاف الحاليّ حول سلاح المقاومة بالذّات.

خذ مثال النّظام العامّ والالتزام بالقانون، وبالذّات قانون السّير. بل خذ مثالاً بسيطاً كالدّرّاجات النّاريّة إن شئت: قل لي، عزيزي القارئ، بناءً على أيّ قانون تمشي هذه الدّرّاجات – في الواقع العمليّ (لا النّظريّ الدّوغمائيّ)؟ بناء على أيّ قواعد وعلى أيّ قوانين… في الأرض أو في السّماء؟

بناء الدّولة مطلبٌ ملحّ بل وضروريّ، لا سيّما في هذا العصر، ولكنّ المطلوب هو دولة تفي بالتزاماتها وبواجباتها وتحقّق أهدافها، وبذلك تطالب ناسَها بعدد من الحقوق. ليس المطلوب “دولة” على طريقة النّغمة الحاليّة ضمن بعض الأوساط في البلد: أي “دولة” هي مجرّد شعار يستخدمه المُستعمر ويروّج له بعض أصدقاء المستعمر، أو يروّج له أهلُ الدّوغمائيّة والأوهام

يخرجون لك كطير اللّيل ذي الطّيش، الذي يتنقّل بلا رؤية من أمامه ولا من وراءه. يخرجون لك حتّى في النّهار، من كلّ حَدبٍ وصَوب، ولا يلتزمون – في الأغلب – بالحدّ الأدنى من معايير السّلامة والأمن واحترام القوانين… بل ويصرخون في وجهك – إن لم يشتموك – إذا لم تتركهم يمرّون بشكل مخالف! أين “الدّولة” في هذا الموضوع البسيط تحديداً؟ قل لي وبكل أمانة: أين هي؟

هل سيعمل بعض مسؤولينا على “حصر” ظاهرة تفلّت الدّرّاجات النّاريّة مثلاً… قبل اكثار الكلام عن “حصر” أيّ شيء آخر؟ علينا ربّما، على كلّ حال وفي هذا البلد، أن نعمل على “حصر” كلامنا الدّوغمائيّ والتّنظيريّ إذا أمكن.

خذ أيضاً مثال الخدمات الأساسيّة، وحدّث بلا حَرج: ملفّ السّكن؛ ملفّ المياه؛ ملفّ التّلوّث البيئيّ؛ ملفّ الكهرباء؛ ملفّ التّقاعد وضمان الشّيخوخة؛ ملفّ الضّمان الاجتماعيّ… بل خذ مثلاً ملفّ التّعليم، حيث يُجاهد أغلبنا لمجرّد التّمكّن من دفع أقساط المدارس… ليؤمّن لأولاده الحدّ الأدنى من المستوى المطلوب في المجتمع وفي أسواق العمل.

سمعنا في الماضي – وربّما نسمع – أيضاً بمن يأتي لنفسه أو لأقاربه برخص تعليميّة وتربويّة وجامعيّة، هنا وهناك، وهو في موقع المسؤوليّة… (هل هذا مُستبعد في بلد كهذا حقّاً؟). الفضائح في هذا الموضوع قديمة ومتجدّدة ومعروفة، ولكنّ تقصير الدّولة موضوعيّ وحقيقيّ وكبير. هنا أيضاً، نسأل بكلّ محبّة وبأمانة: أين هي هذه “الدّولة”؟

إقرأ على موقع 180  لا تناقض بين استمرار حرب غزة.. والانتخابات الأميركية!

حدّثني أيضاً، إن شئت، عن مثال الأمن الشّخصيّ للمواطن. أنا وايّاك نعلم، عزيزي القارئ، أنّ على اللّبنانيّ أن يُدير موضوع أمنه الشّخصيّ بنفسه… في مناطق كثيرة ضمن هذا البلد. ويُمكننا أن ندّعي، مع مخاطرة صغيرة نسبيّاً: أنّ أمن المواطن اليوميّ قد يكون مؤمّناً بشكل أكبر نسبيّاً… حيث تتواجد عناصر حماية محلّيّة (عائليّة، أو عشائريّة، أو حزبيّة… أو ما إلى ذلك).

لطالما يكتشف اللّبنانيّ وبكلّ صدق، وفي حياته اليوميّة: أنّ “الدّولة” ليست خياراً مناسباً وناجحاً – للأسف – لتحصيل عدد من الحقوق. هل أبالغ حقّاً… عزيزي القارئ؟

واذكُرْ في هذا المقال أيضاً مسائل الفساد وهدر المال العامّ (وسرقته المفترضة إن لم تكن المرجّحة لدى أكثر النّاس كما تعلم). لن أُطيل عليك كثيراً هنا، أيّها القارئ العزيز، لأنّ الموضوع معروفٌ جدّاً… بل ويشكّل فضيحة مشهودة ومن العيار العالميّ الصّيت. “دولة” تصل إلى حدّ الإفلاس، أقلّه بسبب هدر المال العامّ، حتّى لا نضطّر إلى ادّعاء ما هو أخطر من ذلك بكثير… ثمّ لا تُحاسب أهمّ مسؤوليها، حتّى منهم المباشرين وما دون زعماء الطّوائف (من ذوي القداسة ضمن هذه “الدّولة” إذن).

“دولة” تدّعي مصارفُها أنّها لا تستطيع ردّ مالِ المودِعين… فلا تستطيع تلك “الدّولة” المذكورة أن تحكم بالعدل، ولا أن توزّع “الخسائر” بإنصاف، ولا أن تعترف بأنّ القرار السّياسيّ هو المسؤول أوّلاً، ولا أن تُحاسب من اتّخذ القرارات الكارثيّة المتراكمة، ولا أن تشرح لمواطنيها ما الذي حصل تحديداً… ومن أهدر المال العامّ أو أساء به التّصرّف، ومن سرقه، ومن ساعد على ذلك، ولماذا لا يقترب أحد من أصحاب القرار السّياسيّ الذين أوصلوا البلد إلى هذا الدّرك الأسفل… وبئسَ المَصير.

“دولة” كهذه… تُريدون أن تُقنعونا بأنّ لها حقوقاً مُطلقة وغير مشروطة… ولا تخجلون من ذلك، أو لا تُزعجكم دوغمائيّتكم البيّنة؟ أم الهدف هو مجرّد الانصياع لمطالب القوى الاستعماريّة التي تستخدم هذا الشّعار؟

كما نشير على الدّوام، علينا أن نعمل معاً على بناء دولة جدّيّة وواقعيّة، لا “دولة” تتخيّلها أذهان المستعمرين وأذهان الدّوغمائيّين من مسؤولينا وغيرهم.

لا “دولة” تركت أوساطاً كبيرة من شعبها تاريخيّاً… من دون حماية تجاه احتلال غاشم وظالم كالاحتلال الاسرائيليّ… وقد هربت من مواجهته بجدّيّة إلّا في النّادر النّادر.

ولا “دولة” تأبى إلّا أن تُسلّح جيشَها الوطنيّ من خلال الأميركيّ نفسه، أي الصّديق غير المشروط للإسرائيليّ.

ولا “دولة” تخشى أن تسمحَ بإعادة اعمار قرانا ومدننا اليوم… بسبب الابتزازات الخارجيّة. ولا “دولة” تبتزّ هي شعبها إلى حدّ بعيد (بالمناسبة يعني…).

اللّائحة قد تطول، وقد تطول جدّاً، ولكنّ مواضيعَها وتفاصيلَها معروفةٌ لكلّ مراقبٍ أمين.

بناء الدّولة مطلبٌ ملحّ بل وضروريّ، لا سيّما في هذا العصر، ونحن نكرّر ذلك على الدّوام. ولكنّ المطلوب هو دولة تفي بالتزاماتها وبواجباتها وتحقّق أهدافها… وبذلك تطالب ناسَها بعدد من الحقوق. ليس المطلوب “دولة” على طريقة النّغمة الحاليّة ضمن بعض الأوساط في البلد: أي “دولة” هي مجرّد شعار يستخدمه المُستعمر… ويروّج له بعض أصدقاء المستعمر، أو يروّج له أهلُ الدّوغمائيّة… والأوهام.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كتاب بابيه "أكبر سجن على الأرض".. نقض سردية 1967