رحيل المناضل المغربي أسيدون.. وداع الأغصان وعهدُ الكوفية

في صباح الأحد التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، في المقبرة اليهودية بالدار البيضاء، حيث سكونُ التاريخ، أُسْجِيَ الجسدُ المُتعَب، لكن الروحَ كانت تحتشد. لم تكن جنازة شخص، بل كانت مسيرة يقين.

الأرضُ تشرَّبتْ أسيدون، فارتفعَ فوقها حضورٌ هائل، حضورٌ شعبيّ، وحقوقيّ، وسياسيّ، جمعتهم شهادةٌ واحدة: أنَّ العدلَ لا يموتُ بالرصاص أو بسقطة مُرَوَّجة.

سيون أسيدون.. يا سيدي.. يا بستانيّ الديموقراطية، كيفَ تُشَذِّبُ أغصانَكَ فَتَسقط؟ والعمرُ كلُّهُ كان صعوداً في وجه العاصفة.

الكلماتُ ما زالت تسألُ عن تلك الكدمات، عن نزيفِ الرأس، عن أسلاكِ التنفس التي قُطِعَت، بعد أن أرجأتْ الخبرَ اللعين.

يا رفيقَ فلسطين، هذهِ الكوفياتُ التي لَفَّتْ جباهَ المُشيِّعين، هي امتدادٌ لروحِكَ التي لم تفرِّقْ بينَ ظلمٍ وظلم..

قد كذّبَ التطبيعُ حينَ راهنَ على نسيانِكَ.

جنازتُكَ كانت استفتاءً.. صوتاً مُدوياً يقول “لا.”

***

“وتقول: لا
يا أيّها الجسد المضرّج بالسفوحِ وبالشموس المقبلهْ
وتقول: لا
يا أيّها الجسد الذي يتزوّج الأمواج فوق المقصلهْ
وتقول: لا.. وتقول: لا.. وتقول: لا!

(…)
واذهبْ إلى دمك المهيّأ لانتشارك.. واذهب إلى دميَ الموحّد في حصارِك
(…)
فاذهبْ عميقاً في دمي.. اذهبْ براعمْ.. واذهبْ عميقاً في دمي.. اذهبْ خواتم.. واذهبْ عميقاً في دمي
اذهب سلالم”. (محمود درويش)

***

الآن، في غفلةٍ من الحرس، سنعلمُ أنَّكَ ستُغادِرُ القبرَ ليلاً، ليسَ لتستريح، بل لتتفقّدَ المسيرات.. لتنثرَ الهتافاتِ المندّدة، وتوزِّعَ الأملَ على العابرين.

لن ننسى يمينَكَ للياسمين والأزهار، برعايةِ أغصانِها حتى تُزهرَ فواكهَ الديموقراطية والأمان.

لأنَّكَ لستَ ترابًا، بل أسطورة مُتجسِّدة.

أسيدون هو الآن موكبٌ من الأشجارِ الباسقة تمشي تجوب شوارع ودروب الوطن، والكوفياتُ تعلوها، والرايةُ الفلسطينيةُ تُكَلِّلُها، بالمجدِ الذي لا يضيعُ ولا يُغَيَّب.

***

في تلك الليلة الصيفية بمدينة المحمدية، لم يكن الصمت مجرد هدوء، بل كان جرسًا يُدَقُّ لإعلان فاجعة.. حين وُجِدَ المعطي، أو سيون أسيدون كما عرفه العالم، جسدًا مطروحًا على الأرض، لم يكن غيابه عاديًا.. لقد كانت آثار الكدمات على رأسه وجسده تحكي قصة صراع لم يُكشَف ستارها بعد؛ قصة رسمت على جسد الرجل الذي قضى عمره يرفض الانحناء.

نُقِلَ على عجل.. كأن الأمل في الحياة يتشبث بآخر خيط واهٍ، من مصحة “أكديطال” إلى مستشفى الشيخ خليفة في الدار البيضاء.. ومنذ تلك اللحظة، انقبض القلب بيقين مؤلم.. لن نلتقي ولن نرى ثانيةً هذا القائد الأممي، الذي جعل من مناهضة الاستبداد والدفاع عن فلسطين بوصلة لروحه.

لقد أحاط الغموض تفاصيل ما جرى كالهالة السوداء.. وفي المقابل، عصف القلق والغضب بصدور وقلوب الرفاق.

لم يكن بلاغ النيابة العامة الأول ليحمل طمأنينة، كان بلاغًا باردًا ترك الباب مواربًا على وعد بالتحقيق.. وعدٌ ذكّرنا بـملفات التغييب الكبرى، وألقى بظلاله على كل مسألة.

وعلى أبواب المستشفى، تحول الوقوف إلى طقس نضالي.. رفاق الجبهة المغربية لمساندة فلسطين، ومناضلو حركة المقاطعة BDS كانوا هناك، يسألون ويستفسرون في حيرة.. كانت الإجابة القاسية تعود كل مرة: “إنه لا زال على قيد الحياة”.

لكن الحقيقة المرة كانت تُحَدَّدُ بأسلاك جهاز التنفس الاصطناعي، ليتحول أسيدون إلى جسد مسجى، ترفرف فوق روحه أرواح الشهداء الذين آمن بهم، في بحث أبدي عن الحرية.

وظلوا يؤجلون الخبر اللعين، يتدبرون ساعة الخفوت ولحظة نجاحهم في “امتصاص النقمة الشعبية”. وعندما ارتضوا التاريخ، جاءت الإشارة القاطعة، فقُطِعَت الأسلاك. ظهر الوكيل القضائي ثانية ببلاغ النعي، يؤكد فيه الرواية الأولى، مستخدماً فعل “الترجيح” لا “التأكيد”، ليترك الشكوك تنمو وتتجذر.

***

يا للمفارقة، لقد انتهى أسيدون الشامخ، وفق ما قالوا، تحت شجرة كان بصدد تشذيب أغصانها المتمادية. هو الذي قضى عمره لا يشذب “زوائد” القمع والاستبداد، بل كان يسعى إلى اقتلاعه واجتثاثه من الجذور، مؤمنًا بحلمه الأبدي: “أن يرى الديموقراطية تسود في هذه البلاد، ويتحقق نصر الشعب الفلسطيني”.

كانت جنازته، برغم ألمها وقسوتها، شاهد عيان على الحياة النابضة. حدثًا هائلاً، مليئًا بالعزاء. حضور مهيب، وعَلَم فلسطين يرفرف بألوانه الأربعة، وهتافات تؤكد العهد: “أسيدون يا رفيق.. سنواصل الطريق”. للتأكيد لمن في حاجة لتأكيد أن سيون أسيدون المناضل الأممي وصاحب الضمير الإنساني لم يرحل جسدًا فحسب، بل تحول إلى شعار حي ومُلهِم لمواصلة الطريق.

جنازة مهيبة.. كانت درساً بليغاً، واستفتاءً وطنياً ضد التطبيع. عزاءٌ أدخل الرعب في أوصال الأعداء، أولئك الذين يصبون حقدهم حتى على الأموات.

***

لن ننسى أن أسيدون أقسم للياسمين والأزهار والأشجار برعاية أغصانها حتى تنبت فواكه الديموقراطية والأمان.

 كان فكره هو الجزء الخالد الذي لم يمت، فالنضال ضد الفساد والاستبداد لا ينفصل عن الدفاع عن القضية الفلسطينية.

هو القائل: “أنا لست يهوديًا، أنا مغربي من أصول يهودية، ووقوفي ضد الصهيونية نابع عن إحساس داخلي عميق وعن رفض لاقتلاع اليهود المغاربة من وطنهم”.

آمن بأن فلسطين هي “اختبار لأخلاق العالم”.

إقرأ على موقع 180  "طوفان الأقصی".. يُدمّر الأساطير الإسرائيلية!

وتبقى الحقيقة مُعَلَّقَة، والحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، هو ما يطالب به المناضلون الآن. فـرجلاً بحجم ووهج أسيدون لا يتعثر أو يسقط من سلم. هو الذي نشأ على الصعود والسمو والتقدم والمواجهة.

لهذا، نعلم يقينًا أن أسيدون سيغادر قبره ليلاً في غفلة من الحرس، ليتفقد المسيرات وينظم التظاهرات ضد الكيان الصهيوني.

 أسيدون هو الآن موكب من الأشجار تمشي والكوفيات تعلوها والراية الفلسطينية تكللها بالمجد الذي لا يضيع.

***

التعمق في فكر سيون أسيدون وكتاباته النضالية ومقالاته هو أفضل تكريم لذكراه، فهو يتيح لنا التعرف على عمق رؤيته وصرامة مبادئه، بدلاً من الاكتفاء برثاء جسده. فالفكر هو الجزء الخالد الذي لم يمت.

لقد كانت كتاباته ومواقفه حجر زاوية في الحركة المناهضة للتطبيع والصهيونية في المغرب. موقفه من الصهيونية وإسرائيل، وكيف كان يميز بين الديانة اليهودية والحركة الصهيونية. وموقفه من التطبيع المغربي الإسرائيلي، والانتقادات السديدة مع التحذيرات التي وجهها لمآلات التطبيع ومخاطره، ورؤيته للتحرر والديموقراطية في المغرب، باعتباره يسارياً مناهضاً للاستبداد أدى الثمن باهظاً من عمره بقضائه 12 عاماً في معتقلات وسجون سنوات الرصاص الرهيبة.

***

وتبقى المطالبة بحقيقة تغييب أسيدون. الحقيقة التي لا تحتمل مرادفات وتفسيرات تؤول مضمونها الصارخ. ومهما قالوا، فإن رجلًا بحجم ووهج أسيدون. سيظل صوتاً حراً حمل قضية فلسطين في قلبه حتى آخر لحظة.

***

وداع أسيدون لم يكن قَفْلاً على باب، بل انفجارٌ للذاكرة.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أين تنفجر قنبلة الموقوفين الأجانب في تنظيم "داعش"؟