

كانت حصتي من فيلم “اللد” الذي أخرجه رامي يونس (من اللد) وسارة إيما فريدلاند (أميركية يهودية) ندوة عنه عقدتُها، بعد أن أضيأت الأنوار، بعناية الصديق هيثم شمص، مدير المهرجان، حيث تركزت المناقشة على فكرة الهوية الفلسطينية وتغييبها في أراضي 1948. وسأعطف ذلك النقاش على كتاب لغيداء ريناوي الزعبي كنتُ أنهيتُ قراءته قبيل عرض الفيلم عنوانه “عربية في أروقة البرلمان: قصتي والسياسة في إسرائيل” (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2025، 135 صفحة).
تتساءل غيداء أحمد ريناوي الزعبي: “كيف يمكن للمرء أن يكون فلسطينيًا وإسرائيليًا في ذات الوقت” (ص 12)، وتقول: “إننا لا نحبها [أي إسرائيل]، ولا نحب كوننا مواطني دولة إسرائيل. ولكننا لا نستطيع تصوّر مستقبل أي منا خارج بلادنا، وخارج قرانا ومدننا، وخارج هذه الأرض التي رغم كل ما تسببه لنا من آلام ومن حيرة ومن تعب، إلا أنها تمثل كل شيء في حياتنا” (ص 26). وتضيف: “كلما رأينا علم إسرائيل في مباريات الأولمبياد نشعر بالألم في المعدة، ونتمنى لممثليها الخسارة” (ص 27). ثم تستطرد: “حين بدأت صواريخ سكود العراقية باستهداف الأراضي الإسرائيلية (…) كان هناك مشهد (…) يكشف تعقيد العواطف والانتماءات؛ فبعض الفلسطينيين اختاروا الصعود إلى أسطح منازلهم والتهليل عند سقوط الصواريخ” (ص 38). وهذا هو التناقض في قلب الهوية. فالمواطنة هنا هي المواطنة الإسرائيلية المتناقضة جوهريًا مع الهوية العربية التي يحملها هؤلاء الفلسطينيون. لكن العواطف والانتماءات معادية تمامًا لما تفترضه المواطنة الإسرائيلية.
أول إمرأة عربية في الكنيست
وُلدت غيداء الزعبي في 28 أيلول/سبتمبر 1972 لأب يدعى أحمد الريناوي. وكان جدها توفيق (أبو الأمين) شاعرًا شعبيًا لجأ مع عائلته في سنة 1948 إلى عين الحلوة بالقرب من صيدا، وأقام في تلك المنطقة قرابة السنتين ذاق فيهما مرارة اللجوء، حتى أن ابنه أحمد (والد غيداء) عمل في بيع حلويات السمسمية على نواصي الشوارع، ولم يكن قد تجاوز العاشرة (ص 15). لكن جدّها قرّر في سنة 1950 التسلل عبر الحدود ليعود إلى قريته الأصلية الرينة (ص 16)، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر الجمّة. ومع ذلك، فقد نجحت العائلة في العودة. وفي ما بعد، حين صارت غيداء ناشطة معروفة، انتمت إلى حزب ميريتس، وهو حزب يساري يهودي يؤيد المساواة بين العرب واليهود في إسرائيل والتعايش بينهما، ويدافع بقوة عن حقوق الانسان.
كانت غيداء الزعبي أول امرأة عربية تفوز في انتخابات الكنيست عن قائمة ميريتس في آذار/مارس 2021. وجاء انضمامها إلى حزب ميريتس، بحسب قولها، ليخدم فكرة تمثيل المجتمع العربي في الحزب وليس تمثيل الحزب في المجتمع العربي (انظر حوارها مع موقع “الصنارة نت”، 6 تشرين الأول/أكتوبر 2022). واللافت للانتباه اختيارها حزب ميريتس بالتحديد (أو اختيار حزب ميريتس لها)، فيما لم تنضم إلى القوى السياسية العربية المعروفة مثل التجمع الوطني الديمقراطي أو الحزب الشيوعي (راكاح) أو حركة أبناء البلد أو حتى الحركة العربية للتغيير. ولا غرابة في ذلك بالطبع لأن حزب ميريتس يضم بعض الفلسطينيين.
سيرة غيداء ريناوي الزعبي في هذا الكتاب تلخّص تماماً قصة إمرأة عربية في خضم النضال السياسي في إسرائيل؛ وهي قصة فيها كثير من المتاعب والتلاعب والتكاذب. وكان ذلك كله يشق على امرأة عربية امتلكت الدافع الصادق والتطلع المشروع إلى خدمة شعبها، لكنها لم تمتلك الأداة السياسية الملائمة لأنها، بكل بساطة، تنتمي إلى مجتمع عربي واقع تحت الاحتلال
ثقة بين مَنْ ومَنْ؟
عاش الفلسطينيون العرب تحت سطوة قانون الخوف منذ أن انفصلوا عن شعبهم غداة النكبة في سنة 1948. وهؤلاء الذين ظلّوا في ديارهم لأسباب شتى بلغوا اليوم مليونًا وستمئة ألف نسمة بعد أن كانوا في سنة 1948 نحو 120 ألفًا تزايدوا في سنة 1949 إلى 160 ألفًا جراء التسلل عبر الحدود (سوريا والأردن ولبنان). وهؤلاء جميعًا صمتوا في المراحل الأولى من عمر دولة الاحتلال الإسرائيلية خوفًا من طردهم إلى الدول العربية المجاورة، وسلكوا المسلك الحسن، ولا سيما في أثناء الحكم العسكري الذي انتهى العمل به في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1966 (يرد في الكتاب أن الحكم العسكري انتهى في 1967). لكن اللحظة التاريخية التي أيقظت الهوية الفلسطينية لعرب 1948 كانت يوم الأرض في 30 آذار/مارس 1976، فصار ما قبل هذا اليوم شيئًا وما بعده شيئًا آخر. غير أن غيداء الزعبي رأت في اتفاق أوسلو (1993) شعاعًا من الأمل سيؤدي إلى حياة كريمة وإلى سلام حقيقي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لأن “وجودنا كمواطنين في داخل إسرائيل يتيح لنا أن نكون جسر سلام. ولأننا جزء من الشعب الفلسطيني، ونحمل الجنسية الإسرائيلية في الوقت نفسه، فإن هذه الثنائية تساعد في بناء مستقبل مختلف، أو خلق واقع يسمح بالتعايش مع حفظ حقوقنا وهويتنا” (ص 18 و19). غير أن استشهاد 13 شاباً من عرب 1948 في تظاهرة لتأييد الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سنة 2000 شكّل صدمة دفعت العرب في الداخل إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالدولة الإسرائيلية (ص 19)، ثم “انهارت الثقة بين المجتمع العربي والشرطة وباقي المؤسسات. ولم تُظهر إسرائيل أي بادرة اعتذار أو ندم” (ص 22).
غيداء الزعبي هي نفسها مثال للتناقض في قلب الهوية العربية للفلسطينيين في داخل الخط الأخضر؛ فهي انضمت إلى حزب يساري يهودي لا إلى حزب عربي قومي على ما يعتور أحزاب العرب من بلايا ومصائب. سكنت غيداء في نوف هاجليل (الناصرة العليا سابقًا)، وليس في هذا الأمر أي ضير مبدئيًا، لكنها ظلت تعتقد أن ثمة “ثقة بين المجتمع العربي والشرطة الإسرائيلية” حتى حصلت هبة الكرامة في أيار/مايو 2021، فانهارت تلك الثقة. أَليس في هذا الوصف نوع من السذاجة السياسية؟ ومتى كانت هناك ثقة بين الطرفين؟ ومهما يكن الأمر، فإن غيداء الزعبي تعيد أحد أسباب السكون التي شهدها الداخل الفلسطيني، وضعف الاحتجاج على الحرب في غزة ولبنان (منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن)، إلى عمليات القمع التي وقعت في أيار/مايو 2021 (ص 47)، وإلى حوادث القتل والاعتقالات التي أشاعت حالة من الخوف في داخل المجتمع العربي (ص 23)، وهو ما يخالف الكلام على الثقة بين الشرطة الإسرائيلية والعرب الفلسطينيين في أراضي 1948.
استقالة.. وتردد وارتباك
من علائم الارتباك والاضطراب السياسي التي وقعت فيها غيداء الزعبي هو تصويتها إلى جانب قانون الجنسية التمييزي الذي اقترحته إيليت شاكيد. وهي امتلكت الشجاعة الأدبية لتعترف بأنها ارتكبت خطأ لن تغفره لنفسها (ص 101). ولا ريب لديّ في أن انضمامها إلى حزب ميريتس، وعلى الرغم من يساريته ومبادئه في شأن حقوق الانسان، إلا أن وجودها كعربية في حزب يهودي مدعاة للاستغراب لدينا نحن العرب في الخارج. ووجود وزير عربي من حزب ميريتس هو عيساوي فريج (من كفرقاسم التي اشتهرت بالمجزرة التي ارتكبها الإسرائيليون فيها في سنة 1956 لا في سنة 1959 كما يرد في الكتاب) في حكومة تضم يائير لابيد ونفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان وإيليت شاكيد وبيني غانتس وجدعون ساعر لا يجعل تلك الحكومة لطيفة مع العرب، فهؤلاء الوزراء معادون للفلسطينيين في الداخل، ومدافعون عن الاستيطان، وضد حق تقرير المصير للفلسطينيين، وضد تفكيك المستوطنات والانسحاب من القدس الشرقية وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. ولا أدري كيف يمكن أن يتعايش هؤلاء الصهيونيون حتى مع حزب ميريتس في حكومة واحدة، إلا إذا كانت الغاية هي قطع الطريق على بنيامين نتنياهو ومنعه من العودة إلى رئاسة الحكومة. لكن نتنياهو عاد بالفعل حاصدًا التأييد الضمني من منصور عباس (حزب راعم) الذي لم يكن غير عكاز استند إليه يائير لابيد لتأليف حكومة هشة ضمت ميريتس وراعم معًا.
قدّمت غيداء الزعبي استقالتها من الكنيست في 17 أيار/مايو 2022 غداة اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، لكنها لم تلبث أن عادت عن الاستقالة بعد اجتماعها إلى يائير لابيد في 22 أيار/مايو 2022، الأمر الذي يعكس مدى التردد والارتباك على غرار تصويتها على قانون الجنسية. ولم ينقذها من هذه الحال إلا قرار رئيس الحكومة نفتالي بينيت حلّ الحكومة والدعوة إلى انتخابات جديدة، ما أتاح لبنيامين نتنياهو العودة إلى رئاسة الحكومة كي يوقع بنا المصائب التي علمتم وذقتم.
في أي حال، ومهما تكن أحوال الفلسطينيين في مناطق 1948 مغمورة بالريبة والتهميش والعنصرية، علاوة على الجرائم المنحطة التي يرعى الشاباك معظمها، فإن سيرة غيداء الزعبي في هذا الكتاب تلخّص تماماً قصة إمرأة عربية في خضم النضال السياسي في إسرائيل؛ وهي قصة فيها كثير من المتاعب والتلاعب والتكاذب. وكان ذلك كله يشق على امرأة عربية امتلكت الدافع الصادق والتطلع المشروع إلى خدمة شعبها، لكنها لم تمتلك الأداة السياسية الملائمة لأنها، بكل بساطة، تنتمي إلى مجتمع عربي واقع تحت الاحتلال الذي يفتك بسكانه في كل يوم، ويعيث فيه إفسادًا ويبتدع الجرائم والصراعات العائلية والطائفية وغير ذلك.