دخلنا بالأمس الشهر الرابع لحرب إسناد غزة “بالنقاط” من الجبهة اللبنانية، وبين نقطة وثانية، يواصل حزب الله مراكمة النقاط، غير أن العدو يستفيد حتى الآن من تفوقه الجوي والاستخباري الميداني ليسجل على المقاومة اللبنانية نقاطاً ثمينة عبر عمليات قنص واغتيال لكوادره، مستفيداً من خلل أمني ما قد يرتكبه هذا المقاوم أو ذاك، ومن قدرته على الرصد الجوي عبر مُسيّرات لا تغيب عن سماء لبنان من حدوده الجنوبية امتداداً لشماله وشرقه مروراً بالعاصمة بيروت، ومن شبكات جواسيسه على الأرض، بالإضافة إلى قدراته التكنولوجية العالية (ولا سيما الذكاء الإصطناعي) وأقماره الصناعية كما الأقمار الصناعية لحلفائه الغربيين وأولهم أمريكا وبريطانيا.
ويحاول العدو أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: أولاً؛ تصفية القادة الميدانيين للمقاومة. ثانياً؛ كسر قواعد الاشتباك جزئياً عبر “الضرب تحت الزنار” في مناطق بعيدة عن الحدود. ثالثاً؛ محاولة إخراج المقاومة عن طورها ودفعها إلى سلوك عسكري انفعالي يؤدي إلى توسيع دائرة الحرب الدائرة منذ ثلاثة اشهر لتصبح حرباً شاملة، وهذا الأمر هو الأكثر أهمية بالنسبة للعدو لأنه يُحقّق من خلاله هدفاً استراتيجياً كبيراً سعى اليه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو منذ العام 2009 وهو توريط حليفه الأمريكي في حرب إقليمية يختلط فيها الحابل بالنابل وتكون إيران هي الهدف الرئيس فيها.
“حرب النقاط”.. بالنقاط
ولو أردنا استعراض النقاط التي حقّقها كل طرف من طرفي الصراع حتى الآن، فان العدو تمكن من إغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري ورفاقه في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله، واغتيال القائد العسكري في حزب الله وسام الطويل بتفجير سيارته (أو ضربها بمُسيّرة) في بلدته خربة سلم على بعد أكثر من عشرة كيلومترات من الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة، واغتيال ثلاثة عناصر لحزب الله اليوم (الثلاثاء) بغارة جوية على سيارتهم في بلدة الغندورية المشرفة على وادي الحجير، فضلاً عن تكرار ظاهرة إستهداف القرى أثناء تشييع مقاومين، كما حصل سابقاً في بلدة عيتا الشعب وكما حصل اليوم (الثلاثاء) في خربة سلم.
ولا تشمل هذه الجردة عملية اغتيال القيادي في الحرس الثوري الايراني رضي الموسوي في دمشق ولا القيادي في الحشد الشعبي العراقي مشتاق طالب السعيدي (أبو تقوى) بغارة أمريكية في بغداد ولا التفجيرات التي نفذت قرب ضريح الجنرال قاسم سليماني في بلدته كرمان في ايران (بعنوان “داعش”) ولا الهجمات التي تشنها الطائرات الأمريكية على زوارق بحرية للحوثيين عند مضيق باب المندب، فهذه النقاط وإن كانت تسجل في مرمى “محور المقاومة”، فإنها بعيدة عن المدى الذي يعمل حزب الله فيه ولا تدخل ضمن قواعد الاشتباك بينه وبين “إسرائيل”.
في المقابل، سجّل حزب الله نقاطاً هامة في مرمى العدو بقصفه العنيف، بعشرات الصواريخ دفعة واحدة، قاعدة الاستخبارات الجوية في جبل ميرون في فلسطين المحتلة ومن ثم قصف مقر القيادة العسكرية الشمالية للعدو في مدينة صفد اليوم (الثلاثاء) بهجوم مزدوج بالصواريخ والمُسيّرات، وفي الحالتين، فان نقاط الحزب تعتبر من الناحية العسكرية تجاوزاً لقواعد الاشتباك من جهة وذات بعد استراتيجي من جهة أخرى، من دون الإقدام على أي عمل يؤدي إلى الإنجرار إلى حرب شاملة يبتغيها العدو، وعندها سيكون رد المقاومة على هكذا حرب “بلا سقوف ولا حدود ولا ضوابط”، كما قال الأمين العام للحزب في خطاب يوم الجمعة الماضي.
الصبر الإستراتيجي
إن خطورة وأهمية “حرب النقاط” في آن معاً أنها أشبه ما تكون باللعب على حافة الهاوية من طرفي اللعبة ـ المواجهة، وهي عملية عض أصابع متبادلة، فمن يصرخ أولاً ربطاً بعميلة موجعة يصعب هضمها، يُمكن أن يتصرف وفق قواعد مختلفة ليس مستبعداً أن تُطلق العنان لحرب سينخرط فيها حتماً لاعبون آخرون إقليمياً ودولياً.
ولأن العدو هو الذي يبتغي السيناريو الأخير، فان حزب الله ومن خلفه باقي حلفائه ولا سيما إيران لا يمتلكون سوى أمرين، الأول؛ سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي دعا اليها المرشد الإيراني السيد علي الخامنئي. الثاني؛ ضرب أهداف عسكرية (وربما أمنية) ذات طابع استراتيجي للعدو.
وفي خضم “حرب النقاط” المحتدمة، تشهد المنطقة حركة ديبلوماسية مكثفة لتبريد الجبهات، يتصدرها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وعلى “أجندته” في تل أبيب اليوم (الثلاثاء) ـ وقبلها في تركيا والسعودية ـ وضع ضوابط تحول دون اندفاع المنطقة نحو الحرب الشاملة، لاعتبارات عدة، أولها أنها دخلت مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي من شأن الحرب أن تترك تأثيراً كبيراً على اقتراع الناخبين فيها لهذا المرشح أو ذاك، في ظل ارتفاع منسوب التأييد للفلسطينيين في الشارع الأمريكي وبالاخص في أوساط الشباب الأمريكي؛ ثانيها أن واشنطن تعرف جيداً مدى الاستنزاف الذي يتعرض له الجيش “الإسرائيلي” في حربه على غزة ولبنان، وهو اليوم بعد انتهاء ثلاثة أشهر من هذه الحرب بات أضعف وأقل قدرة وأقل تجهيزاً بالسلاح والذخائر برغم الجسور الجوية والبحرية العسكرية التي تمده بها واشنطن وبعض الحلفاء الغربيين، وبالتالي فان اندفاع العدو الى هذه الحرب غير محسوم النتائج لمصلحته؛ وثالثها وهو الأخطر والأهم للإدارة الأمريكية، هو احتمال تضرر مصالحها في كل منطقة الشرق الأوسط نتيجة حرب إقليمية شاملة. كما أن واشنطن تدرك الأكلاف الإقتصادية الباهظة التي تدفعها “إسرائيل، ذلك أن كلفة الحرب في غزة وحدها تبلغ قرابة 270 مليون دولار يومياً، بحسب وكالة “بلومبرغ” (حوالي 60 مليار دولار منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن حسب “يديعوت أحرونوت”)، فكيف سيكون الأمر إذا أصبح الكيان بشماله ووسطه وجنوبه تحت مرمى الصواريخ وكم ستبلغ كلفة الحرب في هذه الحالة؟
واذا كانت جولة أنتوني بلينكن هي الأساس في الحركة الدبلوماسية التي تشهدها المنطقة، فان زيارة مفوض السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل تعتبر مُكملة أو مُمهدة وربما تُشكّل القناة الخلفية التي تتواصل فيها الولايات المتحدة مع قيادة حزب الله، إذ أن أبرز لقاء عقده بوريل خلال زيارته للبنان كان مع رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد الذي كرّر أمام ضيفه موقف حزب الله المعلن على لسان أمينه العام بأن لا حديث عن أية تفاصيل تؤدي إلى إخماد النار في جبهة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة إلا بعد وقف العدوان على غزة “ونقطة عالسطر”. وهذا ما أرخى ظلال من الشك على الزيارة التي كان ينوي القيام بها المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين إلى لبنان، على أن تسبقها أجوبة متبادلة، يتقرر في ضوئها الموعد النهائي للزيارة..
خلاصة القول، إن “الحرب بالنقاط” مستمرة على جانبي الحدود الجنوبية اللبنانية، ولكن خلال عمليات تسجيل النقاط من غير المعروف متى يقوم احد الطرفين بتسجيل هدف مباشر عبر عملية تسلل، قد لا يحتسب فيها الهدف لمصلحة منفذه لكنه بالتاكيد سيؤدي إلى تدحرج الأمور إلى حرب شاملة، أخذاً في الإعتبار أن قاموس فهم العقل الصهيوني قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بات يحتاج إلى تعديل بعض المفاهيم لأجل التحسب لما يُمكن أن يُقدم عليه جيش الإحتلال وأجهزة الأمن “الإسرائيلية” من خطوات لم تكن موضوعة في الحسبان قبل “طوفان الأقصى”.