حَصَل ذلك عندما طلبتْ منّي صديقة في بيروت أن أًتشاركَ وأشخاصاً آخرين في تأليف كتاب جماعي يعود ريعُه لدعم أهل غزة. فكّرتُ مِراراً في جدوى الكتابة عن أربعة مدنيين فلسطينيين عُزَّل قصفتهم المُسيَّرات الإسرائيلية قرب خان يونس في مشهد جسَّد ذروة الإلتقاء بين التكنولوجيا العسكرية الحديثة وبين العقل الإسرائيلي الإجرامي. فكّرتُ بالكتابة عن تلك الفتاة التي قالت: “هيدي إمّي بعرفها من شَعرها”. عن الرجل الذي قال عن طفلته القتيلة: “هيّ مش ميتة، مَيْس ملكة، شايفين ما أحلاها؟”. عن المرأة التي راحت لتجلُبَ الطحين وعادت لِتَجد عائلتها تحت أنقاض بيتها: “كُلّهم جوّا”. وعن الذي ذهب ليأتي بالطحين لعائلته وعاد مضرّجاً بالدم والطحين معاً. تذكّرتُ حينها كلمات محمود درويش المُغنَّاة في “أحمد الزعتر”: “إذهب عميقاً (بعيداً) في دمي، إذهب عميقاً في الطحين”. لكني انتبهت فوراً أنه لا داعي لاستحضار شيء ممَّا كُتب سابقاً. كلُّ الأشعار والقصائد والأغاني التي تُحاكي حالات مشابهة في حروب ماضية أو حالات أخرى أرى أنها لم تعد صالحة بعد نكبة غزة الحالية.
***
ارتكب الاحتلال كل أنواع الفظاعات ليمحو صورة “7 أكتوبر” مرّة واحدة وإلى الأبد، وهو لذلك يريد هزيمة الغزَّاويين والفلسطينيين في وعيهم وأن يكسر إرادتهم في المقاومة مستقبلاً. هذا هو معنى الاستمرار و”التفنُّن” في أشكال القتل والتدمير والتخريب منذ قرابة سبعة أشهر، وهذا هو أيضاً معنى استمرار المقاومة على الجهة الأخرى
نعم، فكّرتُ في معنى أن أكتب نصّاً عن غزّة، بينما يكتبُ أطفالها ونساؤها ورجالها، من تحت ركام منازلهم، كلمات تُغنِي عن أيّ نوع من الكتابة. لا بدّ أن أدباً جديداً سيولد أيضاً. أدبٌ يناسب هذا الدم وهذه الأكفان التي احتضنت عائلات كاملة وحَيَوَات ماضية. فكَّرتُ بالذين ماتوا بعد أن وَقَعَت المساعدات على رؤوسهم وبالذين ماتوا غرقاً بينما كانوا يطاردون المساعدات التي سقطت في البحر. في ذلك الطفل الذي كان ينظر إلى وجه صديقه أو أخيه، لا أذكرُ بالضبط، كان يقول: “محمد فايق، محمد عايش”. وبصورة المرأة الغزّاوية التي كانت تحتضن بكل جسدها جثّة ابنة أخيها ذات الـ5 أعوام. لن يهمَّ المرأة بعد ذلك أن الصورة التي التقطها مُصوّر وكالة “رويترز” نالت جائزة أفضل صورة صحفية للعام 2024. ما معنى أن تُمنَحَ أصلاً جائزة لصورة وسط حرب إبادة؟ ألا يستحقّ القاتل أيضاً جائزة صورة أفضل قاتل بجدارة؟
نعم، تردّدتُ في الكتابة كي لا أقَعَ في شُبهة المُزايدة في مديح الجُرح الفلسطيني أو في إعطاء صمود الغزّاويين – وهو حقيقيٌّ – صِفَة الأسطوريّ” وهو ما لا يحبّه كثيرون هناك. لكنَّ الطيران الحربي الإسرائيلي الذي خرق “جدار الصوت” بقوّة في تلك الليلة نبَّهني إلى أنّني أكتبُ من قلب جغرافيا الحدث التي كان جنوب لبنان جزءاً منها منذ اليوم التالي لـ”الطوفان”. وانتبهتُ إلى أنَّ الطائرات المسيَّرة لم تغادر سماء الجنوب منذ ذلك الحين. نظرتُ الى صورة الشهيد أحمد سليم المُعلّقة على الجدار قبالتي في ساحة البيت، أحمد الذي استُشْهِد في الشهر الثاني للحرب في طير حرفا الجنوبية واستحضرتُ صور مواكب تشييع رفاقه المقاومين اليومية في قرى الجنوب. فكّرتُ بشهداء مجزرة الهبَّارية في ليلة رمضانية وبشهداء الدفاع المدني والإسعاف الصحي وبصورة الطفلة الشهيدة أمل الدّر، وبذلك الرجل النازح من بلدة عيترون الحدودية، سمعتُه يقول: “طوَّلت القصّة”. نبَّهَني كل ذلك إلى أنَّ حرباً حقيقية تجري أحداثها في الجنوب اللبناني برغم أنها، إلى لحظة كتابة هذه السطور، ما تزال “جبهة إسناد” لغزة، على ما تقول بيانات المقاومة اللبنانية اليومية. رأيتُ أنّنا نتشاركُ مع غزة الدَّمَ والدمار وكذلك المقاومة في مشهد متزامن يحدث على الأرجح للمرة الأولى في تاريخ الصراع.
***
قلتُ مُبرّراً لنفسي الكتابة. قلتُ أُحاوِل. فتحتُ الشاشة. شاهدتُ ولداً يبكي بحرارة أمام “شاهد قبر” أُمّه المحفور على عَجَل في وسط طريق عام في أحد أحياء غزة المنكوبة. كان اسمه طريقاً لكنه صار الآن مقبرة. لماذا يتعيّن على الأولاد أن يفقدوا أمّهاتهم؟ سألتُ السؤالَ الذي طرحه غسان كنفاني في رواية “أم سعد” لكن معكوساً: “لماذا، يا إلهي، يتعيّن على الأمهات أن يفقدْنَ أبناءهن”؟ وَحضَرَتني على الفور صورة تلك الأم التي فقدت طفلَيْها الصغيرَين التَوْأم: “راحت الحياة من بعدهم”، قالت بمرارة وهي تحدثّهما كأنَّهما نائمان لا ميتان. استرجعتُ مشاهد الجثث والأكفان البيضاء في كل مكان من غزة. أسمَعُ الأرقام كل يوم وكل ساعة: أربعة، عشرة، خمس عشرة. هي أرقام المجازر اليومية لا أعداد الشهداء الذين ما زال عدد كبير منهم بلا شواهد قبور بالمرَّة، إذا بقيت هناك من معالم مقابر!
***
أكتبُ هذه السُّطور الآن ومجلس الحرب الإسرائيلي يحسم قرار اجتياح رفح، ويواصل الاحتلال ارتكاب الإبادة من دون أن ينجح في تحقيق أهداف الحرب. لكن ذلك لا يُقدّم تفسيراً كافياً لمعنى الاستمرار في نهج الإبادة الذي عرَّض “إسرائيل” لمساءلة دولية غير مسبوقة. في خلفية المشهد أن “إسرائيل” لم تخرج بعدُ من دائرة الانتقام لنكسة السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر التي هزّت الوعْيَ الجمعي الإسرائيلي. ارتكب الاحتلال كل أنواع الفظاعات ليمحو صورة “7 أكتوبر” مرّة واحدة وإلى الأبد، وهو لذلك يريد هزيمة الغزَّاويين والفلسطينيين في وعيهم وأن يكسر إرادتهم في المقاومة مستقبلاً. هذا هو معنى الاستمرار و”التفنُّن” في أشكال القتل والتدمير والتخريب منذ قرابة سبعة أشهر، وهذا هو أيضاً معنى استمرار المقاومة على الجهة الأخرى. مقاومة في مواجهة الإبادة ومقاومة لأجل الخلاص والحرية. وهذا هو معنى أن تواجه ترسانة السلاح الإسرائيلية بقذيفة “ياسين” في “التفاح” و”الزيتون” و”الشجاعية” و”النصيرات”، أو تكون مشتبِكاً في “الضفة”، في جنين و”نور شمس”.
***
في رواية “حكاية سرّ الزيت” للأسير الفلسطيني الشهيد وليد دقّة التي أُعيد طباعتها مؤخراً في بيروت يقول الآتي:
“وباء العصر هو فقدان الحرية. ولفقدان الحرية ظاهر وباطن. السجون والحواجز والجدار والأسلاك الشائكة عند الحدود على أنواعها هي ظاهر فقدان الحرية، أما باطن الوباء فهو فقدان العقل والأخلاق أو ما يسمونه بعمومية الجهل، وهو أخطر السجون وأشدها قسوة”.
يدعو الكاتب، من خلال رؤية أشمل لفكرة المقاومة، لاكتساب سلاح المعرفة بالتوازي مع معركة الحريّة لتحرير ما يراه أنه أقدم أسير عربي وهو المستقبل. وأهلُ غزّة بالمناسبة هم ناسٌ مُحبُّون للعِلم. كنتُ أرى وأسمع في قلب مشهد الدمار أطفالاً فلسطينيين يتحدّثون عن اشتياقهم للمدرسة وآخرون كانوا يفتّشون عن كتبهم وسط الركام. دمَّرتْ “إسرائيل” المدارس والجامعات وأحرقت المكتبات وهي في ذلك تشنُّ حرباً على المستقبل أيضاً. وغزّةُ تقاتل لأجل المستقبل برغم أنّ الحاضر مثقلٌ بويلات الحرب.
***
غزة استحقّت الآن تلك العبارة التي تُقَال عادة في مناسبات العزاء، “خاتمة الأحزان”، ونحن نعرفُ في الواقع أن لا خاتمة للحزن. لكنَّ غزة تكاد تكون ختمت الأحزان حرفياً خلال سبعة شهور من الأهوال والمصائب. تستحقُّ غزّة ثواباً حَسَناً لكلّ هذا الدم المراق من بيت لاهيا إلى دير البلح، وتستحقُّ ولادة جديدة كما يراها الفلسطينيون لا كما يتخيّلها نتنياهو.
***
طيلة الشهور الماضية كان الزميل حلمي موسى يُقدّم في مقالاته اليومية، إضافة للإحاطة السياسية المكثفة بالوضع الإسرائيلي الداخلي، درساً صباحياً في الثبات والأمل: “ثقتنا بِغَدنا لا حدود لها وهو قادم حقاً ونحن نستحقّه وندفع كلّ يوم ثمنه”، يقول الرجل من قلب رفح التي نزح إليها بعد نزوحٍ أول من غزة إلى خان يونس. ها أنا أراني أرجعُ مرَّة أخرى لكلمات أهل غزّة وأسألُ نفسي: من أين يأتي هؤلاء بهذه الروح المُقاتِلَة؟ أكتبُ الآن هذه الكلمات فيما تُسقِط المقاومة اللبنانية طائرة استطلاعية مسلّحة من طراز “هيرمز 450” في سماء الجنوب. كلماتٌ بمثابة اعتذار عن نصٍّ لم يُكتَب. بحثاً عن المعنى المكتوب في أقوال أهل غزة!