

المعطيات والمستجدّات، بأنواعها وبمضامينها المقصودة، متعدّدة وكثيرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، سأركّز معك شخصيّاً، عزيزي القارئ، على الجوانب والظّواهر التّالية التي أثّرت كثيراً على عقلي وذهني من جهة، وعلى وجداني وعواطفي من جهة أخرى. هي أمثلة نموذجيّة لا أقصد من خلال عرضها رسم المشهد الكلّيّ طبعاً، ولا يهمّني من خلال ذلك إلّا المضمون الموضوعيّ المتعلّق بالسّياق التّحليليّ العامّ:
- أواخر 2024، والحرب الاسرائيليّة على لبنان: بينما لم يلمّ بعض اللّبنانيّين جثث شهدائهم بعد، ولم يعرفوا جريحهم من قتيلهم ولا من أسيرهم، يخرج خطاب بعض اليمين المسيحيّ اللّبنانيّ ليشكّل صدمة عميقة لأغلبية اللبنانيين. كنموذج، خذْ قول إحدى النّائبات في البرلمان اللّبنانيّ، وعبر التّلفزيون مباشرة: إنّ ما يحدث عمليّاً، من قتل ومن مذابح ومن تهجير ومن تدمير.. إنّ ما يحدث مع جزء من الشّعب اللّبنانيّ إذن، هو تجلّ “للعدالة الالهيّة”، بحسب هذه الشّخصيّة طبعاً ومع التّبسيط. لنبق موضوعيّين وباردي الذّهن: هل تقول فئة عن فئة كلاماً بهذا الحجم.. ونقول إنّهما “شعب واحد”؟ مهما اعتبرنا أنّ القائل جاهل وحاقد هنا وهناك، فعلينا التوقّف بأمانة فكريّة وعلميّة أمام ظواهر كهذه، ليست بفرديّة أبداً كما نعلم جميعاً. الأمر أعمق ممّا نريد الاعتراف به عموماً وفي اعتقادي، وبعيداً عن تفاصيل مثال بعينه.
- أواخر 2024 أيضاً: ومشاهد السّقوط المفاجئ للنّظام السّوريّ السّابق، كنتيجة شبه مباشرة حينها للضّربات الاسرائيليّة الموجّهة ضدّ حركات المقاومة الأساسيّة في المنطقة، لا سيّما، في سوريا، المجموعات المتعلّقة بالحرس الثّوريّ الايرانيّ وبالمقاومة الاسلاميّة في لبنان وببعض الحركات المقاومة الفلسطينيّة. شاهدنا ولاحظنا هستيريا طائفيّة من كلّ الجهات واقعاً: في الظّاهر أقلّه، يتبيّن لك أنّه لا عدوّ مشتركاً لهؤلاء النّاس بكلّ أطيافهم على الأرجح.. أكبر من عدائهم لبعضهم البعض (في الغالب إذن). فهناك من رأى في ما حصل حدثاً يشبه سقوط بغداد بيد المغول، لا أقلّ من ذلك؛ وهناك من رأى فيه تحرّراً – لفئة مذهبيّة معيّنة غالباً – من “نظام ظالم” حُسب على فئة أو فئات أخرى (غالباً أيضاً).
في وقت ليس ببعيد أيضاً، أوائل عام 2025 هذه المرّة: مجازر السّاحل السّوريّ، والتي أصبحت الآن موثّقة من قبل كلّ الجهات الدّوليّة والمحلّيّة المعتمدة في ما فهمناه. فبينما شعر بعضنا بأنّها عودة لحملات الذّبح والتّطهير التّاريخيّة المعروفة لا سيّما في الحقبتين المملوكيّة والعثمانيّة.. انكبّ بعضنا الآخر على التّذكير بمُقابِلٍ “اجراميّ” لها. أي باختصار، لقد حاول هذا البعض الأخير أن يقول للبعض الآخر ما معناه: نعم، حصلت هذه المجازر الفظيعة، ولكنّكم لم تروا ما فُعل “بنا” سابقاً في الحادثة الفلانيّة والحادثة العلّانيّة.. إلى آخر القائمة من المجازر المتبادلة. قضيّة “المجازر المُبرِّرة لبعضها البعض” مهمّة جدّاً ضمن السّياق التّحليليّ العامّ، ولنبقها في ذهننا اليوم وغداً بطبيعة الحال.
- أيضاً في وقت أقرب واقعاً: أحداث السّويداء الأخيرة في سوريا. فبينما اعتبر البعض أنّنا مجدّداً أمام زحف “تطهيريّ” – متجدّد – لفئة أو لفئات معيّنة، مستذكراً النّضال المشترك لعدد من فئات ومجموعات ومذاهب هذه المنطقة منذ وفاة رسول الله ربّما.. اعتبر البعض الآخر، بشكل لا يقلّ هستيريّة، أنّنا أمام مجموعات أو فئات خارجة عن “وحدة سوريا” بل ومتواطئة ومتآمرة “على الوطن”. هذا كلّه مع العلم بأنّ حكومة دمشق الحاليّة نفسها تتواصل علناً مع السّلطات الصّهيونيّة في المنطقة وفي الغرب، ممّا يجعل التّساؤلات الأساسيّة التي طرحناها، هنا أيضاً، أكثر جدّيّة وعمقاً.
- أيضاً منذ مدّة قصيرة جدّاً: قرار الحكومة اللّبنانيّة الشّهير “بحصر السّلاح”، والذي تقرأه فئة لبنانية وازنة على أنّه يشبه اعلان حملة صليبيّة-مملوكيّة-اسرائيليّة مشتركة عليها. هل توصيفنا مبالغ فيه حقّاً، عزيزي القارئ، هنا أيضاً؟ لنكن موضوعيّين ومنصفين مع عقلنا العلميّ كما أشرت، وضمن السّياق التّحليليّ العامّ.
يُمكننا إضافة أمثلة كثيرة واقعاً، لا مجال لذكرها وتفصيلها كلّها هنا. مثلاً: المقاربات الفكريّة والعاطفيّة والتّاريخيّة المختلفة جذريّاً لسقوط نظام البعث العراقيّ عام 2003؛ المقاربات المختلفة لدور الرّئيس الشهيد رفيق الحريري في لبنان وفي سوريا؛ المقاربات المختلفة للدّور الاقليميّ الحقيقيّ لنظام البعث السّوريّ منذ عام 1970 إلى اليوم؛ كذلك بالنّسبة للحرب الأهليّة السّوريّة الأخيرة؛ وللنّزاعات الدّاخليّة المتجدّدة في العراق والمتفاعلة مع نزاعات الشّام؛ وللقضيّة الكرديّة؛ وللدّور التّركيّ القديم والجديد في المنطقة؛ وللطّبيعة الفكريّة والدّينيّة للنّظام السّوريّ الحاليّ؛ ولقضيّة دروز فلسطين المحتلّة؛ ولقضيّة علويّي سوريا وتركيا؛ ولقضيّة علاقة بعض الجماعات المسيحيّة مع بعض مؤسّسات الدّول الغربيّة.. إلى آخر القائمة.
باختصار، عزيزي القارئ، ومع التّبسيط: هل يُمكن تجاهل كلّ ما حدث ويحدث وكلّ ما يتجلّى ويتمظهر.. في ما يخصّ تفاعله “الأمبيريقيّ” (أي التّجريبيّ) إن شئت، مع فرضيّاتنا ذات الطّابع الهويّاتيّ والقوميّ؟ لنسأل أنفسنا بهدوء وبرويّة وبموضوعيّة: حقّاً، إلى أيّ حدّ.. يُمكن الإصرار على اعتبار صحّة مقولة إنّنا “شعبٌ واحد” في لبنان وفي سوريا وفي المنطقة؟
***
يُمكننا الادّعاء باختصار شديد إنّ هنالك بالتّأكيد بعض التّباين – المؤثّر بل الخطير أحياناً – بين الفرضيّات الأساسيّة، ببنيتها وبأشكالها الحاليّة أقلّه، وبين بعض الوقائع والمعطيات المهمّة والمتنوّعة والمتطوّرة مع الزّمن. علينا الاعتراف بذلك بأمانة فكريّة وعلميّة. من هنا، يصبح السّؤال التّالي هو الأساسيّ: ما هي الفرضيّات التّفسيريّة الأساسيّة – القابلة للدّحض طبعاً – لهذا التّباين الملاحظ أو المشاهد، والتي يُمكن مناقشتها في هذا المجال؟
- الفرضيّة الأساسيّة الأولى طبعاً: هي أنّنا، عموماً، أمام مفاهيم هويّاتيّة وقوميّة – “وحدويّة” إن شئت – خاطئة. وقد شرحنا في ما سبق العوامل الأساسيّة التي تجعلنا نستبعد هذه الفرضيّة، أقلّه بشكل غالب.
- أمّا الفرضيّة الأساسيّة الثّانية، والتي يتبنّاها أغلب “الوحدويّين” اللّبنانييّن والسّوريّين والعروبيّين وما إلى ذلك (إلى اليوم)، فهي الفرضيّة التي ما زلتُ أرجّحها وأعتمدها حتّى الآن شخصيّاً كذلك. مختصرها: أنّ الهويّات الطّائفيّة-المذهبيّة-الدّينيّة و/أو غير الوحدوديّة عموماً.. إنّما هي غالبة اليوم في كثير من جوانب الواقع، بسبب نقص في الوعي الفرديّ وخصوصاً في الوعي الجماعيّ لناسنا ولشعوبنا (في الغالب). بحسب هذه الفرضيّة إذن، ومع التّبسيط أيضاً: (١) هناك فرضيّات قوميّة و/أو وحدويّة هي الأقرب عموماً إلى الصحّة (الجغرافيّة والتّاريخيّة والاجتماعيّة خصوصاً)، والأقرب إلى تحقيق المصالح المشتركة لشعوب هذه المنطقة؛ (٢) وهناك فرضيّات طائفيّة وفئويّة وانعزاليّة (إلخ..) أقرب إلى كونها وهميّة، كما إلى كونها منافية أو مضادّة للمصالح الموضوعيّة المشتركة لهذه الشّعوب نفسها.
ولكن، أمام كلّ ما نلاحظه ونشاهده ونُجرّبه ونعيشه من حولنا.. هل يُمكن الاكتفاء بهذه الفرضيّة الأخيرة، أقلّه بتجلّيها الحالي الغالب؟
أضع هذا السّؤال بين أيدي تفكّرنا وتجريبنا جميعاً. فالتّحدّيات التي تواجهها فرضيّات كهذه.. تكبر يوماً بعد يوم، على الأقلّ في ظاهر الأمور كما رأينا (وربّما أبعد من ذلك). ومن العوامل الواجب أخذها بالحسبان في ورشة تفكيريّة كهذه:
- مسألة استخفافنا، تاريخيّاً وضمن أغلب جهودنا المفاهيميّة ربّما، بواقعيّة وبعمق وبخطورة.. العامل الدّينيّ في تكوين الهويّة الفرديّة والجماعيّة. أعتقد هنا أنّ المدرسة التّأويليّة-الفهميّة (Interprétative) في علم الاجتماع، يمكن لها أن تفيدنا كثيراً في ادراكنا لمدى أولويّة وخطورة “فهم” الانسان “لمعنى” حياته.. في تكوّن معتقداته ومفاهيمه وسلوكه، وفي كيفيّة تكوينه لهويّته الجماعيّة بطبيعة الحال (إلخ..).
- مسألة استخفافنا أيضاً بما يُمكن تسميته بالهويّات التّاريخيّة الواقعيّة، أي بالهويّات القائمة منذ قرن أو قرنين أو أكثر من ذلك بكثير ربّما (أي منذ مدّة مهمّة نسبيّاً بالمعنى التّاريخيّ، وشاملة – غالباً – لعدّة عصور تاريخيّة مهمّة و/أو مفصليّة)..
***
في المحصّلة، النّقاش قد يطول جدّاً. ولكن، من المهمّ بل من الملحّ طرحه أو لفت النّظر إليه في هذه المرحلة بالتّحديد وفي اعتقادي. فقد تكون فرضيّاتنا المهيمنة، خصوصاً منذ أوائل ومنذ منتصف القرن العشرين: إمّا خاطئة، أو بحاجة إلى التّكييف أو التّعديل أو التّطوير (إلخ..).
وفي هذا الإطار عينه، قد يكون من المهمّ أيضاً التّفكّر والنّقاش حول: ما إذا كان من الأصحّ الحديث.. عن “تكامل” ما بين مكوّناتنا وجماعاتنا الأساسيّة، أكثر من حديثنا عن “وحدة” بالمعنى المركزيّ المتطرّف (أو الفرنسيّ) للمفهوم إن شئت. قد يثير هذا الخطاب غضب البعض منّا، ولكنّ الهدف هو الوصول إلى مخارج وإلى حلول عمليّة وواقعيّة (وانقاذيّة)، لا مجرّد الدّفاع عن نظريّات أسلافنا ورموزنا القياديّة.
وكذلك، أعتقد أنّه من المفيد التّفكّر في عقلانيّة وواقعيّة اعتبار أنّنا عموماً – وربّما – أمام ثلاثة أنواع من الهويّات الجماعيّة الأساسيّة في هذه المنطقة، والتي لم تزل تتفاعل في ما بينها بشكل ديناميكيّ:
١/ الهويّة القائمة تاريخيّاً، أو “التّاريخيّة الواقعيّة” كما سمّيناها في ما سبق.
٢/ الهويّة التي يُمكن اعتبار أنّها “وجوديّة”، أي باختصار: هي الهويّة التي يركن إليها أغلب أفراد جماعة معيّنة.. عند تواجد خطر وجوديّ داهم (أو عند الشّعور بوجود خطر وجوديّ داهم). وهذه الهويّة الثّانية تلتقي في أغلب الأحيان مع الأولى، لا سيّما في منطقتنا ولأسباب تاريخيّة لا مجال لتفصيلها هنا (باختصار: من المهمّ التّمييز بينهما في اعتقادي لتظهير دور ذاكرة بعض الصّراعات والمذابح والابادات.. الديّنيّة والمذهبيّة الطّابع بشكل خاصّ. راجع أيضاً ما سبق من حديث عن خطورة العامل الدّينيّ بشكل عامّ، مع التّذكير بخصوصيّته في ما يعني تاريخ منطقتنا بالذّات كما أشرنا).
٣/ الهويّة التي يُمكن اعتبار أنّها الهويّة القوميّة و/أو الجامعة (أو الوحدويّة أو التّكامليّة)، والتي هي الأكثر اتّفاقاً مع أغلب العوامل الموضوعيّة المحيطة بنا كما رأينا، ومع مصالحنا المشتركة كشعوب. وهي كما ذكرنا أيضاً، الأكثر حاجةً إلى جهد عقلانيّ وتربويّ تراكميّ.. وربّما إلى جهد من الصّنف الرّوحيّ المتعالي الطّابع.
قد يكون علينا البحث سويّاً في مقاربة الموضوع من خلال دراسة التّفاعل ما بين هذه المفاهيم الثّلاثة عموماً. فلنحاول القيام بالتّفكّر وبالنّقاش وبالنّقد المتبادل إذن، لا سيّما أنّ لهذا الجهد تبعات سياسيّة ومؤسّساتيّة محتملة بل أكيدة، نرى تجلّي بعض جوانبها في واقعَينا اللّبنانيّ والسّوريّ بشكل خاصّ حاليّاً[1].
[1] هوامش مرجعيّة:
يمكن الادّعاء إلى حدّ بعيد إنّه بحسب برنارد لويس: الهويّات الطّائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة وربّما القبليّة هي الأكثر رسوخاً في المشرق العربيّ بشكل خاصّ، والقوميّات الكبرى أو مشاريع التّوحيد القوميّ – وما إلى ذلك – هي مجرّد أوهام أو مشاريع هشّة أو اسقاطات لمفاهيم غربيّة في الأغلب. أصرّ شخصيّاً على تمييز “الهويّة الوجوديّة” في ما طرحت في هذه الورقة، لأنّ تأثير الخطر الوجوديّ على الشّعور – أو التّفاعل – الهويّاتي يختلف عادةً بحسب اختلاف طبيعة التّهديد (داخليّ دينيّ، داخليّ مذهبيّ، داخليّ اثنيّ، خارجيّ استعماريّ غربيّ، خارجيّ اقليميّ – تركيّ أو فارسيّ أو إلى ما هنالك). وبالرّغم من محوريّته، فليس لويس المرجع الوحيد واقعاً في ما يخصّ هذه النّتائج والفرضيّات عموماً، بل توافقه مدارس بحثيّة معيّنة لا سيّما في الغرب، وفي ما يلي مقترحات لمراجع أساسيّة في هذا الاطار (قد يكون المفيد الأهمّ التّركيز على ثلاثيّة لويس-سعيد-حوراني، بالاضافة طبعاً إلى سعادة وأهمّ القوميّين-الوحدويّين):
مراجع برنارد لويس الأساسية:
Bernard Lewis, The Multiple Identities of the Middle East (Schocken/PRH, 1998/2001)
Bernard Lewis, The Political Language of Islam (University of Chicago Press, 1988)
Bernard Lewis, Faith and Power: Religion and Politics in the Middle East (Oxford University Press, 2010)
المؤيّدون الأقرب لطروحات برنارد لويس/ دراسات متقاربة:
Elie Kedourie, The Chatham House Version and Other Middle-Eastern Studies (orig. 1970; Brandeis/Chicago reprints)
Bassam Tibi, Arab Nationalism: A Critical Enquiry (Palgrave Macmillan, multiple eds.)
أبرز النّاقدين أطروحات بديلة داخل “دراسات الشّرق الأوسط” كما تسمّى بلغة المعاصرين:
Edward W. Said, Orientalism (Vintage/PRH, 1978/1979)
Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age, 1798–1939 (Cambridge University Press, rev. 1983).