عون وسلام.. مقاربات عادية في زمن استثنائي

التقيت بالصديق هادي، وهو من بلدة كفرتبنيت في جنوب لبنان، البعيدة نسبياً عن الحدود، وقد نالت حصتها من الدمار، وعاد إليها مع عائلته بعد التهجير القسري الذي فُرض عليهم خلال العدوان "الإسرائيلي" الأخير على لبنان. قال لي هادي إنه كان محظوظاً لأن منزله ما يزال موجوداً مع بعض الأضرار التي سارع إلى اصلاحها والتي اقتصرت على النوافذ والأبواب فقط.

بعد السلام والتحية، عاجلني هادي بالسؤال:” لماذا أوقفت المقاومة إطلاق النار؟ فالعدو أنجز بعد قرار وقف النار ما عجز عن إنجازه طوال الحرب والمواجهات العسكرية، وبأكلاف بسيطة. المنزل الذي كان يُكلّف العدو صاروخاً ثمنه آلاف الدولارات لتدميره اكتفى بارسال جرافة تلكعه ضربة بأسنانها فينهار بلا أي تكلفة. ناهيك عن تفجير وجرف آلاف المنازل والبساتين”!

هنا تدخل صديقنا إلياس، من بلدة القليعة، الجنوبية أيضاً، ليقول لي: “العدو الإسرائيلي اقتلع أكثر من 150 شجرة زيتون من أرضي؛  عمرها أكثر من مائة سنة؛ وأخذها إلى فلسطين المحتلة”.

استمر الصديقان يقصّان عليَّ رواياتهما عن العربدة التي لا ينفك “الجيش الإسرائيلي” يمارسها رغم قرار وقف اطلاق النار، وليس أقلها مواصلة شنّ غاراته الحربية على مناطق لبنانية عدَّة، واحتلاله لخمس تلالٍ حاكمة في الجنوب على الأقل، تُضاف إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والشطر الشمالي من بلدة الغجر وحوالي 13 نقطة حدودية جرى التحفظ عليها عندما قامت قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) بترسيم خط الإنسحاب “الإسرائيلي” عام 2000 وصار يُكنّى بـ”الخط الأزرق”.

طريق جهنم معبَّدة بالنوايا الحسن

كان الصديقان يسردان مشاهدتهما بكثير من النقمة على الأوضاع التي تحيط ببلداتهما وعموم مناطق الجنوب والبقاع اللبنانية. حاولتُ تهدئتهما، وتذكيرهما بأن هناك أموراً إيجابية حصلت بعد وقف اطلاق النار، إذ أن لبنان أنجز وبخطى متسارعة جداً إعادة بناء سلطاته الدستورية بعد شغور تجاوز العامين ونيف: انتخب المجلس النيابي قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وأعطى الثقة لحكومة القاضي الدولي نواف سلام، وجرى تأليف حكومة من وزراء هم في الظاهر خبراء وتكنوقراط، وفي العمق يحظون بدعم غالبية القوى السياسية الممثلة في الندوة البرلمانية. كان هناك تقريباً برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي واحد يجمع خطاب القسم للرئيس عون مع البيان الوزاري الذي على أساسه نالت حكومة سلام ثقة المجلس النيابي. وقد حظي كلام الرئيسين بتأييد شعبي واسع لا يمكن تجاهله، وبخاصة بعد أن أنهكت الحرب “الإسرائيلية” على لبنان البلاد وشعبها.

الكلام عن حصرية امتلاك الدولة للسلاح وقرار الحرب والسلم أشبه بالمُضحك المُبكي في ظل وجود مستقبل لبنان الدولة على المحك

عاجلني الصديقان بالقول إن الكلام شيء والفعل شيء آخر. وأن لا أحد يمكنه أن يُشكّك بنوايا الرئيسين، غير أن الطريق إلى جهنم معبَّدة بالنوايا الحسنة. وهنا تبدأ القصة.

عندما ذكرت أمام الصديقين أنه يُسجل لسلام أنه أول رئيس حكومة في تاريخ لبنان الحديث، منذ الاستقلال عام 1943، يقوم بجولة في جنوب لبنان بعد يوم واحد فقط من نيل حكومته الثقة، ردَّ عليَّ هادي بغضب قائلاً: “ليته لم يفعل”. وعند استفساري عن السبب قال وعيناه غارقتان بدموع تأبى أن تنحدر من مآقيهما: “هل تعلم أنه يوم زيارة الرئيس سلام إلى الجنوب مع بعض الوزراء ومع قائد الجيش بالإنابة كانت بلدة عيترون تُشيَّع 95 شهيداً؟ وبلدة عيتا الشعب تُشيّع 35 شهيداً؟ وأن بين هؤلاء الشهداء الكثير من الأطفال والنساء الذين قتلتهم طائرات العدو الإسرائيلي في مناطق بعيدة عن الجنوب؟ فكيف لرئيس حكومة أن يتواجد في اليوم نفسه في هذه المنطقة من دون أن يقوم بواجب العزاء لأهالي هؤلاء الشهداء؟ أقله من هم مدنيون بينهم. نحن لا نطلب منه موقفاً داعماً للمقاومة، ولا موقفاً متضامناً مع أبنائنا الشهداء، بل نطلب منه على الأقل موقفاً إنسانياً. فماذا كان سيخسر لو مرّ خلال الزيارة على هاتين البلدتين وقال للناس “العوض بسلامتكم”.. ومضى، أو ترك صمته في العزاء يُعبّر أكثر من الكلام؟”.

في هذا الموضوع لا أخفي أن صديقي هادي كان مقنعاً بما قاله. ولكني أيضاً كنتُ مقتنعاً أن سلام وقع بين نارين في هذا الوضع. فهو لا يريد أن يُغضب الراعيين- الأميركي والسعودي- بحضور جنازة شهداء المقاومة. وفي الوقت نفسه، يعرف نقمة أبناء الجنوب تحديداً على الأميركيين بسبب دعمهم للعدوان “الإسرائيلي”. حاولت تهدئة هادي، وقلت له إن الرئيس سلام استمع للجنوبيين وقال بعضهم كلاماً يهز الجبال، وهو ظلَّ صامتاً ومكتوف الأيدي والتأثر باد في عيونه، كمن يقول “في فمي ماء.. العين بصيرة واليد قصيرة”. فسارع صديقي للإجابة “كان على الرئيس إما أن يشارك الناس حزنهم في توديع أبنائهم وأهلهم في الجنازة الجماعية، خصوصاً أن هؤلاء الناس هم الذين يحكم بأسمائهم، أو على الأقل احتراماً لدمائهم أن يؤجل جولته الجنوبية ولو ليوم واحد”.

“الآخرون” هم أبناء الأرض

انتهينا من الكلام عن جولة الرئيس سلام إلى الجنوب، وانتقلنا إلى زيارة الرئيس جوزاف عون إلى السعودية وحضوره القمة العربية الإستثنائية في القاهرة. لم يكن تعليق صديقيّ على هذه الزيارة بأقل سلبية من تعليقهما على جولة الرئيس سلام الجنوبية.

إقرأ على موقع 180  أيُّ الموتين أحب إليك أيها السوري؟

قال هادي: “من الواضح أن الرئيس عون عاد من السعودية بخفي حنين. فهو ليس فقط لم يحظ بأي مساعدة لتنفيذ وعوده ووعود الحكومة باعادة الإعمار والبناء بل حتى أنه لم يستطع أن يحصل على قرار من القيادة السعودية بالسماح لرعاياها بالعودة إلى زيارة لبنان، وهو أبسط شيء يمكن أن يحصل. وفي خطابه أمام القمة العربية كرّر الرئيس عون كلامه عمَّا أسماه حروب الآخرين على أرضنا.. ولا أعلم إن كان الرئيس يشعر أنه يستفز أبناء الجنوب بهذا الكلام. فعن أي آخرين يتحدث؟ العدو الإسرائيلي هو عدونا وله أطماع تاريخية وتوراتية بأرضنا ومياهنا، وقد عبَّر عن هذه الأطماع مراراً وتكراراً عبر تصريحات مسؤوليه وعبر سلوك جيشه الإجرامي. وأبناؤنا هم الشهداء الذين زرعوا أجسادهم في الأرض أسواراً لمنع العدو من تحقيق أطماعه”.

أقصى ما نطمح إليه هذه الأيام أن يتمتع الرئيسان، عون وسلام، بالحكمة اللازمة والضرورية لعدم الإنجرار إلى ما من شأنه أن يجعل الداخل اللبناني؛ وبحسن نية؛ جزءاً من عملية إعادة رسم خرائط المنطقة

وأضاف هادي: “إن كان الرئيس عون يعتبر أبناءنا آخرين لا أعرف كيف سيحكم البلاد لست سنوات. هؤلاء الآخرون يمثلون شريحة اجتماعية كبيرة وواسعة في لبنان، لها انتشارها من أقصى شمال شرق البلاد إلى أقصى جنوبها، مروراً بعاصمتها. والتعامل معهم على أنهم آخرون يعني أنهم ليسوا من أبناء البلاد. وهذا بحدّ ذاته يشكل بذور فتنة داخلية لا تُحمد عقباها”.

المُضحك المُبكي

بهذا النقاش الحامي تلمست أن لدى الصديقين قناعة بأن انطلاقة عمل الرئيسين، عون وسلام، في إدارة البلاد لم تكن موفقة حتى الآن. وأمام ارتفاع حرارة الحوار إلى هذا المنسوب رأيت أن أنهيه بسرعة قبل أن نتورط بنقاش أعمق يطال كلام الرئيسين عون وسلام عن حصرية امتلاك الدولة للسلاح وحصرية ملكيتها لقرار الحرب والسلم، وأنا لا أستطيع أن أدافع عن هذه النظرية في ظلّ ما رأيته من عجز هذه الدولة التي يُعاد بناء مؤسساتها الدستورية برعاية أميركية – سعودية عن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وإلزام العدو بتنفيذ حصته من الاتفاق. فالكل يعرف أن أميركا تستطيع أن تُلزم “إسرائيل” بالانسحاب من لبنان عن طريق إجراء اتصال هاتفي واحد؛ لا أكثر؛ من واشنطن إلى تل أبيب. وأن ما تتمتع به “إسرائيل” من دعم عسكري وسياسي ودبلوماسي أميركي لا محدود، إضافة إلى ما تملكه من ترسانة أسلحة هي الأكبر والأحدث في الشرق الأوسط إن لم يكن في العالم كله، يجعلها هي من تمتلك قرار الحرب والسلم مع بلدنا في ظلّ حصرية تسليح الجيش اللبناني من الولايات المتحدة وحلفائها وهي التي تمنع عنه أي سلاح دفاعي نوعي. وبالتالي فإن القرار الوحيد الذي يسمح لدولتنا أن تتخذه هو قرار الاستسلام لا السلام.

بين جولة الرئيس سلام إلى الجنوب وجولة الرئيس عون إلى خارج لبنان، حصل تطور كبير في سوريا لا يمكن للمسؤولين اللبنانيين أن يتجاهلوه. لقد وقعت اشتباكات مسلحة بين مجموعات تابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، التي أصبح قائدها أحمد الشرع رئيساً معيناً للبلاد، وبين مجموعات درزية في مدينة جرمانا القريبة من دمشق. ودخل على الخط السياسي لهذه الاشتباكات رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، معلناً أن جيشه سيحمي دروز سوريا حتى وإن تطلب الأمر دخوله إلى جرمانا.

هذا التطور العسكري والسياسي يفتح الباب على الكثير من السيناريوهات التي تُكتب لخرائط المنطقة، من ضمنها إقامة دويلة درزية وتقسيم سوريا. وإذا كان إنشاء هذه الدويلة هدفاً “إسرائيلياً” فإنه يعني اقتطاع جزء من جبل لبنان وحاصبيا وراشيا والبقاع الغربي. وإذا كان ذلك ممكناً فإن الممكن أيضاً أن يتحقق اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بامتلاك قطاع غزة وتهجير أهله إلى مصر والأردن والسعودية (وربما سوريا ولبنان أيضاً) ليصبح ذلك أيضاً جزءاً من هذا السيناريو. هذا يعني إعادة رسم خريطة مصر نفسها، ويصبح وجود الأردن في خطر كونه قد يصبح الوطن البديل للفلسطينيين بحسب مخططات “إسرائيلية” قديمة. وهكذا يصبح الكلام عن حصرية امتلاك الدولة في لبنان للسلاح وقرار الحرب والسلم أشبه بالمُضحك المُبكي في ظل وجود مستقبل لبنان الدولة بحد ذاته على المحك.

إن أقصى ما يمكن أن نطمح إليه في هذه الأيام أن يتمتع الرئيسان، عون وسلام، بالحكمة اللازمة والضرورية لعدم الإنجرار إلى ما من شأنه أن يجعل الداخل اللبناني؛ وبحسن نية؛ جزءاً من عملية إعادة رسم الخرائط في المنطقة.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  دوْس الهيبة من الكابيتول إلى رياض الصلح