لبنان: رسالة رئيس الجمهورية الى مجلس النواب.. ومعضلة تفسير الدستور

بتاريخ 31/7/2019، وجَّه رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، عملاً بالفقرة العاشرة من المادة 53 من الدستور، رسالة الى مجلس النواب اللبناني بواسطة رئيسه الاستاذ نبيه بري.  ان ارتدادات هذه الرسالة، السياسية والدستورية، وتداعياتها ما زالت تتفاعل حتى اليوم.  وهي مدعوة الى مزيد من الجدل مع اقتراب الموعد الذي حدده رئيس المجلس لمناقشتها – أي في 17 تشرين الاول/اكتوبر المقبل.

ان حق رئيس الجمهورية بمخاطبة مجلس النواب بتوجيه رسائل اليه لم يكن ملحوظاً في الدستور اللبناني قبل تعديله عام 1990 وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف).

إلا ان ذلك لم يمنع رؤساء الجمهورية، قبل اتفاق الطائف، من التوجه الى اللبنانيين مباشرة بخطب ورسائل لتحديد موقفهم من الأحداث الجارية. يعرض الشيخ بشارة الخوري، أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال اللبناني في العام 1943، في مذكراته للجولات التي قام بها في مختلف المناطق اللبنانية والكلمات التي توجه بها الى اللبنانيين في كل محطة من المحطات التي كان يتوقف عندها الموكب الرئاسي.  ويروي حضوره الى مجلس النواب بمناسبة الاعلان عن جلاء الجيوش الاجنبية عن لبنان عام 1945 وكيفية استقباله والترحيب به.

وقد درج الرؤساء الذين تعاقبوا قبل الطائف على التوجه الى اللبنانيين بمناسبة الأعياد الوطنية أو الدينية.

أما بعد تعديل الدستور عام 1990، فقد مارس كل رؤساء الجمهورية صلاحية توجيه الرسائل الى مجلس النواب في ظروف مختلفة: الرئيس الياس الهراوي عام 1998 للطلب من مجلس النواب تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية؛ الرئيس اميل لحود عام 2005 لوضع قانون جديد للإنتخابات؛ والرئيس ميشال سليمان عام 2014 لطلب انتخاب خلف له ضمن المهلة الدستورية.

لماذا اذن كل الضجة التي أثارتها الرسالة الاخيرة التي وجهها الرئيس ميشال عون إلى مجلس النواب؟

منذ أكثر من قرن كامل، كتب العلامة الدستوري أوجين بيار:

“ليس ثمة معضلة استوقفت علماء القانون ورجال السياسة أكثر من تنظيم العلاقة ين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية على نحو لا ينزع من الأولى قوتها ومن الثانية استقلالها”.

ذلك ان مبدأ الفصل بين السلطات الدستورية الثلاث، التشريعية والإجرائية والقضائية، يفترض، بما يشبه الوهم او التخيل، ان كل واحدة منها تجهل وجود الاخرى وما يصدر عنها من أعمال، وذلك حرصاً على استقلالية كل منها، وتجنباً للخلاف فيما بينها.  وقد عبَّر الدستور اللبناني عن ذلك في مقدمته بأن:

          “النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”.

ان توجيه الرسائل هو احدى وسائل التواصل والتخاطب بين رئيس البلاد ومجلس النواب.

ان دساتير بعض الدول، كالولايات المتحدة وسويسرا، تلزم الرئيس بأن يطلع مجلس النواب من حين الى آخر، وعلى الأقل مرة في السنة، على حال البلد، مع اقتراح التدابير التي يرى اتخاذها لمعالجة الأوضاع، سواء في الداخل ام في الخارج.

لماذا اذن لم تراع هذه الأحكام في القضية الحاضرة، بل ان الرئيس بري عيَّن موعدا لتلاوة الرسالة ومناقشتها في 17 تشرين الاول/اكتوبر، أي بعد اكثر من ثلاثة أشهر على توجيهها؟

ان الدستور اللبناني لم يتعرض الى مضمون الرسائل التي يحق لرئيس الجمهورية، عند الضرورة، توجيهها الى مجلس النواب. إلا ان نظام المجلس، بعد تعديله عام 1999، لحظ الاجراءات الواجب مراعاتها في مثل هذه الحالة، فنص على ان يدعو رئيس مجلس النواب المجلس للانعقاد خلال ثلاثة أيام لمناقشة مضمون الرسالة واتخاذ الموقف أو الاجراء او القرار المناسب.

لماذا اذن لم تراع هذه الأحكام في القضية الحاضرة، بل ان الرئيس بري عيَّن موعدا لتلاوة الرسالة ومناقشتها في 17 تشرين الاول/اكتوبر، أي بعد اكثر من ثلاثة أشهر على توجيهها؟

لا شك بأن مضمون الرسالة، أي طلب تفسير المادة 95 من الدستور، قد لعب دوراً أساسياً في هذه الطريقة من التعامل مع الرسالة الرئاسية، اذ اعتبر رئيس المجلس ان تفسير الدستور هو بمثابة تعديل له، وان تعديل الدستور، بناء على طلب مجلس النواب، يتم خلال أحد العقدين العاديين اللذين يحق للمجلس الاجتماع خلالهما، تحت طائلة بطلان الإجتماع (المادة 31 من الدستور). وفي الحالة الحاضرة، فإن العقد العادي يبدأ في 15 تشرين الاول/اكتوبر.

ان المرجع الذي يعود له حق تفسير الدستور كان موضع خلاف في لبنان بعد ان تقرر في الطائف اعتباره جزءاً من صلاحيات المجلس الدستوري.

فمن العودة الى محضر جلسة مجلس النواب في 21 آب/اغسطس 1990 التي جرت خلالها مناقشة انشاء المجلس الدستوري، يتبين ان النقاش دار بين النواب حول ما إذا كان ينبغي اعطاء المجلس الدستوري العتيد صلاحية تفسير الدستور.

وكان هناك شبه إجماع بين النواب الذين طلبوا الكلام ان حق تفسير الدستور يعود للمجلس النيابي وحده، ولا يجوز له ان يتنازل عن هذا الحق لصالح أي مرجع آخر.

اقتطف من محضر الجلسة:

“وزير البريد والاتصالات (جورج سعادة):  (نحن) بصدد تلافي اخطاء ربما نكون قد وقعنا فيها.. ان المجلس الدستوري لا يحق له تفسير الدساتير، انما المجلس النيابي وحده له هذه الصلاحية.

رشيد الصلح: امر تفسير (الدستور) للمجلس النيابي وحده فقط، لأنه السلطة الاشتراعية الاولى والاخيرة في لبنان.

بطرس حرب: ان المجلس النيابي هو المؤسسة الصالحة لتفسير الدستور، لأنه في معظم الاحيان عندما نلجأ الى تفسير الدستور نعطله او نغيره او نعدله.  فعلى الاقل يبقى ذلك ضمانة للشعب يجب ان تنحصر صلاحية تفسير الدستور بالمجلس النيابي.

نصري المعلوف: مجلس النواب بقي له الحق بتفسير الدستور. وللمجلس الدستوري حق مراقبة حسن تفسيرنا للدستور.

زاهر الخطيب: لا يمكننا ان نترك المجلس الدستوري يقتنص دورنا واني اوافق جميع الذين اقترحوا حذف عبارة تفسير الدستور”.

ولكن، هل يعني ذلك انه يمتنع على المجلس الدستوري، بالمطلق، تفسير الدستور؟

إقرأ على موقع 180  قوانين بلا هوية في مرحلة إعادة التأسيس.. لبنانياً

ان الجواب هو بالنفي، قطعاً.

ذلك انه عندما يُطلب من المجلس الدستوري مراقبة مدى انطباق قانون معين على أحكام الدستور، فإنه يعمد، في الكثير من الأحيان، الى تفسير النص الدستوري المُدَّعي مخالفته، دون ان يستأخر النظر في القضية بإنتظار صدور التفسير عن مجلس النواب.

مثله في ذلك مثل القاضي العدلي عندما يُعرض عليه نزاع بين فريقين يدور حول تفسير نص قانوني غامض او ملتبس، فإنه يعمد الى تفسيره.  بل ان القانون يوجب عليه ان يفسره

بالمعنى الذي يُحدث معه اثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمناً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى” (المادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية).

إلا ان التفسير، في الحالتين المذكورتين، يقتصر مفعوله على القضية المعروضة فقط، ولا يصبح قاعدة تسري على باقي القضايا المماثلة. إذ يبقى لقاضٍ آخر ان يعطي القانون، في قضية أخرى، تفسيراً مختلفاً. بل انه قد يحصل ان يعيد القاضي ذاته النظر في موقفه ويعطي تفسيراً مختلفاً للقانون ذاته في قضية اخرى.

وهنا يكمن الفرق بين هذا النوع من التفسير وبين تعديل بعض مواد الدستور من قبل مجلس النواب وفقاً لأصول تعديل الدستور من اجل تفسيرها أو ازالة ما يكتنفها من غموض او التباس، اذ يصح التعديل في هذه الحال ملزماً للجميع ويسري على كل القضايا المماثلة دون تفريق او تمييز.

لم يحدث ان مارس مجلس النواب في لبنان صلاحية تفسير الدستور عن طريق اتباع أصول تعديل الدستور، لا بعد تأكيد المجلس على صلاحيته بالتفسير عام 1990 ولا قبله. بل بالعكس

جدير بالذكر، نظراً لأهمية ذلك في القضية التي نحن بصددها، انه لم يحدث ان مارس مجلس النواب في لبنان صلاحية تفسير الدستور عن طريق اتباع أصول تعديل الدستور، لا بعد تأكيد المجلس على صلاحيته بالتفسير عام 1990 ولا قبله.

بل بالعكس،

ففي العام 1976 أثيرت مسألة كيفية إحتساب النصاب بمناسبة انتخاب خلف للرئيس سليمان فرنجية، فعقدت هيئة مكتب المجلس ولجنة الادارة والعدل اجتماعاً مشتركاً في 5 أيار/مايو  1976 برئاسة الرئيس كامل الأسعد ناقشت فيه مسألة النصاب واتخذت بشأنه القرار التالي:

“اما بالنسبة الى قضية النصاب الواجب توافره في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، تطبيقاً للمادة 49 من الدستور، فقد تبين للمجتمعين بعد الدرس، ان اشتراط المشترع نيل المرشح اكثرية الثلثين من اعضاء المجلس النيابي في الدورة الاولى يفترض حضور ثلثي اعضاء المجلس على الاقل من اجل امكان عقد الجلسة والشروع في الاقتراع”.

وفي 8 ايار/مايو 1976، في ظل أجواء حرب حقيقية، توافد النواب تحت وابل من الرصاص والقذائف، الى المبنى المؤقت لمجلس النواب في قصر منصور قرب المتحف، ولم تفتتح الجلسة الاّ عندما بلغ عدد النواب 67، بعد انتظار دام حوالي الساعتين.

وفي العام 1980 طُرح موضوع النصاب مرة أخرى بمناسبة انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية وعما اذا كان إحتساب الأصوات يقتصر على الأحياء فقط من النواب. ففي جلسته المنعقدة في 29 أيار/مايو 1980 صوَّت المجلس على قرار يقضي بأن:

“عبارة” الغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً “تعني الغالبية محسوبة على اساس عدد النواب الأحياء، حاضرين او متغيبين، دون المتوفين”.

وقد أكد هذا القرار مكتب المجلس ولجنة الادارة والعدل والنظام الداخلي في جلستهم المشتركة في 16 آب/اغسطس 1982.

وبما ان ستة نواب من أصل تسعة وتسعين كانوا قد توفوا فإن اكثرية الثلثين المطلوبة لإنعقاد جلسة الانتخاب كانت تفترض حضور 62 نائباً.

وقد تمشى مجلس النواب على هذا التفسير اذ ان جلسة الانتخاب لم تنعقد في اليوم المعين للإنتخاب، أي في 22 آب/اغسطس 1982، إلا بعد اكتمال نصاب الثلثين بحضور 62 نائباً.

**************

في السابع عشر من شهر تشرين الأول/اكتوبر الجاري، سوف تُتلى رسالة رئيس الجمهورية في مجلس النواب تمهيداً لمناقشتها واتخاذ المجلس “الموقف او الاجراء او القرار المناسب”.

يصعب التكهن منذ الآن عن موقف المجلس من الرسالة في ظل صمت الكتل النيابية وعدم صدور أي تعليق منها على الرسالة.

هل سوف يتجنب المجلس الدخول في تفاصيل مضمون الرسالة نظراً لحساسية الموضوع المطروح بحجة ان تفسير الدستور هو بمثابة تعديل له، وان اصول تعديل الدستور لم تراعَ؟

أم ان المجلس سوف يعمد الى تفسير المادة 95 من الدستور وفقاً لرأي رئيس الجمهورية ام على نحو مختلف؟

ان رسالة الرئيس هي في ظاهرها طلب تفسير لمادة من مواد الدستور، إلا انه يتضح من تدقيق مضمون الرسالة بأنها تتبنى تفسيراً معيناً للمادة 95 وتقدم الحجج تدليلاً على صحة هذا التفسير وذلك، كما جاء في الرسالة، حفاظاً على الميثاق والوفاق الوطني والعيش المشترك التي تشكل مرتكزات كيانية لوجود لبنان.

ويضيف الرئيس في رسالته العبارة التالية: “مع حفظ حقنا وواجبنا الدستوريين من موقعنا ودورنا وقسمنا بإتخاذ التدبير الذي نراه متوافقاً والدستور في المسائل التي أثرنا في رسالتنا هذه”.

(النص الكامل لرسالة رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب)

* وزير لبناني سابق

 

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "وحدة معايير" أم إنقلاب على الدستور اللبناني؟