

“هذه منطقة يُمزِّقها الصراع المذهبي بين تقاليد واجتهادات متنافسة في الدين نفسه. لكن الصراع يجري أيضاً بين المعتدلين والمتطرفين، وتُغذيه القوى الإقليمية المجاورة (والقوى الدولية) التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة وزيادة نفوذها. النزاعات تحدث بين دول المنطقة وفي كل دولة، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحروب الأهلية وبين الحروب بالواسطة، وبين الصراعات الدولية والاقليمية. ولذا فهو أيضاً صراع ديني يختلط بشدة بالتنافسات الجيو- سياسية التي تُفقد الحكومات السيطرة على المجموعات الصغيرة- الميليشيات ومثيلاتها- العاملة داخل الدولة وعبر الحدود، وتغيّر كل الخرائط السياسية. إن الخسائر في الأرواح هائلة وتكاد تبيد نصف سكان القارة، وكذلك الأضرار مخيفة على الصعد البيئية والاقتصادية والاجتماعية. الفظائع الإنسانية مروّعة، والملايين باتوا بلا مأوى”.
هذا كان وصفاً ليس لمنطقة المشرق المتوسطي في القرن الحادي والعشرين، بل لأوروبا في القرن السابع عشر، في ما اتُفق على تسميته “حرب الثلاثين عاما”. لكن المحللين الغربيين يُجمعون الآن على أن ماضي أوروبا الكئيب هذا في القرن السابع عشر، هو الآن حاضر المشرق المتوسطي الذي يُعاين الآن حرب ثلاثين سنة مدمّرة مُماثلة.
مقارنة حرب الثلاثين عاماً الأوروبية مع حروب الشرق الراهنة، جاءت في تموز/يوليو 2014 من ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية آنذاك في مقال بعنوان “حرب الثلاثين عاماً”، وشدّد فيه على أن الشرق الأوسط سيشهد مصيراً مماثلاً لمصير أوروبا، “ما لم يبرز إلى الوجود نظام إقليمي جديد”. قال هاس: “من الآن وحتى مستقبل منظور، وإلى أن يبرز نظام إقليمي محلي جديد أو يحل الانهاك بين الأطراف المتصارعة، فإن الشرق الأوسط لن يكون مشكلة تحتاج إلى حل، بل وضعاً يجب إدارته”.
هنري كيسنجر أيضاً طرح المقاربة نفسها. ففي خطاب له عام 2013 أمام كلية فورد قال: “ما يحدث الآن في الشرق الأوسط، شبيه بما حدث في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حين واصلت مختلف الفصائل المسيحية الفتك ببعضها البعض، إلى أن قرّرت أخيراً أن عليها أن تتعايش، ولكن في وحدات منفصلة”.
أوجه الشبه بين حربي أوروبا والمشرق تبدو عديدة بالفعل:
1- الإبادات وعمليات “التطهير” والتهجير الجماعي، إضافة إلى الهجرة القسرية بسبب العنف العسكري، تجري على قدم وساق على أساس طائفي وعرقي منذ العام 2011، وتكاد حواضر في العراق وسورية، كبغداد والموصل وشرق وشمال سورية، تخلو من تركيبتها التعددية التاريخية وتُصبح أحادية الانتماء المذهبي والطائفي. وهذا أيضاً ما حدث في أوروبا التي شهدت خلال حرب الثلاثين عاماً عمليات تهجير واسعة ومتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك، أدّت في نهاية الأمر إلى إعادة رسم معظم خريطة القارة الأوروبية.
2- التمازج بين ما هو ديني وما هو جيوسياسي يتفاقم على إيقاع تصاعد الحروب بالواسطة في المنطقة. فكل دولة إقليمية (إيران، تركيا، مصر، والسعودية) تساند في الحروب الأهلية السورية والعراقية واليمنية والليبية الأفرقاء المحليين المتجانسين معها طائفياً أو إيديولوجياً بالمال والسلاح وأحياناً بوحدات عسكرية. ولا ننسى بالطبع إسرائيل التي، وبسبب كونها هي نفسها أقلية في المشرق، تعمد إلى دعم أو التنسيق مع مختلف الاقليات الأخرى في المنطقة. في أوروبا أيضا، كانت قوى إقليمية كالسويد والدانمارك تدعم أشقائها البروتستانت في ألمانيا، فيما كانت إسبانيا تخوض الحرب إلى جانب الكاثوليك.
3- حرب الثلاثين سنة الأوروبية كانت في أحد جوانبها صراعاً حول طبيعة ومفهوم الدين المسيحي. وحروب الشرق الإسلامي هي أيضاً في جانب معها معركة حول طبيعة ومفهوم الإسلام. الحروب الأهلية حول هذه المسألة هنا لا تقتصر على الصراع التاريخي المديد بين السنّة والشيعة (كما بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا)، بل أيضاً، وربما أساساً، بين التيارات السنيّة المتعددة حيث المجابهة، على سبيل المثال، مُحتدمة بين سلفية الإخوان المسلمين والسلفيات الأخرى من وهابية وأصولية أخرى، وبين السلفيات نفسها (القاعدة وداعش، السلفية العلمية والجهادية.. إلخ)، وبين الإسلاميين الليبراليين والاسلاميين الأصوليين. وهو (الصراع) يشمل أيضاً التيارات الشيعية، في إطار الخلافات الحادة حول ولاية الفقيه، ومسألة المهدية، والاصلاح الانفتاحي أو المحافظة المُتشددة.
لكن هنا أيضاً يختلط الدين بالجيوبوليتيك، حيث تتأثر الحروب الأهلية الاسلامية-الاسلامية بتراكيب الدول القطرية التي تنطلق منها التيارات الدينية. فالإخوان المسلمون في تونس والمغرب، على سبيل المثال، يختلفون عن الإخوان في مصر في توجهاتهم، بسبب جهودهم للتأقلم مع طبيعة الدولة والمجتمع القطريين فيهما. وكذا الأمر في إيران التي تختلط فيها الشيعية بالنزعة الوطنية الإيرانية، وفي تركيا في العلاقة أحياناً بين النزعة السنّية والنزعة القومية الطورانية.
لكن السؤال الأبرز في المشرق حول ما إذا كان إهراق الدم الراهن في المنطقة، والتنافسات الجيو-سياسية للإرادات بين القوى السنيّة والشيعية، وتجدد المنافسات بين الدول الكبرى والإقليمية في الإقليم، سيؤدي إلى تأسيس نظام وستفالي مشرقي، هي مسألة تشوبها شكوك عميقة قد تدفع فوراً إلى الإجابة بلا.
كتبت دورية “ناشيونال انترست” الأميركية المحافظة: “النهاية السعيدة لصراعات الشرق الأوسط ليست في الأفق. ما يجري بدل ذلك هو جهنم. إنها جهنم حقا. لقد أعطى نظام وستفاليا الأوروبي معنى للأرواح التي أُزهقت، لكن السؤال في الشرق الأوسط هو ما إذا كان يمكن إنقاذ شيء من رماد الخراب والدمار الراهنين.
لماذا هذا التباين المحتمل الفادح بين حصيلة هاتين الحربين؟
الإجابة واضحة، أو يُفترض أنها كذلك: ما انفجر في وسط أوروبا ليرسم الخريطة الجديدة للدول- الأمم، هي امبراطوريات (الامبراطورية الرومانية المقدسة) وإقطاعيات كبرى. وهذا ترافق مع بدء صعود الرأسمالية القومية والحداثة على إيقاع الاصلاح الديني والثورة العلمانية والعلمية، في حين أن ما ينفجر الآن في المشرق هو نموذج الدولة- الأمة نفسه الذي فرضته أوروبا المنتصرة منذ منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستعمراتها في الهلال الخصيب، عبر سايكس بيكو، ومصر والخليج والمغرب، أو عبر الاختيار الذاتي في تركيا- أتاتورك وإيران- الشاه.
هذا الانفجار يجري في وقت بدأ فيه مفهوم القومية نفسه يُخلي الساحة عالمياً، رويداً وبالتدريج، لمفهوم التكتلات الإقليمية الاقتصادية – السياسية الكبرى (على شاكلة الاتحاد الأوروبي، ونافتا، وآسيان، وصولاً إلى مشروع معاهدة شنغهاي) التي توفّر لحيتان العولمة (الشركات متعددة الجنسيات) الأسواق الموحّدة الضخمة التي تحتاج.
التأقلم مع فكرة تآكل مفهوم الدولة القومية سيكون صعباً بما فيه الكفاية بالنسبة إلى دول-أمم على شاكلة تركيا وإيران، لكنه سيكون صعباً إلى درجة الاستحالة في أي كيانات سياسية جديدة قد تنشأ في الخرائط الجديدة التي تُعد للمنطقة. إذ أنه سيكون مطلوباً منها، وفق شروط العولمة، أن تلفظ أنفاسها القومية المفترضة حتى وهي تشهد ولادتها بالذات. وهذا في حد ذاته قد يجعل هذه الكيانات مادة دسمة لسخرية التاريخ.
ما نقصد هنا بالكيانات الجديدة هي الدويلات الطائفية-الإثنية، التي كان يجري العمل في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين على استيلادها من رحم حروب الثلاثين سنة المشرقية الراهنة.
هنا، يُصبح السؤال (مقدمة هذا النص) مبرراً عما إذا كانت عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تمتد قريباً إلى تركيا وإيران وأقطار عدة أخرى، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي “مؤامرة” أم حصيلة موضوعية؟
يجب القول أولاً إن العولمة التكنو-رأسمالية تضع على رأس أولوياتها تفكيك الدول والمجتمعات (برزت 200 دولة منذ 1990)، وبلورة هوية استهلاكية-تكنولوجية جديدة في العالم ترقص على إيقاع السوق العالمي الموحد.
وهذه المعطيات، تدفع إلى الإسراع في الإجابة على سؤالنا الأول بالقول إن ما يشهده المشرق المتوسطي من تفكك المفكك وتجزئة المجزّأ، ليس مؤامرة جديدة، بل هو جزء مشرقي من كلٍ عالمي؛ كلٌ تعمل فيه في الدرجة الأولى العولمة على تذرير كل الكيانات السياسية الهشة أو الضعيفة، وتسييل باقي الكيانات السياسية في دول العالم الأول الراسخة، بهدف إعادة تركيب الأوطان في سوق قرية عالمية واحدة، وتحويل المواطن إلى مستهلك اقصادي وثقافي في هذا السوق. وهذا يتطلب (كما في الاتحاد الأوروبي) تفكيك الدول أو تقويض سيادتها، ثم دمجها في سوق إقليمي مرتبط بالسوق العالمي الجديد.
هذا صحيح، ولكن جزئياً فقط. إذ على عكس المناطق الأخرى التي تشهد سيرورة التفكيك، يتميّز الشرق الإسلامي بوجود مخططات غربية-إسرائيلية قديمة العهد وُضعت قبل حقبة غير قصيرة من بروز ظاهرة العولمة كقوة تغيير عالمية، وهدفت إلى تذرير هذه المنطقة بهدف اخضاعها استراتيجياً إلى المركز الإسرائيلي.
كل ما هنالك أن هذه المخططات تقاطعت الآن مع خطط قوى العولمة في المرحلة التاريخية الراهنة، فبات كلً منها يتغذى من الآخر ويتعزز بقدراته وامكاناته. وهذا ما جعل الشرق الاسلامي مفتوحاً على التفكيك دون التركيب، في إطار حروب دائمة، متجاوزاً بذلك حتى محصلات حرب الثلاثين عاماً الطاحنة في أوروبا.
كيف؟
(غداً نتابع)
(*) راجع مقالة الكاتب مالك أبو حمدان: هل سقطت مقولة.. “نحن شعب واحد”؟