عن “صُنّاع التاريخ”.. وشخصية الإيراني!

السنون لم تُغيّره، وهو يقترب من التسعين، كأن الزمن توقف عنده حين ترك قريته "عسفيا" قرب حيفا.. صغيرًا.

ما زال الرجل يحتفظ بمفتاح باب بيت ورثه عن والديه، عسى أن يعود يومًا ليفتحه. يتذكر جدران الحارة التي لعب فيها، وسقف البيت الذي يحمل صداه صوت أمه، وشوارع البحر التي تتنفس رائحة الليمون التي ما زالت تعطر ذاكرته. كل حجر في المدن والقرى والجبال والوديان ما زال محفورًا في قلبه، كأنه يختزن كل ما فقده، وكل حلم لم يكتمل، وكل لحظة لم يُسجّل فيها حضوره.

حين يصف القدس، يصفها بعين عاشق وبصوت مؤمن. الأزقة القديمة تتنفس التاريخ. المآذن تصلي في صمت، والكنائس تروي أسرار الأقداس، وكل زاوية تحمل ذكرى، وكل باب يحكي قصة صمود؛ قصة انتظار؛ قصة حياة ضائعة وجدت نفسها في ذاكرة لا تهدأ.

إنّه التشرد الذي لا يزول، والنزوح الذي يتحول إلى ذاكرة حية، إلى عطر الفقد الذي يملأ الصدر، إلى حنين يتنفس في كل خطوة، في كل نسمة، في كل حجر. فلسطين ليست مجرد أرض له، بل هي وجوده، حضوره، وجدانه، حتى لو ظل مغتربًا بين المنافي. كلما تغرّب، كلما ضاع بين المدن الجديدة، يظل الماضي حاضرًا، ينبت في عروقه مثل شجرة الزيتون، جذورها في الحنين، أوراقها في الذكرى.

***

يفاجئني صديقي دوماً وهو السبّاق في استشراف المستقبل وهو يقول لي، كأن صوته يهمس بين صمت الأزقة القديمة:

“٧ أكتوبر لحظة مفصلية في تاريخ فلسطين والعرب، ما قبلها ليس كما بعدها”. أعرف موقفه من الحدث نفسه، وكيف يعتبر حركة حماس جزءًا من المشروع الإيراني، وكيف استغلت طهران الحلفاء الفلسطينيين لتقويض مشروع الدولة الفلسطينية، لكنه كان يتحدث بوعي عميق؛ بعين رجل يعرف أن التاريخ لا يُقاس بالخسائر وحدها، بل بالقدرة على تحويل اللحظة المفصلية إلى وقائع تُغيّر مجرى الأمور.

ابتسم الرجل بخفر، وقال:

“فلسطين تغسل عار كل العرب… نحن الذين ننتظر في المنافي، نحن الذين تركنا بيوتنا، وحملنا مفاتيحها؛ فلسطين تذكّر الجميع أن الحق لا يموت، وأن القوة الحقيقية ليست في الخرائط ولا في الأسلحة وحدها، بل في القدرة على مواجهة اللحظة الحاسمة”.

بالنسبة إلى هذا الفلسطيني، لن يكون يحيى السنوار، خارج المساءلة، حتى لو أصبح شهيدًا. “ربما جرّ الويلات على شعبنا بسبب عناده وقراءته الخاطئة التي بدّدت حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، لكنه في هذه الحرب فعل حسنةً واحدةً: غزة حرّرت دمشق وبيروت، وأرست التوازن المفقود في كامل المحيط العربي”!

***

“7 أكتوبر أعادت رسم الخرائط السياسية: الهلال الخصيب يتشظى، إيران تتراجع داخل حدودها، وفلسطين تصبح محورًا لإعادة التوازن الإقليمي. إيران ستكون أكثر حذرًا في طموحاتها المستقبلية. ستكون مهتمة أكثر بصيانة علاقاتها الخليجية على قاعددة حسن الجوار. انهيار ما يُسمى “الهلال الشيعي” يُقلّل النزاعات ويفتح فرصًا ومسارات جديدة في المنطقة”.

يضيف: “كثيرًا ما توهمت إيران أنّ مفاتيح الإقليم بيدها، وأنّ كلمتها هي الفاصلة في رسم خرائطه ومصائره، غير أنّ التجارب التاريخية تثبت أنّ المنطقة عصيّة على الاحتكار، وأنّ تعدّد القوى وتشابك المصالح يفرضان ميزانًا لا يسمح لطرف واحد بأن يكون المرجع الأوحد. إنّ ما تعتقده طهران قدرة على الإمساك بالمفاصل، تبين أنه مجرد وهم يتبدّد أمام صعود قوى إقليمية موازية، وتحوّل المزاج الدولي الذي لم يعد يحتمل هيمنة أحادية، ولا مغامرات توسعية مغلّفة بخطابات عقائدية”.

رهان إيران على أنّ مشروعها العابر للحدود قادر على إخضاع المجتمعات العربية، “إصطدم في نهاية الأمر بتجذّر الهويات الوطنية وبحساسية التوازنات الطائفية والسياسية التي لا تقبل الانصهار في مشروع خارجي مهما بدا براقًا. بل إنّ تمدّدها المفرط يفتح عليها أبواب الاستنزاف من الداخل والخارج معًا، ويضعها أمام معادلة معقّدة: كيف يمكن لدولة مثقلة بأزماتها الاقتصادية والاجتماعية أن تفرض “كلمة فصل” في إقليم تتغيّر معادلاته بسرعة البرق. إنّ ما تظنّه إيران حسمًا نهائيًا، ليس سوى فصلًا عابرًا في صراع طويل، عنوانه الدائم: لا أحد يملك الكلمة الأخيرة في هذه الجغرافيا المزدحمة بالفاعلين والتقلبات”.

***

قال لي صديقي نفسه إنه يُروى في التراث الفارسي أنّ رجلًا سأل آخر: من هو الفارسي الأصيل؟ فأجابه: هو من يتكلم بشيء، وفي ذهنه شيء آخر، وفي قلبه ثالث، وفي جيبه رابع، ويحتفظ بخامس كخطة بديلة إن تعثّرت الأمور الأولى.

هذه الحكاية البسيطة تختصر معادلة الشخصية الإيرانية المركّبة، التي نسجت على مدار قرون شبكة معقّدة من الأقنعة والطبقات. ولعلّ ما بدا في لحظة ما مهارة فارسية في المراوغة واللعب على التناقضات، تحوّل لاحقًا إلى مدخل للقوى الكبرى كي تستعمل إيران نفسها في لعبة المصالح. فالغرب قرأ هذه الشخصية جيدًا، وعرف أنّ التناقضات التي تحملها ليست مجرّد طبائع فردية، بل بنية سياسية قابلة للتوظيف: خطاب معلن للتعبئة، وحسابات باطنية للتفاوض، وعقيدة راسخة في العمق، وجيب مفتوح للمصالح، ثم دائمًا خطة احتياطية تبقيها واقفة على رقعة الشطرنج مهما كانت الخسائر. إيران وهي تكشف عن نفسها بهذه التركيبة، لم تعد فقط لاعبًا بارعًا في إخفاء أوراقها، بل مادة تستثمرها القوى الكبرى، فتسمح لها بالتمدّد حينًا، ثم تُحاصرها حينًا آخر، لتبقى دائمًا جزءًا من اللعبة، لا سيدًا مطلقًا لها.

إقرأ على موقع 180  "معركة الحجاب".. إنها الثورة الإيرانية بامتياز!

يستعد صديقي لانهاء الجلسة بالقول: “إيران استخدمت كأداة في صراع دولي كبير؛ دعمها لحلفائها كان لتثبيت موقعها الإقليمي وحماية نظامها عبر اللعب خارج حدودها، لكن ما جرى في المنطقة طوال العامين المنصرمين فاجأها وأظهر حدود قدرتها وتحكمها وقوتها. يمكن النظر إليها كطرف تعرض للهزيمة نيابة عن دول وأطراف دولية، وهنا تكمن أهمية المراجعة التي تقوم بها من أجل صياغة استراتيجية جديدة تقوم على الاندماج بالمنطقة وفق منظومة مصالح تجمعها مع جيرانها العرب على أساس الندية والاحترام المتبادل”.

كان صديقي يجلس هناك، في صمت الرجل العارف، وقد بدأ الحنين يكتسح المكان، لكنه كان حقيقيًا، عميقًا، يحمل معه رسالة واحدة: الأرض لا تموت، والذاكرة لا تُمحى، والفلسطينيون الذين صمدوا، سيستمرون في صنع اللحظات المفصلية، مهما طال الغياب ومهما امتدت المنافي.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  زعماؤنا ومصارفنا سرقوا ودائعنا.. لا النازح السوري!