

غداة انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في ربيع العام 2000، تناولت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية المشهد على أنه ترك جروحاً بليغة في الذاكرة الإسرائيلية في إشارة واضحة إلى أن هذا الانسحاب حصل من دون ابرام اتفاق سلام مع لبنان أو حتى ضمانات أمنية. كان السيد حسن نصرالله هو بطل ذلك المشهد؛ هو من أجبر إسرائيل على الانسحاب ذليلة.
هذا الانسحاب لم يكن هزيمة عسكرية فحسب، وإنما كسراً لهيبة إسرائيل، وقد عبّر عن ذلك الصحفي الإسرائيلي ناحوم برنياع في صحيفة “يديعوت أحرنوت” (تاريخ 25 آب/أغسطس 2006) بقوله: “نصرالله نجح في بناء معادلة ردع غير مسبوقة، كما نجح الرجل في نقل خانة لبنان ساحة مفتوحة إلى خانة جبهة تُحسب لها ألف حساب”.
عهد الردع
ولعل الاختبار الأبرز جاء مع حرب تموز 2006، التي استمرت 33 يوماً. كانت إسرائيل تريدها حرباً خاطفة تنتهي بهزيمة حزب الله وسحقه بسرعة، لكن الميدان عاكس تمنياتها فوصلت صواريخ المقاومة إلى حيفا وما بعد حيفا وما بعد بعد حيفا، كما وعد السيد نصرالله. بالمقابل، تكبّد الإسرائيلي خسائر كبيرة في الميدان، واضطر للانسحاب من دون تحقيق أيٍ من أهدافه.
وكتب يومها الصحفي ألوف بن في صحيفة “هآرتس” (تاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2008): “أن نصرالله أدخل إسرائيل في حرب استنزاف نفسية قبل أن تكون عسكرية”. بالمقابل، كانت قد تشكلت لجنة حكومية إسرائيلية عُرفت بلجنة فينوغراد للتحقيق في أسباب الهزيمة العسكرية الإسرائيلية، ومن خلال نتائجها أطيح برأس رئيس أركان إسرائيل وقتها دان حالوتس. وقال تقرير لجنة فينوغراد إن نصرالله “نجح في أن يصبح رمزاً لهزيمة إسرائيل بعد حرب 2006؛ رجلٌ أطاح بهيبة الجيش الأقوى في المنطقة”.
بعد حرب 2006 أصبح إسم السيد حسن موازياً لكلمة ردع في الصحافة العبرية فكتبت صحيفة “يديعوت أحرنوت” بتاريخ 25 آب/أغسطس 2006 أن كل بيت إسرائيلي “بات تحت مرمى نصرالله”، أما صحيفة “معاريف” فقالت: “بقاء نصرالله على قيد الحياة هو فشل استخباراتي إسرائيلي”، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على اعتراف إسرائيلي بالعجز، واللافت للانتباه أن السيد حسن لم يكن يُرى كعدو بعيد، بل أصبح هاجساً دائماً في وعي مجتمع إسرائيلي تشبّع بمعادلة “الجيش الذي لا يُقهر”.
وقبل عدة أيام من اغتياله، كتبت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية: “بقاء نصرالله على قيد الحياة يعتبر فشلاً استخباراتياً إسرائيلياً”. وفي الليلة نفسها التي نُفذت فيها ضربة 27 أيلول/سبتمبر صرّح نتنياهو بأن العملية “خطوة حاسمة لكنها ليست النهاية”، وأضاف: “لقد تحققت بعض الإنجازات الكبيرة، لكن المهمة القائمة لم تُنجز بعد”.
الأثر النفسي
نجح السيد حسن نصرالله في تحويل الصراع إلى معركة نفسية دائمة ومستمرة ومؤثرة، من “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” إلى “أنظروا إليها تحترق” ومعادلات الجليل وغيرها ويقول المحلل الإسرائيلي تسفي برئيل في مقالة له في دورية “العين السابعة” (أيلول/سبتمبر 2006): “باختصار، نصرالله وللمرة الأولى يُحطّم قاعدة متفقاً عليها لدى الجمهور والإعلام الإسرائيليين: زعيم عربي لا يتبجح؛ لا يكذب وكلامه دقيق». ليس هذ فحسب بل كانوا يرصده الإعلام الإسرائيلي عند كل خطاب بهدف تحليل خطابه، إضافة إلى استدعاء خبراء لغة الجسد محاولين معرفة أسرار هذا الرجل. أما شعور العجز فقد عبّر عنه الإعلام الإسرائيلي بقوله: “كيف يمكن لزعيم في الضاحية الجنوبية لبيروت أن يُحدّد إيقاع الخوف في تل أبيب؟ كيف يمكن لخطاباته أن تُحدث هزّة في البيت الأبيض”؟
يضيف برئيل أن السيد نصرالله “حاز صفة الشخص الموثوق بكلامه، وفي كلامه انعكاس واضح على مئات الآلاف من الإسرائيليين وعلى إسرائيل برمتها. وبعيون الكثيرين، يعد هذا الرجل، وعن حق، من طرد إسرائيل من لبنان وأوجد منظومة ردع هائلة في قبالتها».
لقد كان السيد نصرالله قائداً قوياً، وخصماً شرساً، وكان هاجساً لم يفارق الأعداء لا في حياته ولا في مماته.
لقد رحل الجسد، لكن حضور السيد أقوى مع كل نبضة قلب ورفة عين جريحة، فسلام على روحه، وسلام على من يحمل إرثه.