السلفيون في لبنان والجار المتغيّر: من فتاوى الجهاد إلى اختبار السياسة

مع تبدّل المشهد السوري وصعود نظام جديد في دمشق، يجد التيار السلفي في لبنان نفسه أمام اختبار غير مسبوق: الانتقال من خطاب الفتاوى والجهاد إلى منطق السياسة والتكيّف. فبعد عقود من الصراع الفكري والانقسام بين الدعوي والجهادي، يواجه السلفيون اليوم تحدي إعادة تعريف دورهم داخل بيئة سنّية مضطربة وواقع لبناني مأزوم. وبين إرثهم العقائدي الصارم ومتطلبات البراغماتية الإقليمية، يقفون على مفترق طرق قد يحدد مستقبل حضورهم في لبنان والمنطقة.

يُعَدّ التيار السلفي في لبنان أحد أبرز المكوّنات الإسلامية السنيّة التي عرفت مسارًا متقلّبًا منذ سبعينيات القرن العشرين فقد نشأ في بيئات اجتماعية متأثرة بالمدّ السلفي القادم من الجزيرة العربية وتمركز في مدن مثل طرابلس وصيدا والبقاع وبعض المخيمات الفلسطينية في بداياته قدّم نفسه كتيار دعوي إصلاحي يركّز على تصحيح العقيدة محاربة البدع وتعزيز الالتزام الديني مبتعدًا عن الانخراط المباشر في العمل السياسي أو الحزبي.

غير أنّ الظروف اللبنانية الداخلية ومرحلة ما بعد اتفاق الطائف ساهمت في توسّع قاعدته الاجتماعية والدعوية خصوصًا في المناطق السنية المهمَّشة اقتصاديًا وسياسيًا حيث وجد خطابه الديني المحافظ أرضية خصبة، وارتبط في أذهان كثيرين بوعد الهوية الدينية والعدالة الأخلاقية في مقابل عجز الدولة عن تلبية الحاجات المعيشية والأمنية.

انقسامات البيت السلفي

لم يكن التيار السلفي في لبنان يومًا كتلة متجانسة بل عانى منذ نشأته من انقسامات فكرية وتنظيمية انعكست على موقعه السياسي والاجتماعي الأمر الذي تُرجم بصراع بين السلفية الدعوية والجهادية.

تمثلت السلفية الدعوية بالتيارات المرتبطة بالمؤسسات الدينية والتعليمية وركزت على نشر العقيدة الصحيحة والتربية الدينية وغالبًا ما تجنبت هذه التيارات الانخراط في العنف.

في المقابل، برزت السلفية الجهادية ذات النزعة الأكثر راديكالية والتي اعتبرت الأنظمة الحاكمة طاغوتية وأجازت حمل السلاح والانخراط في الصراع المسلح سواء داخل لبنان أو عبر الحدود.

هذا الانقسام أدى إلى توترات متكررة بين الطرفين حيث يرى الدعويون أن الجهاديين يسيئون لصورة السلفية ويعرّضونها للقمع بينما يعتبر الجهاديون أن الدعويين متساهلون ومتواطئون مع الأنظمة الكافرة.

ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011 دخل التيار السلفي طورًا جديدًا إذ تحولت بعض فصائله إلى فاعل مباشر في التعبئة الجهادية من خلال الفتاوى والدعوات إلى النفير في ظل مناخ مذهبي محتدم لبنانيًا، غداة انخراط حزب الله في الأزمة السورية.

لحظة تحول سورية

ومع سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى الحكم في دمشق، وجد السلفيون اللبنانيون أنفسهم أمام تحدٍّ مختلف فالمعادلات التي أسّست لخطابهم الجهادي لم تعد قائمة وباتوا مضطرين إلى إعادة تعريف موقعهم بين فقه الدعوة وفقه السياسة في بلد متنوع ومعقّد مثل لبنان وفي ظل جار سوري متغيّر يعيد تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.

التحولات السورية الأخيرة أسقطت من يد السلفيين اللبنانيين المعادلة القديمة التي قامت على التكفير السياسي للنظام السوري ومقاتلته باعتباره رأس محور إقليمي معادٍ. حاليًا، أصبح الجار السوري الجديد أكثر انفتاحًا على العالم العربي والغرب وأقل صدامية مع القوى السنية في المنطقة، ما وضع السلفيين أمام اختبار غير مسبوق: كيف يمكن الانتقال من خطاب فتاوى الجهاد إلى لغة السياسة والتفاوض والبراغماتية؟

هذا التحول فرض على السلفيين في لبنان أن يواجهوا أسئلة إستثنائية من نوع: هل ينبغي دعم النظام السوري الجديد باعتباره حكومة مسلمة ناشئة كما يقول بعض شيوخ السلفية الدعوية كما ان أي تعاون سياسي معه يُعدّ تنازلاً عن مبادئ الجهاد والحاكمية كما تصرّ بعض الأصوات الجهادية وكيف يمكن لسلفيين نشأوا على خطاب التحريم والقطيعة مع الدولة الوطنية أن يتحولوا إلى فاعلين سياسيين يتعاملون مع تعقيدات الداخل اللبناني والإقليم المتغير؟

من الجهاد إلى السياسة!

أصبح السلفيون اللبنانيون أمام فرصة مزدوجة: إما إعادة تعريف أنفسهم كقوة سياسية تمثّل المزاج السني القلق من تراجع الدور التقليدي لقياداته أو الانزلاق إلى هامش جديد بعد تراجع الحاجة إلى خطاب الجهاد العابر للحدود.

أصبح مفهوم المصلحة الشرعية محور الخطاب الجديد، وهو تحول يعكس براغماتية سياسية داخل الخطاب السلفي الذين يرى أن الحكومة السورية الجديدة تستمد شرعيتها من كونها نتاج حراك جهادي طويل وتضحيات قدّمها مسلمون مخلصون سعوا لإزالة الظلم وإحياء الدين، ويشدّد على أنّ الحكم على هذه الحكومة يجب أن ينطلق من مبدأ ردّ المتشابه إلى المحكم، أي أنّ ما قد يبدو من سياساتها مشتبهاً لا ينسف تاريخها الجهادي المشروع.

في مقاربتها الفقهية تستند هذه الرؤية السلفية البراغماتية إلى مفهومي السياسة الشرعية وفقه الموازنات حيث تعتبر أنّ الحكومة تعمل ضمن إطار فقه الاستضعاف الذي يجيز لها التكيّف المرحلي وتجنّب المواجهة المفتوحة قبل التمكّن والتمكين، وتستشهد بنصوص قرآنية وبتفسيرات ابن تيمية وابن القيم التي تؤكد مشروعيتها كما ترفض الطروحات التي تلزم الحكومة بإعلان إمارة إسلامية أو فرض الشريعة في كل مفصل من مفاصل الحياة، وتعتبر أنّ هذا التكليف يتناقض مع القاعدة الشرعية القاضية بارتباط الأحكام بالقدرة والاستطاعة، وتُشبّه ذلك بمبدأ بلوغ النصاب في الزكاة حيث يرفع غياب القدرة التكليف الشرعي وعليه يرى أنّ تأجيل بعض أحكام الشريعة لا يُعدّ نقضًا للتوحيد بل اجتهادًا يوازن بين حفظ الدين والنفس والمصالح الضرورية.

إقرأ على موقع 180  حرب واشنطن المزدوجة ضد موسكو وبكين.. هل هي مُمكنة؟

و لعدم إضعاف الحكومة الناشئة باعتبارها تمثل خيار الضرورة الذي يدرأ المفاسد الكبرى ويصون مصالح المسلمين بانتظار مرحلة التمكين وهو ما يجعل النظام قادرًا على اتخاذ خيارات سياسية كبيرة بما في ذلك خطوات تاريخية مثل السلام الإبراهيمي.

فرصة جديدة

يمتلك السلفيون فرصة لإعادة تعريف أنفسهم كقوة سياسية سنية تعبّر عن القلق الشعبي بعد تراجع دور القيادات التقليدية وقد يشكلون رافعة جديدة للتوازن داخل الطائفة السنية في لبنان لكن ثمة مأزق واضح فإذا بقوا أسرى خطاب جهادي تجاوزه الواقع السوري والإقليمي، سيجدون أنفسهم في موقع هامشي، في ظل ظرف إقليمي لم يعد يسمح بمغامرات عسكرية كبرى.

ويقف السلفيون في لبنان أمام مفترق طرق تاريخي فقد انتقلوا من مرحلة فتاوى الجهاد التي ارتبطت بالحرب السورية وصعود التنظيمات المسلحة إلى مرحلة اختبار السياسة حيث أصبح عليهم التعاطي مع جار سوري متغيّر ومع واقع لبناني مأزوم. يبقى موقع السلفيين في لبنان مرتبطًا بالتوازن الإقليمي بين النفوذ الإيراني في لبنان الذي تراجع من جهة واستعادة الحضور العربي الآخذ بالاتساع من جهة ثانية، وبالتالي مدى قدرتهم على التكيف مع مع هذه المعادلة التي ستُحدّد مستقبلهم.

إن خيار السلفيين اليوم يتراوح بين إعادة إنتاج أنفسهم كفاعل سياسي شرعي قادر على العمل ضمن النظام اللبناني وبين التراجع إلى هامش خطاب جهادي تجاوزه الزمن وفي كلتا الحالتين يبقى مستقبلهم مرهونًا بقدرتهم على التوفيق بين إرثهم العقائدي الصارم وضرورات السياسة الواقعية التي يفرضها الجار السوري المتغير.

في الختام عودة للسؤال الأساس: هل يمكن للسلفية أن تتحول من خطاب الفتاوى الجهادية إلى خطاب السياسة الشرعية أم أن الانقسام والضعف المؤسساتي سيبقيها هامشية بلا قدرة على التأثير الوطني؟

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مسجد "مونت لاجولي" تجربة رائدة في العمل الإسلامي في فرنسا