نقاش طويل ومستمر حول ما إذا كان حزب الله يعرف بأمور الدولة وفي كيفية الدخول في النظام. الجواب: يعرف، لكن وضعه ملتبس يصعب على الحل. بعض اللبنانيين يقولون بالاستراتيجية الدفاعية، أي ترك الأمر للزمن، لتقادم الزمن؛ والأميركيون يريدون حل الالتباس الآن.
يعرف الأميركيون جيداً أن مسألة سلاح حزب الله في لبنان لا تستطيع الدولة اللبنانية البت بها وايجاد الحلول لها. يعرفون جيداً أن الاعتداءات على الجنوب اللبناني يستمر بها الاسرائيليون، بسبب أو من دون سبب، وأن للناس كراماتهم، وأن أهل الجنوب، سواء كانوا من الشيعة أو غيرها لن يضحوا بكراماتهم من أجل رغبة أميركية أو ما هو أعلى من ذلك. ويعرف الأميركيون أن الخطر الاسرائيلي دائم ومستمر ولا سبب له إلا الغطرسة العنصرية الاسرائيلية. ويعرف الأميركيون أن الجنوبيين، ومعظم اللبنانيين، لا يريدون أن يكونوا غزة أخرى، ناهيك بضفة غربية أخرى. ويعرف الأميركيون أن كل ما في الأمر ليس صفقة تعقد بين من يعتقدون أن بيدهم الأمر؛ ومن بيدهم الأمر يقتلون هنا الجنرال الاسرائيلي الذي وقّع أوسلو، وهناك الرئيس المصري الذي وقّع كامب دايفيد، وأن الرئيس الأميركي كينيدي اغتيل لأسباب تتعلّق بإنهاء التمييز في المدارس (ليس لإنهاء العنصرية التي يفترض أنها انتهت مع إنهاء الرق قبل 100 عام في أيام لينكولن)؛ ويعرف الأميركيون أن حزازات النفوس تبقى كما هي، وأن صفقة القرن أو القرون لا تنهي المسألة ولا تحسم مجرى التاريخ. لا يعرفون أن التاريخ يتلاعب بنا، ويستحيل علينا التلاعب به.
التباسات التاريخ يريد رئيس أميركي أرعن حلها بصفقة كما لو كان الأمر يتعلّق بمقاولة حول بناية في مانهاتن أو غيرها؛ أو ربما تعوّد على حقول الغولف الملساء. يأتي موظف من وزارة الخزانة الأميركية، اسمه يستعصي على اللفظ (وعلى كل حال هم لم يلفظوا في أي يوم من الأيام اسم ايران أو العراق أو العرب بشكل صحيح)، ويعطي الأوامر في لبنان يمنة ويسرة، وكأنه متأكد بأننا لا نستطيع العيش من دون مصارف، ومن دون حسابات مصرفية، ومن دون بطاقات ائتمان. ربما كان الأمر كذلك، لكننا حديثو العهد بذلك ويمكننا العيش من دونه.
يفرضون علينا ما لا يمكن القبول به. ما لا يمكننا الرضوخ له؛ أن نتخلى عن سيادة لبنان كما جرى التخلي عن سيادة فلسطين. لا نستطيع التخلي عن هذا وذاك. فلتكن في فلسطين أكثرية يهودية لكنها ستبقى في وعينا فلسطين، ولتكن في لبنان أكثرية من طائفة من توافه طوائف لبنان، لكن البلد سيبقى في وعينا.
يعلمنا التاريخ أننا إذا تخلينا عن شبر من الأرض العربية، سوف نتخلى عن العروبة. هذه العروبة التي ما أردناها إلا أن تكون هويتنا. واقع الأمر أننا لا نعرف تحديد هويتنا، ولا نريد ذلك. نعرف فقط أننا رمز الشعوب المسحوقة في العالم بسبب هذه العروبة التي لا نستطيع تحديدها. وهي عاصية على التحديد. لكنها قابعة في قلب كل منا بالتأكيد. لا يعرف الأميركي ذلك ويريد صفقة، عقداً بالتراضي، بين قطعة أرض تحتلها الصهيونية، وما في قلوبنا وأفئدتنا، وما نشأنا عليه، وما نريد أن ينشأ عليه أبناؤنا.
قانون سرية المصارف الساري المفعول صار في خبر كان. أجهزة الاستخبارات تتقصى وتعرف أموال اللبنانيين أو ما تبقى منها، وتعرف كيف تُنفق
لكن القضايا الأساسية في أذهان اللبنانيين (والعرب) لا تتعلّق بالسلطة وسياساتها، ولا تتعلّق بحقيقة من يحكم لبنان. أموال اللبنانيين (الكبيرة التي لم تهرّب الى الخارج) وأموال الطبقة الوسطى (دون العليا) والطبقات الفقيرة (لمن معه القليل من المال الذي يحول شهريا ويصرف شهريا) هي في المصارف. للمودعين حق الرقبة وللمصارف حق الاستثمار. أين وكيف يتم التصرف بهذه الأموال؟ المودع العادي لا يعرف شيئاً. هو أصغر من أن يعرف. بالتالي، فإن المصارف تتصرّف بأموال اللبنانيين (وأموال الحكومة الى حد ما). فالمصارف هي من يملك أموال اللبنانيين، وهي من يتصرّف بها. والمصارف هي من تملك لبنان. هي التي تحكم لبنان. وما نسمع عن صعوبات في وجه التحويلات، أو ما يُسمى نقص سيولة الدولار هو في حقيقة الأمر حاجز يوضع في وجه اللبنانيين كي لا يعرفوا كيف يتم التصرّف بأموالهم. في أيام الوفرة (أي كثرة التحويلات من الخارج)، كنا نسمع عن حرية الصرف والتحويل، أي عن حرية المودعين في التصرّف بأموالهم. لم يعد الأمر كذلك. أموال اللبنانين مرتهنة لمن يحكم لبنان. والذين يحكمون لبنان هم الذين يتصرفون بأموال اللبنانيين. هم المصارف.
هذا التصرّف بأموال اللبنانيين لا علاقة له باتجاهاتهم السياسية أو ما يسمى الرأي العام؛ بالأحرى لا علاقة له بقضايا يعتبرها اللبنانيون أساساً في رؤاهم السياسية. قانون العقوبات المفروض على اللبنانيين أصلاً، يفرض كيف تتصرف المصارف بأموال اللبنانيين. وضع شروط على المصرف هو وضع شروط على المودع. هو وضع شروط على كيفية التصرّف بأموال اللبنانيين. على المصارف أن تطيع العقوبات وإلا تفقد منافذها الدولية. أموال اللبنانيين (خاصة الطبقة الوسطى وما دون، وخاصة أن أصحاب الرساميل الكبرى هربوا أموالهم من لبنان) مودعة في صناديق البنوك التي لا تستطيع التحرّك إلا بناء على تعليمات القوة الكبرى.
مصارف لبنان تتحكم بأموال اللبنانيين. هي تحكم لبنان. وهي تخضع لحكم مثبت من الخارج. بقي للبنانيين، حتى إشعار آخر حرية الكلام، لكن حرية التصرف بأموالهم سلبت منهم.
تعني العقوبات أن يخضع المعنيون بالأمر لنظام أمني. ما هو الفرق بين الاستخبارات الأمنية والاستخبارات السياسية؟ ربما لا نعرف الجواب الآن. لكن قانون العقوبات الأميركي مدعوم بقواعد أميركية متعددة في لبنان. وهذه القواعد تساعدها أجهزة استخبارات أميركية، وأجهزة من قوى دولية أخرى. قانون سرية المصارف الساري المفعول صار في خبر كان. أجهزة الاستخبارات تتقصى وتعرف أموال اللبنانيين أو ما تبقى منها، وتعرف كيف تُنفق. وسيأتي يوم يقرر فيه من الخارج كيف تُنفق.