مستقبل العالم بيد أمريكا.. استحالة القيادة المنفردة!

ما الجديد في هذا العنوان؟ ألم يُلقِ العالم بنفسه في أحضان أمريكا منذ اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى وانعقاد مؤتمر فرساي وصدور إعلان الرئيس وودرو ويلسون بنقاطه الأربع عشرة؟

ألم تتأكد البشرية من أن مستقبل العالم عاد ليضع نفسه في يد أمريكا التي سرعان ما انضمت إلى معسكر الحلفاء في أعقاب الهجوم على بيرل هاربور، وعلى الفور راحت تُحارب في جبهتين، جبهة القتال وجبهة مفاوضات لبناء نظام عالمي يحل محل النظام الذي انتهى بالعالم إلى حرب عالمية ثانية. وضعت أمريكا أثناء الحرب أسس نظام القطبين ودافعت عنه إلى أن أفلس وانفرط بدون حرب فقام نظام القطب الأوحد. قادت العالم منفردة ولكن محتفظة بالأسس المؤسسية التي أرستها خلال الحرب العالمية الثانية. بقيت الأمم المتحدة وكافة أجهزتها تعمل خلال مرحلتي القطبين والقطب الأوحد. تصرفت أمريكا ضمن إطار الشرعية الدولية في قضايا عديدة وتصرفت ضد هذه الشرعية في قضايا أخرى أشهرها غزو واحتلال العراق، الدولة المستقلة ذات السيادة.

***

من حيث الشكل، ما تزال الولايات المتحدة تقود العالم منفردة، وفي الوقت نفسه، تدير منافسة اتخذت في بعض مراحلها طابع الشراسة. بدأت المنافسة متدرجة في عصبيتها عندما تأكدت أمريكا والعالم بأسره أن الصين حققت، ومستمرة في تحقيق، درجات متصاعدة من التفوق الاقتصادي والاستقرار السياسي والسمعة الدولية وبخاصة في علاقاتها بالدول النامية وباحترامها ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق المؤسسات الأخرى التابعة للمنظمة الدولية، الاحترام الذي شفع لها لدى مختلف الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة لتنضم إلى منظمة التجارة العالمية وتزداد انطلاقاً. لم يحدث في أي مرحلة مبكرة من مراحل هذا الصعود أن وُجهت الصين من جانب أمريكا بمواقف عدائية أو معرقلة لهذا التفوق. بمعنى آخر، كانت الولايات المتحدة، وهي القطب الأوحد والقائد للنظام الدولي، تدعم الصين في مرحلة لعلها كانت الأهم والأشد حرجاً في مسيرة الصعود إلى مصاف القمة.

أتصور أن في العمق عرضاً من الصين سبقه تمهيدٌ بين خبراء الدولتين. العرض الصيني يستبق سنوات وربما عقودا في علاقات الدولتين ويعتمد على الاعتراف فورا بأن أمريكا باقية قطبا لا غنى عنه وعن قيادته والصين قطب صاعد في القوة والمكانة ولا غنى عنه لشراكته وتحمله أنصبة في مسئولية قيادة العالم

***

اللافت للانتباه في هذه المسيرة أن الولايات المتحدة كانت مدركة لحقيقة تاريخية وهي حتمية الصدام بين قوة قائمة وقوة صاعدة. أدركت هذه الحقيقة مع الصين ولم تعترض مسيرة صعودها. قيل في تفسير هذا الموقف المخالف للحقيقة التاريخية أن أمريكا كانت في حاجة لتتعاون مع قوة صاعدة لتستفيد خاصة وأن كلاً منهما يُشكل سوقاً هائلة للآخر. أما عن الحقيقة التاريخية فقيل أنها غابت أو غُيّبت بتأثير الثقة الزائدة التي تضخمت في ثنايا العقل السياسي الأمريكي لطول المدة التي قضتها واشنطن تقود النظام الدولي منفردة في حقيقة الأمر أو بمشاركة في الغالب رمزية من جانب القطب السوفييتي.

لست غافلاً عن أن هذا العقل الأمريكي ربما كان مُحملاً بمشاعر عنصرية قوية أو ضئيلة ضد الآسيويين عموماً وبخاصة ضد الصينيين ففرض على عناصر الدولة العميقة في أمريكا ـ كما في غيرها من عواصم الغرب ـ الاستهانة بقدرة الحزب الشيوعي الصيني على قيادة أمة بهذا الحجم في مسيرة هكذا خطيرة ومكلفة، وفي الوقت نفسه لست غافلاً عن أن وجود هذه المشاعر العنصرية يُقلّل من القدرة على التقدير السليم لقوة الخصم المنتمي لعنصر أو جنس آخر.

***

دفعني إلى اختيار هذا العنوان لمقال الأسبوع تطور جوهري في جانب من جوانب الحرب المثيرة للجدل في أوكرانيا. إذ ترددت في أجهزة الإعلام في الأيام الأخيرة تصريحات وتسريبات أعتقد أنها متعمدة عن مواقف وملاحظات لمسئولين في بعض دول الغرب تنم عن رغبة في تخفيف الالتزام بدعم الأوكرانيين في حربهم ضد جيوش روسيا، وحيث لم تصدر تصريحات وتتسرب تسريبات وقعت تلميحات في كثير من كتابات إعلاميين مطلعين. ذكّرتني هذه التصريحات كما ذكّرتني التسريبات والتلميحات بردود فعل القادة الأوروبيين على نداءات دونالد ترامب رئيس أمريكا السابق لقادة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لتسديد أنصبتهم في ميزانية الحلف ولو عند الحد الأدنى. لم يستجب أغلب القادة إلا مؤخراً. استجابوا عندما اجتمعت ظروف دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا وليس انتباهاً إلى أن أمريكا استعادت فجأة قوتها وهيبتها وعادت تفرض إرادتها. تحمسوا في البداية وبعضهم أطلق تصريحات نارية وكثيرون أفرغوا ما في ترساناتهم من أسلحة روسية الصنع أو أسلحة اشترتها دول أوروبا ولم تستعملها فتجاوزتها التكنولوجيا الأحدث، كلها وغيرها أرسلوها إلى أوكرانيا. كانت فرصة لتحديث الترسانات وتشغيل مصانع أسلحة والتعبير عن غضب شديد لما فعلته روسيا أو خيبة أمل هائلة في فلاديمير بوتين الذي أجبر هؤلاء القادة على الخضوع أخيراً للدولة القائد في الحلف الغربي وتنفيذ ما تطلبه دون تردد كبير أو اعتراض ولو شكلي.

إقرأ على موقع 180  خطأ بايدن "القاتل".. خطآن استراتيجيان

***

مرت فترة شهدت حماسة منقطعة النظير داخل معسكر الغرب. كان الظن أن الحرب الروسية الأوكرانية ستكون قصيرة. لم ينتبه معظم القادة، أو انتبهوا وانصاعوا، إلى أن هذه الحرب ربما تكون لغرض آخر غير معلن مثل استنزاف روسيا تمهيداً لإخراجها من سباقات القمة الدولية، أو لغرض ثالث وغير معلن كذلك وهو تخويف الصين من مصير محتوم إن استمرت في صعودها المتسارع بينما مظاهر الانحدار الأمريكي تتواصل وتتعدد وبخاصة في الجوانب الداخلية. طال أمد الحرب. أظن أن أطرافاً غير قليلة توصلت إلى أن التجربة الأوكرانية فشلت فحق للأوروبيين حلفاء أمريكا أن يترددوا، وربما حق للرئيس جو بايدن نفسه أن يستبدل لغة العنفوان بلهجة الاعتدال، بعد حصول حزبه في الانتخابات على نتائج غير مبهرة، وبعد أن اتضح أن الرأي العام فقد بعض حماسته لدعم أوكرانيا، وبعد أن رصدت أجهزته أن دولاً عديدة في أوروبا تغيرت نبرة خطابها السياسي المتعلق بهذه الحرب، وبعد أن ترددت مخاوف بين عسكريين غربيين من عواقب خطيرة تشمل الجميع إذا استمرت هزائم روسيا على أيدي مدافعين أوكرانيين مدعومين بأموال وأسلحة غربية.

 أتصور، ولن أكون مخطئا في تصوري، أن النظام الدولي ربما بدأ هذا الأسبوع يخطو خطوات هامة في تجربة انتقال جديدة من عهد إلى عهد

لن يغيب عن الذاكرة الأوروبية رد فعل الألمان في ثلاثينات القرن الماضي على تعمد دحرهم وتحقيرهم واستنزافهم عقاباً لهم على حرب أشعلوها وانهزموا فيها وعوقبوا بضراوة. آخرون في أوروبا وخارجها يُحمّلون أمريكا وحدها مسئولية الفوضى السياسية الراهنة في أوروبا وصعود النوازع القومية والشعبوية داخل المجتمعات الغربية ومنها أمريكا نفسها. من هؤلاء من يعتقد أن أمريكا صارت أضعف وتزداد ضعفاً وتنحسر مكانة ويضربون المثل بإهانات تعرضت لها من جانب بعض دول العالم النامي وآخرها من جانب المملكة العربية السعودية ودول نفطية وخليجية أخرى.

 أما نحن فلا يجب أن نتجاهل أمرين أو اجتهادين، ولا أقول حقيقتين. أولهما: المقابلة المطولة التي جرت بين الرئيسين الصيني والأمريكي على هامش قمة العشرين في بالي، قمة تحتاج منا إلى نظرة متعمقة ولقاء لا نعتبره لقاءً كغيره. أتصور أن في العمق عرضاً من الصين سبقه تمهيدٌ بين خبراء الدولتين. العرض الصيني يستبق سنوات وربما عقوداً في علاقات الدولتين ويعتمد على الاعتراف فوراً بأن أمريكا باقية قطباً لا غنى عنه وعن قيادته والصين قطب صاعد في القوة والمكانة ولا غنى عنه لشراكته وتحمله أنصبة في مسئولية قيادة العالم. حديث الرئيس الصيني عن استعداد الصين للتعاون الكامل مع الولايات المتحدة كان معنياً بإبلاغ الرئيس الأمريكي أن الرئيس شي جين بينج يأتي إلى هذه القمة حاملاً تفويضاً من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني لفتح عهد جديد من التعاون مع أمريكا يتدرج صعوداً ليصير على مستوى شراكة في قيادة العالم.

ثاني الأمرين أو الاجتهادين هو اعتراف أمريكي، لا يقل أهمية عن اعتراف أمريكي آخر حمله الرئيس ريتشارد نيكسون وبصحبته الدكتور هنري كيسنجر نقل فيه حاجة أمريكا إلى خروج الصين من عزلتها. ربما مست هذه الحاجة في وقتها أي قبل نصف قرن ظروف الحرب الباردة في العلاقة بين طرفي القمة الدولية الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. الآن يكاد يفصح، ولكن لن يعلن، جوزيف بايدن للرئيس الصيني عن حاجة مماثلة خلاصتها أن أمريكا ربما لم تعد تحتمل منفردة أعباء القيادة المنفردة. صارت التكلفة باهظة وليست سراً يمكن إخفاؤه. أضف إلى التكلفة مظاهر في السلوك ترتبط بتقدم سن الرئيس الأمريكي مثل مشيته المتعثرة والصعوبة التي صار ينطق بها ويقرأ الكلمات. أضف أيضا أن الاحصاءات الأخيرة عن صعوبات يواجهها اقتصاد أمريكا وعن مشكلات اجتماعية متفاقمة لم تعد أسراراً يمكن إخفاؤها. كلها وغيرها إذا اجتمعت فسوف تجعل العامين القادمين من حكم الديموقراطيين، وبالتحديد من ولاية جو بايدن، أيام محنة في حياة أمريكا السياسية.

 أتصور، ولن أكون مخطئا في تصوري، أن النظام الدولي ربما بدأ هذا الأسبوع يخطو خطوات هامة في تجربة انتقال جديدة من عهد إلى عهد.

 

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أربع ساعات هزّت أميركا