

المَشرَحة اسمُ مكان من الفعل شرَّح بتشديد الراء وفتحها، وتشيرإلى تلك الغرفة الكبيرة المُعدَّة لتشريح الأجسام بعد الوفاة. الفاعلُ مُشرِّح بكسر الراء والمفعول به مُشرَّح بفتحها، أما المَصدر فتشريح؛ وهو عملية تتَّسم بالدِّقة، ويتم خلالها التعرُّف على مُكوِّنات الجِّسم المَقصود.
***
في القضيَّة التي أثارت فُضولَ كثيرين؛ إذ توُفِّيَ فيها عددٌ من الأشقَّاء والشَّقيقات تلاهم الوَالد؛ ظلَّ الأمرُ غامضًا، مَحفوفًا بالشائِعات والأقاويل، إلى أن أثبتَ الطبُّ الشَّرعِي تسمُّمِهم بنوع من المُبيدات غير المألوفة، وبعدما حامت الشكوكُ حول الأم، انتقلت لزوجة الأب التي اعترفت بتفاصيل الجَّريمة. الشكُّ في سَبب الوفاة دافعٌ لتشريح الجُّثمان ومِن ثمّ البحث عن أيّ علامة تؤكد وجود فاعل أو تنفيه، ويُعَدُّ تمييز السُّموم وآثارها جزءًا مُكملًا لعملية تشريح الأعضاء، فقد يكمن السِّر فيما لا يُرى بالعين المُجرَّدة؛ بينما تكشفُه الكيمياءُ وتفاعلاتها.
***
”المَشرَحة مش ناقصة قتلى“؛ تعبير مَجازيٌّ بليغ؛ يُقال حينما يَهِمُّ شخصٌ بتعقيد المَوقف وتزكية الأزمة القائمة؛ فيضيفُ مَعلومة مُزعِجة أو يستثير أحدَ الأطرافِ ضِدَّ آخر، أو يُحرِّض على الانتقام، أو ربما يُكرِّر حديثًا مُستفِزًا مُحفزًا دون مراعاة للنتائج؛ فيكون كمن ينفخ في النار؛ والقصد من القولتين أن الوضعَ مُشتعلٌ بما يكفي لا يحتاج ما يؤجِّجه.
***
التقيت على مدار الأعوامِ عددًا لا بأس ممَن درسوا بقسم علم الاجتماع وتخرَّجوا من كلية الآداب. كثيرهم أو ربما مُعظمهم انحصر عملُه في إقامةِ الحفلات وتوفير الوَجبات وتنظيم الأنشطة الفَنية، لبعض المُؤسَّسات الخدمية التي تضمُّ أناسًا يحتاجون رعايةً خاصة. لا يهتم أغلبُ هؤلاء الخِريجين بسُبل البَحث العلميّ التي يُفترَض أنهم تعلموها، ولا يطمحون لاستخدام معرفتهم المتخصِّصة في كشف ما خفي من عِلَّات المجتمع وتشريح الواقع بأزماته ومشكلاته؛ ولو في نطاق مُحيطهم المَحدود. ارتضوا القليل الذي لا يُسمِن، واكتفوا بالأداء التقليديّ الباهت دون سواه، والحقُّ أن هذه الحالَ الأسيفة لا تقتصر عليهم؛ إنما تنسحب على قطاعٍ أوسع مِمَن يُفترَض بهم أن يحملوا لقب ”باحث”، واللوم يتقاسمه الجميع؛ فالمناخُ قامع لحرية التفكير، قاصرٌ عن استيعاب الآراء الجادة التي تقاوم السائد، ساعٍ لفرض صَوتٍ واحد دون سواه؛ وهو يدفع المجتهدين القادرين على القيام بالمهام الصعبة إلى التخاذُل والابتعاد؛ مؤثرين السلامة، عازفين عن أي مشاركة أو إسهام.
***
عادة ما يختصُّ المُحللون السِّياسيون بتشريح المواقف الغائمة على المستويين المحليّ والدولي. أعرف أصدقاءً برعوا في التحليل والاستنتاج على مدار السَّنوات، وقد صاروا أصحابَ خبرة وباع لا يُنكَران؛ لكنهم يقفون الآن مدهوشين أمام أفعال الدبلوماسية الحديثة التي لم تكن لتمرّ يومًا بالبال. يَعجزون أمام كل واقعة جديدة عن إيجاد التفسيرات المُناسبة، ويُدركون شيئًا فشيء أن المنطقَ الذي تجري وفقًا له الأحداث؛ قد تحلل وبلى ولم يعد صالحًا للاستخدام. الحِيرةُ عامةٌ شاملة، خاصة وقد فقد الخطاب السياسي رونقه المعتاد، وبات أقلّ حِرَفيةً وأكثر عشوائيةً وجُموحًا.
***
تغيرت خصائصُ الطبقاتِ الاجتماعيَّة التقليديَّة منذ فترة طويلة وتداخلت؛ سَقَطت فئاتٌ وصَعدت أخرى وتبادلت هذه وتلك الأوصاف والسمات. لم تعُد التصنيفاتُ القديمةُ مناسبةً ولا قابلة للتداوُل والاستخدام؛ إنما يحتاج الأمرُ لنظرةٍ فاحصة، مُتأنية، تدرس الواقعَ المؤلمَ وتخطُّ ما يُفصح عنه من تطوُّرات.
***
في مَشرحةِ كليَّة الطِّب حِكايات كثيرةٌ ومثيرة. يَفقد بعضُ الطلابِ الجُّدد وَعيَهم عند زيارتها للمرة الأولى، ثم يعتادون عليها وتصبح بعد قليل مزارًا مفضَّلًا؛ يَقصدونه بلا رهبة ولا جزع. في المَشرحة عمالٌ، والعمال يفرزون بخبرتهم الطلبة، والطلبة يدركون أهمية وجودهم، ويلجأون إليهم ما أرادوا اختلاس فسحة من الوقت أمام جثمان أو آخر.
***
تقع “مَشرحةُ زينهم” في حيِّ السَّيدة زَينب؛ وهي الأشهر سُمعة على الإطلاق بين الناس، وقد تأسَّست في ثلاثينيات القرن العشرين وتتبع من الناحية الإدارية مَصلحة الطبّ الشرعيّ، ويُقال إن تسميتها مَردودة إلى منطقة زينهم التي تقَع بها والتي تحوي مَسجِد الإمام زين العابدين بن الحسين بن عليّ؛ الذي أكثر من التعبُّد والذِّكر حتى نُسِبَ له المكان. مَثلت المشارح بوجه عام مكانًا مُلهمًا لعديد الأعمال الدرامية، وربما كان مسلسل “زينهم” أكثرها خفَّة وأبعدها عن الرُّعب والتخويف؛ إذ يُصور حياة طبيب شابّ يَسعى لكشف ما شاب الحالات التي يستقبلها من غُموض. المُسلسل إنتاج عام ألفين وثلاثة وعشرين، وبطولة أحمد داوود.
***
من الكتب التراثية “تشريح مَنصوري” الذي وُضِع في القرن الرابع عشر، ويُعدُّ أول كتاب علمي يتناول الجَّسدَ البشرِيَّ كاملًا. هناك أيضًا كتاب “تشريح الأفلاك” للعاملي وهو أحد المَخطوطات المُهمة التي تمَّ تحقيقُها. تناوُل العَمل الفَنيّ بدقائقه وطرح جمالياته ومناقشة جوانب الخَلل فيه بصورة علمية مُحايدة؛ هو تشريح مُفصَّل صَارم؛ لكنه لا يأتي بعضَ الأحيان بالنتيجة المَرجوَّة. في فيلم “مُجتمَع الشُّعراء الأموات” يشرح المُعلم غير التقليديّ كيفية تقييم الشِّعر باستخدام مقياسين مُتعامِدين، وبعد أن ينتهي يَطلب روبين ويليامز من طلابه أن يُمزِّقوا الصَّفحات التي تحوي النظرية المَشروحة؛ مؤكدًا فشلها وفشل واضعها؛ فالعمل الفنيّ لا يمكن أن يُردَّ إلى مُعادلات جامدة وبيانات إحصائية جافة؛ إنه أمر أكبر من هذا وذاك وأكثر عمقًا ورحابة.
***
إذا ضَرَب واحد الآخر بقوة وأحدث به إصابات عديدة؛ قيل مجازًا إنه “شرَّحه”، والقصد أنه لم يترك فيه ذرة سليمة لم يطلها الإيذاء، وإذا هدَّد واحدٌ الآخر قال له كذلك: ها شرَّحك. تبدو السَّاحة السياسية اليوم على هذا المستوى من الحوار؛ لا أخلاقيات تُلتَزم ولا أعرافٌ تُحتَرم، ولا كياسة تتبع؛ وفي زيارة رئيس الولايات المتحدة الأخيرة أبلغ مثال؛ إذ حفلت بفَيضٍ من التباهي المَمجوج وبخطابٍ ملؤه التفاهة والفجاجة؛ والأكثر إزعاجًا ولا شكَّ هو غياب الردَّ المناسب.
(*) بالتزامن مع “الشروق“