لبنان في القلوب البعيدة

على مدار عقود، غادر اللبنانيون وطنهم حاملين معهم ذكرياتهم وهويتهم الوطنية، ساعين إلى فرص للعيش والعمل في أصقاع الأرض المختلفة، من المدن الكبرى إلى أصغر القرى العالمية التي احتضنتهم. ما بدأ كرحلة فردية أو عائلية تحول مع مرور الوقت إلى شبكة مترابطة عالمياً، قوة خفية تعيد لبنان إلى قلب العالم، وتمنحه قدرة على الصمود برغم كل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

هذه الشبكة التي تشمل مئات آلاف المغتربين وتمتد عبر القارات، وتمثل امتداداً مباشراً للقدرة الوطنية على العمل، الاستثمار، والتأثير. في كل مدينة، من لبنان إلى كل جهات الارض، يترك اللبنانيون بصماتهم في الاقتصاد والثقافة والسياسة، ويشكلون جسراً بين الداخل والخارج، حاملين معهم رسالة مفادها أن الوطن الحقيقي لا يقتصر على الأرض، بل يشمل القلوب التي تحمله أينما ذهبت.

لم يعد الانتشار اللبناني ظاهرة اجتماعية تبحث عن سقف تستظله بعيداً من كل المآسي والصعاب والمخاطر، بل أصبح أحد الأعمدة الأساسية للصمود الوطني. في كل أزمة اقتصادية، وفي كل مرحلة انهيار سياسي أو مالي، كان اللبنانيون في الخارج يشكلون شبكة أمان غير مرئية، تحمي الأسر والمشاريع الصغيرة والمتوسطة من الانهيار، وتضمن استمرار النشاط الاقتصادي، فالتحويلات المالية للمغتربين تصل سنوياً إلى أكثر من ستة مليارات دولار تقريباً، بحسب تقديرات محلية وخارجية، وهي نسبة تشكل أكثر من عشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني، وهو ما يوضح حجم الاعتماد على هذا الدعم الخارجي في إبقاء الاقتصاد على قيد الحياة، وهذه الموارد لم تعد تقتصر على دعم الاستهلاك الشخصي للأسر، بل تجاوزتها لتصبح وقوداً للمشاريع الإنتاجية والاستثمارية، ما يعكس قدرة المغترب على إعادة إنتاج الثروة الوطنية من خارج الحدود.

قوة سياسية

وتتجلى القوة الخفية للانتشار في قصص متعددة ومترابطة، تكشف عن أبعاد هذا الدور الوطني. هناك مشاريع إعادة تأهيل المدارس في القرى النائية التي تمولها شبكات المغتربين، لتصبح هذه المدارس مراكز تعليم مستدام تربط الأجيال الجديدة بالتراث اللبناني والتجارب العالمية. هناك شركات صغيرة توظف الكفاءات اللبنانية وتربطها بالفرص العالمية، مما يقلل الهجرة ويخلق فرص عمل جديدة، ويعيد جزءاً من النشاط الاقتصادي إلى الداخل. هناك منصات تعليمية وثقافية تربط المغتربين بالتراث، عبر برامج تعليمية ومعارض فنية وورش عمل رقمية، ما يعيد للبنان حضوره الثقافي على الخريطة العالمية. كل هذه المبادرات، التي تبدأ بمبادرة فردية صغيرة، تتحول إلى موجات تأثير قوية، تشكل شبكة حقيقية من الدعم الداخلي والخارجي، وتعيد صياغة قدرة لبنان على النهوض من أزماته.

ويُشكّل الانتشار اللبناني أيضاً قوة سياسية محتملة، قادرة على التأثير في القرار الوطني، ومشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية تعتبر ضرورة استراتيجية، لأن غيابهم عن صناعة القرار يضعف قدرة الدولة على الإصلاح ويقلل من شرعيتها الوطنية. تجارب دول تؤكد فاعلية إشراك المغتربين في القرار السياسي، فتخصيص مقاعد للناخبين المقيمين في الخارج، يعزز الديموقراطية ويخلق ضغطاً إصلاحياً على المؤسسات، فيما السماح بالاقتراع الإلكتروني لضمان مشاركة واسعة، يدعم الشرعية الوطنية ويعزز دور المغتربين في التنمية الاقتصادية.

قوة اقتصادية

ولا تقل القوة الاقتصادية للانتشار أهمية عن قوته السياسية. التحويلات المالية كانت ولا تزال دعمًا أساسيًا لاستقرار الأسر والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وفي أوقات الأزمات شكلت الحد الأدنى من الاستقرار. لكن ما يجعل الدور أكثر أهمية هو أن المغتربين أصبحوا محركاً للاستثمار المباشر في مشاريع إنتاجية، تعيد الحيوية للاقتصاد المحلي وتحد من هجرة الكفاءات الشابة. الاستراتيجيات الاقتصادية تشمل الحوافز الضريبية للمشاريع العائدة، حماية حقوق المستثمرين، وتطوير منصات رقمية لإدارة الاستثمارات والحوالات بطريقة شفافة ومنظمة. هذه السياسات تحول الدعم المالي العابر إلى مشاريع طويلة الأمد تخلق فرص عمل، وتدعم قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والطاقة، وتعيد الثقة بين الداخل والمغترب. من خلال هذا الدور المزدوج، يصبح المغترب اللبناني ليس مجرد داعم مالي ولا صندوق انتخابي، بل قوة اقتصادية استراتيجية قادرة على التأثير في الاقتصاد الوطني وإعادة إنتاج الثروة داخل البلد.

تثبيت حقوق المغتربين على الصعيد التشريعي والقانوني هو حجر الأساس لاستثمار هذا الانتشار بشكل مستدام. قانون واضح للتصويت، هيئة وطنية للانتشار اللبناني تعمل على التنسيق بين الدولة والمغتربين، هذه وغيرها.. كلها عوامل تحوّل المغترب إلى شريك دائم، يساهم في استدامة الدولة ومشاريعها الإصلاحية. هذا التثبيت القانوني يحمي لبنان من المخاطر الناتجة عن تهميش دوره أو الحد من مشاركته، إذ أن أي محاولة لتقليص تأثير المنتشرين تؤدي إلى فقدان موارد مالية مهمة، تقليل الضغط الإصلاحي على المؤسسات، عزوف الشباب اللبناني في الخارج عن المشاركة، وتفاقم هجرة العقول والكفاءات التي تشكل العمود الفقري لأي نهضة وطنية.

لبنان لا يحتاج إلى معجزات خارجية ليبقى صامداً، بل يحتاج إلى استثمار ذكي في اللبنانيين أنفسهم، أولئك الذين حملوا الوطن في قلوبهم بعيداً عنه، وجعلوا منه قصة نجاح متجددة، صامتة لكنها مؤثرة، قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، والفوضى إلى نظام، والهجرات إلى شبكة وطنية متماسكة وقادرة على إعادة لبنان إلى مكانته الطبيعية بين الأمم

قوة ثقافية

إقرأ على موقع 180  "اليُتم السُني" في لبنان.. من الحريرية إلى الميقاتية!

الدور الثقافي والاجتماعي للانتشار يعكس بعداً آخر لقوة اللبنانيين في الخارج. هم سفراء غير رسميين للتراث والهوية الوطنية، ينقلون الثقافة اللبنانية إلى كل أنحاء العالم، ويخلقون جسراً بين الداخل والخارج. دعم المبادرات التعليمية والفنية والثقافية يعيد للبنان حضوره الحضاري، ويشكل وسيلة للحفاظ على الهوية الوطنية وسط العولمة المتسارعة. في الوقت نفسه، يخلق هذا التفاعل شبكة اجتماعية تضمن أن الأجيال الجديدة من اللبنانيين في الخارج تبقى مرتبطة بوطنها، مستعدة للمساهمة في أي مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى الدعم والمبادرة.

هذه القوة تتجسد في مشاريع صغيرة لكنها مؤثرة. المدارس التي يُعاد تأهيلها، المستشفيات التي يتم تطوير بنيتها، المشاريع الزراعية والصناعية الصغيرة التي يُموّلها المغتربون، كلها أمثلة على كيف يمكن للجهود الفردية أن تتحول إلى تأثيرات وطنية كبيرة. هذه المبادرات لا تحافظ على الأصول المادية فحسب، بل تعيد الأمل والثقة في الدولة وفي قدرة المجتمع على النهوض، وتخلق شعوراً بالانتماء والهوية المشتركة بين الداخل والخارج.

أي إهمال لدور المغتربين أو تهميش لمشاركتهم يؤدي إلى نتائج كارثية. انخفاض الموارد المالية، تقليل الاستثمارات المباشرة، تراجع التأثير الإصلاحي على المؤسسات، عزوف المغتربين عن المشاركة، وزيادة هجرة العقول والكفاءات، كلها نتائج مباشرة لهذا الإهمال. لذلك؛ لبنان أمام مفترق حاسم، إما استثمار الانتشار بشكل كامل، أو المخاطرة بفقدان أحد أعمدة استقراره وصموده وربما مستقبله كدولة قادرة على مواجهة تحديات المنطقة والصراعات الداخلية.

التجارب الدولية

استثمارات المغتربين، إذا تم توجيهها بشكل استراتيجي، يمكن أن تتحول إلى قوة تحويلية، ومن الشواهد ان بيانات تقريبية تشير إلى أن حوالي 25% من التحويلات المالية السنوية توجه نحو مشاريع إنتاجية صغيرة ومتوسطة، ما يخلق فرص عمل مباشرة ويحفز نشاطاً اقتصادياً مضاعفاً في الداخل. هذه النسبة يمكن زيادتها بشكل كبير إذا تم اعتماد سياسات حكومية واضحة تشمل الحوافز الضريبية، حماية حقوق المستثمرين، وضمان الشفافية في إدارة المشاريع. من خلال هذه الإجراءات، يصبح الانتشار قوة استثمارية متكاملة، تدعم الاقتصاد الوطني وتخلق شبكة أمان مستدامة للبنان.

التجارب الدولية تثبت أن الاستثمار الفاعل في المغتربين يعزز الاستقرار الداخلي والشرعية الوطنية. في إيرلندا، يساهم تخصيص مقاعد للناخبين في الخارج في زيادة نسبة المشاركة في الانتخابات، ما يؤدي إلى زيادة ثقة المواطنين في المؤسسات. في أرمينيا، يساهم الاقتراع الإلكتروني للمغتربين في تعزيز الشرعية الوطنية وتحفيز استثماراتهم في الداخل، ما يُعزّز الاستقرار الاقتصادي والسياسي. لبنان يمكن أن يستفيد من هذه التجارب، على قاعدة أن يُصبح المغترب شريكاً فاعلاً في القرار الوطني.

الاستثمار الكامل في المغتربين اللبنانيين يحتاج إلى رؤية شاملة ومتكاملة، تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة، بحيث يتحول المغترب إلى شريك دائم في بناء الدولة وصياغة مستقبلها. إشراك الانتشار في الانتخابات، حماية حقوقه الاستثمارية، ضمان تمثيله في البرلمان، تشجيع مشاركته في المشاريع الوطنية، ودعم دوره الثقافي والاجتماعي، كلها عوامل تساهم في إعادة لبنان إلى مكانه الطبيعي، وتخلق شبكة أمان دائم تعزز قدرته على الصمود والنهوض.

المغتربون.. فرصة

اللبنانيون في المهجر ابعد من مجرد امتداد جغرافي، بل هم لبنان نفسه في أبهى صور الصمود والاستمرارية، والاستثمار الكامل في الانتشار، سياسياً، اقتصادياً، وثقافياً، هو السبيل الوحيد لضمان قدرة لبنان على مواجهة أزماته، استعادة مكانته العالمية، وتعزيز استقراره الداخلي، وقصص النجاح المتكررة والممارسات الدولية تثبت أن الدول التي استثمرت في مغتربيها وضمنت لهم مشاركة حقيقية في القرار الوطني، حققت استقراراً اقتصادياً وسياسياً، بينما فشلت الدول التي تجاهلت دورهم في استعادة الاستقرار الداخلي وجذب الاستثمارات.

لبنان أمام فرصة؛ إما استثمار الانتشار بشكل كامل، أو المخاطرة بفقدان أحد أعمدة استقراره وصموده وربما مستقبله كدولة قادرة على مواجهة تحديات المنطقة والصراعات الداخلية.

الانتشار اللبناني هو القوة الخفية التي تجعل لبنان أقوى مما يبدو، والشاهد الحي على أن الوطن لا يُقاس بمساحته الجغرافية، بل بالقلوب التي تحمله أينما ذهبت، وبالقدرة على أن يعود هذا الامتداد إلى الداخل ليصنع فرقاً ملموساً في السياسة والاقتصاد والثقافة، ويعيد لبنان إلى موقعه الطبيعي بين الأمم.

لبنان لا يحتاج إلى معجزات خارجية ليبقى صامداً، بل يحتاج إلى استثمار ذكي في اللبنانيين أنفسهم، أولئك الذين حملوا الوطن في قلوبهم بعيداً عنه، وجعلوا منه قصة نجاح متجددة، صامتة لكنها مؤثرة، قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، والفوضى إلى نظام، والهجرات إلى شبكة وطنية متماسكة وقادرة على إعادة لبنان إلى مكانته الطبيعية بين الأمم.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خداع النفس.. "دواء وهمي"!