

هكذا بدأت علاقتي بالمستقبل ثم تطورت مع تقدمي في السن من مرحلة إلى أخرى واختلاطي بمن هم أكبر وأعلم. من هؤلاء من تطوّع بتطميني إلى أن جانباً من الواقع، أي الحقيقة، لا بد من أن يكون معروفاً لقارئة الغيب كما للباحث في موضوع المستقبل. هكذا وبالتدريج تكثفت الهواية لننتقل معاً إلى إدمان أفلام وكتب الخرافات العلمية ومن هنا بدأنا رحلة الصعود من الهواية إلى الاحتراف فصار لنا مركز أكاديمي متخصص في دراسات ما كان يعرف بعلوم المستقبل.
***
جاء وقت توقفت فيه عن حضور جلسات يقرأ فيها الفنجان أو جلسات تلقي فيها المحاضرات عن أحدث أساليب قراءة المستقبل. علّمتني محاولات قراءة المستقبل بالفنجان كما بالبحوث الأكاديمية ألا أغفل، إن حاولت استقراء المستقبل، عن ضرورة استحضار الماضي والإلمام بالحاضر والاستفادة من خبراتهما وتجاربهما للنفاذ إلى جانب أو آخر من جوانب المستقبل.
***
ثم جاء يوم جمعة من أيام خريف القاهرة الممتع بخضرته ونقاء جوه ونعومة شمسه وتنوع فاكهته واحمرار مياه نيله، اجتمعت في بيتي عائلتي الصغرى كعادتها في مثل هذا اليوم من كل أسبوع. أجلس في مكان لا يتغير، أشاهد وأتأمل مفكراً ومحللاً وأنتهي كما بدأت ساكتاً، لا أعلق على ما دار وما سمعت وما لاحظت. يومها رأيت الصغيرة التي بالكاد وقفت على قدميها قبل أسبوع أو اثنين، وهي حفيدة لإبنتي الأكبر، رأيتها قادمة من الممشى الخارجي للبيت تركض في اتجاه قنينة نستخدمها في رش أصص الزهور. تحبها لأنها تقضي معها وقتا نوعياً جميلاً. شدّتني إليها حركتها الدائبة في المكان من شخص لآخر ومن أصيص زهور لآخر. لا تطلب من أمها إلا الطعام والنوم كل في حينه لا يتغير موعداً أو موقعاً. خطر على بالي أكثر من مرة أن أتساءل ساكناً، أليس ما تفعله بالنسبة لجدول أنشطتها خلال بقية اليوم أفعله أنا نفسي وبيننا عشرات السنين في الخبرة والتجربة.
***
حاجتنا إلى تلبية رغبات وإشباع حاجات، ومنها الفضول، كانت بلا شك وراء شغفي للغوص في دراسة المستقبل. كان صديقي ومعلمي الصحفي الكبير يرى عجزاً في فضولي. كيف لشخص ينوي احتراف هذه المهنة وعنده عجز في الفضول. توصلنا معاً في نهاية المطاف إلى أن هذا العجز إن وجد فلا شك أن أهلي مسئولون عنه لكثرة تعنيفي إن سألت الضيوف عن أمور هي من قلب خصوصياتهم. نشأتُ أتجنب التفاصيل وخصوصيات البشر، بمعنى آخر نشأت غير مؤهل للتخصص والغوص في فرع مهم من فروع مهنة الصحافة. لذلك احتاج الأمر، وإن تأخر، إلى تدريب مطول لتقوية حاسة الملاحظة والانتباه إلى التفاصيل ودقائق الموقف.
***
ساعدني ثراء الماضي على تعزيز القدرة على اقتحام المستقبل، أو على الأقل انتظاره أو توقعه. انتظر منه الخير وأتوقع بعض الشر. كنت، وما أزال، مغرماً بتتبع دورات التاريخ بالنسبة للأمم، ولكن أيضاً بالنسبة للعائلات الممتدة، ما بقي منها. توصلت في مرحلة صارت بعيدة إلى ما يقترب، مع التواضع، من نظرية افتراضها الأساسي هو أن المرأة، وليست الرجل، كانت في أغلب الحالات وراء “تمدد” العائلات. كانت المرأة، الجدات والخالات والزوجات، المتغير الفاعل في اختيار زوجات لصبيان العائلة وأزواج لبناتها، وفي الغالب الأعم يقع الاختيار ضمن العائلة والعائلات الأقرب. أعتقد أن هذه الممارسة النسائية حافظت على استقرار العائلات الكبيرة الممتدة وفي الوقت نفسه كانت الوسيط في التعامل مع المشكلات العائلية العادية.
جلست، الجمعة الماضية، أراقب صغيرتنا وهي تتنقل بين الحاضرين تسترضي أمها وتداعب القريبات الأكبر سناً. تهتم بالصغيرات في العائلة لسبب مفهوم وتهتم بالكبيرات لأسباب متنوعة تنوع حاجاتها ورغباتها. أراقبها وأتساءل إن كانت هي الأخرى سوف تختار زوجاً لها شاباً من خارج العائلة والعائلات القريبة. أتساءل إن كانت سوف تخضع لمتطلبات عصرها وتنأى بنفسها عن متطلبات العائلة الكبيرة وتبدأ، كما فعلت أمها وخالاتها، رحلة النزوح خارج دوائر التكافل الأسري تلبية لدعوة متطلبات عصر مختلف.
***
أظن، آسفاً ومتحسراً، أن هذه الصغيرة ما كانت لتضيف إلى شجرة العائلة التي اختفت من دولاب أبي قبل ثمانين سنة، فهي إن قرّرت الزواج ففي الغالب أو شبه المؤكد أنها ستختار غريباً عن العائلة وربما عن الوطن. أتساءل لماذا الأسف ولماذا الحسرة، ألم أكن أنا نفسي أحد أهم عناصر توقف تمدد عائلتنا الممتدة.