“أوركسترا الشيطان” لعبد الغني طليس.. الشِعرُ رصاصاً!

"أوركسترا الشيطان، كتابان في كتاب: أنا حسن (ديوان شعر) والشعراء يتبعهم النقاد (مقاربات نقدية)"، للشاعر والناقد والناشط الثقافي والاجتماعي اللبناني عبد الغني طليس. كتابٌ صدر، مؤخراً في بيروت (منشورات زمكان، ط. ١، ٢٠٢٥).

يبدأ المؤلِّف مقدمته لهذا الكتاب، فيكتب “ليس اختراعاً أن نقرأ كتابين في كتاب واحد”، ثم يسوِّغ ذلك، فيتمنَّى أن تكون هذه التجربة “زاداً شعرياً وثقافياً لقارئ عربي بدأ يميل إلى التلوين..، وتخطف عينيه عملية الانتقال من فنٍّ إلى فنٍّ في اللحظة ذاتها” (ص.٥).

صحيح أن هذا الصنيع ليس اختراعاً، ففي البلاغة العربية أنَّ الانتقال من الكلام على موضوع إلى موضوع اَخر هو “استطراد” إن عاد المتكلم إلى الموضوع الأوَّل، وإن لم يعد فهو “خروج”، فما يفعله طليس هو “خروج” يلبِّي حاجة القارئ إلى “التلوين”، لكنَّ القارئ لم يبدأ اليوم بالميل إلى هذا الانتقال، وإنما هو يفعل ذلك منذ القديم، وقد تحدَّث البلاغيون العرب عن ذلك مطوَّلاً، وأقوال الجاحظ، في هذا الشأن، تغني شهرتها عن إعادتها.

مدلول العنوان

لكن ما هو مدلول العنوان – الدَّال: “أوركسترا الشيطان” الذي يصحُّ أن يكون عنوناً لكلٍّ من الكتابين؟ وهل للشيطان من حضور وفاعلية فيهما؟

نحاول تبيُّن الإجابة، فنقرأ، في مقدمة الكتاب: يخوض ديوان الشعر “في الحرب وأهوالها ودمها ودموعها ومستحيلاتها..” (ص.٥)، ومن يشعل هذه الحرب هو عدوُّ الإنسان، وقد جاء في القراَن الكريم: “إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين”، هذا في ما يتعلَّق بالكتاب الأوَّل، أمَّا في ما يتعلق بالكتاب الثاني، فالمعروف أنَّ للشعر شيطانه الملهم. وهذا يعني أن العنوان يجمع، كما يقول المؤلِّف، نوعين من الشياطين: أوَّلهما شيطان الحرب، وعملية مقاومته وإسكاته المعقدة، وثانيهما شيطان الشعراء، ملهمهم إبداعاتهم (ص.٦).

مسألتان للنقاش

يصف المؤلِّف الكتاب الأوَّل بأنَّه “ديوان شعر كلاسيكي..، ويبحث في ثنايا الأنا والاَخر..” (ص.٥). يثير هذا الوصف مسألتين للنقاش: أولاهما يمثِّلها هذا السؤال: هل من كلاسيكية في الشعر العربي؟ الجواب البدهي: لا، فالكلاسيكية مذهب شعري مسرحي فرنسي، له قواعده المعروفة، وليس من شعر عربي يلتزم بها، ولعلًّ المؤلِّف يقصد الشعر الموزون المقفَّى، الملتزم نظام الشطرين، ويعبَّر عنه بـ”شعر الشطرين”، تمييزاً له من “شعر التفعيلة”، و”شعر النثر”، الرائج، في هذه الأيام، وثانيتهما أنَّ الشعر لا “يبحث في ثنايا…”، ولا في أي شيئٍ اَخر، وإنَّما يرى ويكشف..

الكتاب الأوَّل

وإذ لا تتسع هذه المقالة القصيرة للكلام على الكتابين، فسوف نتحدًّث عن الكتاب الأوَّل، وهو ديوان الشعر، وعن القصيدة التي يحمل الديوان اسمها: “أنا حسن”.

يتضمن هذا الديوان عشرين قصيدة تتنوَّع موضوعاتها، من هذه الموضوعات: الحرب وأهوالها وضحاياها وتداعياتها..، والعدوُّ الذي يشنُّها..، والمقاومة، والكتابة، والشعر والعروبة: وأحوال أبنائها: مصر إن حكت، جميع محمَّد، والأنا والاَخر، وأحوال الناس: المغنُّون والحسود..، والماوراء…

 الحرب والشعر والكتابة

في قصيدةٍ عنوانها: “سأحتمي بالخطر” (ص.١١٨-١٢٣)، يهديها إلى “أدونيس”، يراقب الحرب، ويسأل عيْنَه كيف أصبحت دمية، وكيف يوغل الحزن في دمه..، وكان قد دلَّ قومه، فما سمعوا قوله، فيسأل: “هل الأرض ما عادت هي الأرض بيننا؟/ هل الناس باتوا كالحضور بمأتم؟ وإذ يرسم هذا الفضاء المعيش، لا يبقى سوى الشعر، فيقرر: “هو الشعر لم يخلق لدار سلامة/ بل الأصل أن يُعلي اكتساح المحرَّم/ أنا ذاهبٌ نحو الرصاص أصوغه/ لأهلي تباشيراً وثورة بلسم”، ولعلًّ هذا المفهوم للشعر ودوره هو الذي يفسِّر إهداء القصيدة للشاعر الكبير الذي “يعلي اكتساح المحرم”، ويتأكد هذا المفهوم في قصيدة “هي الكتابة” (ص.٢٨- ٣٤)، فنقرأ فيها: “هي الكتابة لم تُخلق لمعتكفٍ/ عن الهبوب، ولن تحظى بها يده../ وقف على منبر التاريخ منتصباً/ قدِّم سلاحك لست حرفاً تغمده../ فإنَّ من يصنع الأصنام يعبدها/ وإن من يصنع الأيام تعبده/../ ما كان للقلم الراقي تواضعه/ أن يبلغ المجد لولا من يسدده”. تلفت انتباهنا اللغة الشعرية في هذه الأبيات المقتبسة من الديوان، فالشعر كائن خُلق لأداء دور، والشاعر يصوغه من الرصاص، ليكون بشارة ثورة بلسم.

 وهذه الرؤية لطبيعة الشعر تتأكد عندما نرى الكاتب مقاوماً يقدم سلاحه، وهو الحرف يخرجه من غمده، ولا يعيده إليه كأنه السيف عندما يمتشقه الفارس، ويمضي إلى تحقيق هدفه، وهو هنا ثورة البلسم، ولا يعيده إلى غمده إلا بعد أن يحقق لقومه ما بشَّرهم به.

المنظور الشعري وأخوة يوسف

من هذا المنظور، يرى طليس إلى عالمه وقضاياه، ويسدِّد قلمه إلى من يصنع الأيام ومجدها، ففي قصيدة “ألرأي والعدس..، والشامتون بنا!” (ص.٣٥- ٤٥)، تقع مسرَّته في “الجبِّ”، ما يستحضر قصة النبي يوسف وأخوته الذين يكيدون له كيداً، ما يثير سؤالاً هو: من يكيد للشاعر؟ هل هم الشامتون بنا؟ وإن يكن الأمر كذلك، فقصة يوسف تُستعاد اليوم، يقول: “ويوسف تستعاد، اليوم، محنته/ أدهى وأشنع مقتبسا/ أهلي تقطعت الدنيا بهم سُبُلاً/ وأصبحوا لليالي خوفهم حرسا..”.

 تلفت الصورة المبتكرة للخائفين الذين يحرسون ليالي خوفهم، ويلفت “كيد” أخوتهم، الشامتين، خُرس الضمير، “سود القلوب على سود الوجوه على/ سود النفوس التي شريانها يبسا”. تكرار السواد، هنا، دالٌّ على العتمة، وفقد الحياة، المعبَّر عنه بيباس شريان النفوس. ومن يُبلى بهذا الفقد يفاخر بأطباع العبيد، “وقد حطُّوا لها، في بلاد الأرزة الأسسا..”.

إقرأ على موقع 180  سياسيو لبنان.. أيليقُ بكم حمل المقاليد والأمانات؟

 نحن وهم

وإذ يفعلون ذلك في لبنان، فإنَّا “نبوس منه تراباً طاب رائحةً/ ونسمع الاَهة الغراء..، إن همسا”، وهذا إنًّما يعود إلى انتماء عقدي تاريخي: “والحرب، ما الحرب؟ لو خفنا لها ثمناً/ حسين ما قام، والعباس ما عبسا/ هنا الجنوب، فسبِّح باسم خالقه/ واكتب على بابه نشتاق أندلسا”.

أنا حسنٌ.. عظمة القائد

في القصيدة التي يحمل الديوان اسمها: “أنا حسن” (ص.٩- ٢٢)، وحسن، هنا، هو سماحة السيد الشهيد الأسمى، السيد حسن نصرالله، نلتقي القائد الذي يمثل ذلك الانتماء العقدي التاريخي، فهو القائل: “أنا حسنٌ عند الحسين وصيَّتي/ حياةً وموتاً رائياً، لا مرائيا/ ربيت، وكان القهر يعصف صاحياً/ فكنت عليه بين من نام.. صاحيا..”.

“أنا حسن”، الاسم المجرَّد، دالٌّ على عظمة القائد وانتمائه وفاعليته، لا يحتاج إلى ألقاب..، وصيته عند الحسين، وهو راءٍ، صاحٍ، في الوقت الذي ينام فيه الاَخرون، هو صاحٍ للقهر الصاحي، فالتكرار يشكل ثنائية صراع بين القائد المخلِّص والقهر الذي يرمز لكل ما يعوِّق سعي الإنسان إلى أن يعيش كما خلقه الله، سبحانه وتعالى، خليفة له.

القصيدة وخصائصها

هذه القصيدة طويلة، يقرب عدد أبياتها من المئة بيت، محكمة البناء، متينة السبك، كأنَّها إحدى المعلَّقات، تبدأ بصيغةٍ سرديَّة: “مضى مثلما تمضي الأساطير خافيا..”، ثم يتنحَّى الراوي، ويترك للقائد “الأسطوري” أن يقول: “وقال: أنا ما كنت إلا أمانيا..”.

نُظمت هذه القصيدة على البحر الطويل، وهذا البحر، كما هو معروف، هو البحر الأقدر على نظم حالة الوجد والتأمُّل، التي يمليها وجيب القلب، وعلى تجسيد إيقاع حركة هذه الحالة، فنفسه طويل، ويتسع للأساليب المتنوعة: خبر وإنشاء، وتعجب، واستفهام، ونداء..، كما نرى، في قصيدة ابن الدمينة، على سبيل المثال، ومطلعها: “ألا، يا صَبا نجدٍ متى هجت من نجد/ وقد زادني مسراك وجداً على وجد”.

ومن يقرأ الشعر العربي القديم يتبيَّن أن أكثر قصائد الرثاء فيه، والتي نظمها الشعراء العرب الكبار نُظمت على هذا البحر، ومن هذه القصائد قصائد الخنساء، في رثاء أخيها صخر، والمتنبي في رثاء جدَّته، وابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط، ومالك ابن الريب في رثاء نفسه.

والملاحظ أنًّ قافية هذه القصيدة: “ا ِيا”، هي قافية قصيدة ابن الريب نفسها، ومطلعها: “ألا ليت شعري، هل أبيتنَّ ليلة/ بوادي الغضا، أزجي القلاص النواجيا”، وهذه القافية مُطْلَقة رويُّها، صوت لين، الياء المتحركة، ووصلها صوت مدّ، الألف الممدودة، وتأسيسها صوت مدّ، الألف الممدودة أيضاً، ما يشكل قافية/ إيقاعاً تمثل دالاً ينطق بمدلول هو نداء عالٍ متعدد الأغراض متنوِّعها.

 قد يشير هذا إلى أنَّ هذه القصيدة هي قصيدة رثاء، ورثاء النفس بالتحديد، لكنَّ قراءتها تفيد أنَّ حالة الفقد، أي فقد القائد الفريد في التاريخ هي التي تمليها، لكنها ليست رثاء النفس، وإن كان الشاعر قد أوكل للقائد نفسه أن ينطق بها، فالقصيدة، ذات البنية السردية، هي كشف لعدة أمور، منها: هوية القائد وشخصيته ومشروعه وعلاقته بأمته ووطنه ومفاهيمه، ورؤيته إلى العالم وقضاياه..

 القائد الفريد.. وفاعليَّة النُّبوَّة

ما كان هذا القائد الفريد إلا أمانيا، نفخ بها روحه فصارت حقيقة. السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل يحيل هذا “النفخ من الروح”، الذي يحوِّل الأماني إلى حقيقة، إلى معجزة خَلْق يحقِّقها الأنبياء؟ نكتفي بالسؤال، ونقرأ أنَّه حقَّق هذا لأنَّه عرف مكان السر في قبضة الفتى، ولأنَّه صوَّب عينيه نحو الشرِّ، وكان نور الأهل له كافيا، ليمشي على الجمر من أجل أمَّته.

 سؤالٌ اَخر يطرح نفسه هنا: هل في هذا المشي على الجمر..، المذكِّر بمشيٍ على الماء معروف، فاعليَّة نبوَّة؟ نجيب: نعم؛ إذ إنَّه يفضي إلى خصبٍ وولادات، فيخضرُّ الزمان، ويمر الربيع مباهيا. وتتكامل ملامح هذه الفاعليَّة؛ إذ يقول القائد: “تركت لكم من لن تضلُّوا بهديهم/ ويرفعهم كفُّ الإله شواديا”، ما يُذكِّر بقول رسول الله: “تركت فيكم الثقلين..”. ويتواصل تكامل هذه الفاعلية؛ إذ يسرج القائد، من ولده، في قبره، شمعة تضيء دروب المقاومين، فهل تُذكِّر هذه العلاقة بين الأب والابن، بقصة نبيَّي الله إبراهيم وإسماعيل، فيكون الصنيع هو المجد، وهذه الحال من المجد الذي تصنعه تلك الفاعلية تجعل الراعي في جرود الأمة يقول: لا أخاف، فمعي عصا موسى ودعائيا..

نوال الحظِّ في الدارين

يكمل القائد كشفه، وينتهي إلى خطاب أمته بالقول: “أنا حسنٌ حظِّي من الأرض نلته/ فلا تحملوا غير الرضا في وداعيا”، ومن ينل، في الأرض، حظَّه، ويحارب بالحقِّ عبداناً وأفاعيا، ويبرئ ذمته، ينل في السماء حظه كذلك، وهو الأمل المرجو لمن يمسك بالإيمان فجراً نهائيا.

وفي الختام، نسأل: ألا يبدو لنا أنَّ هذا الفجر النهائي الذي يصنعه القائد الفريد وأبناء أمَّته، لا مكان فيه لا للشيطان الأكبر، ولا لأعوانه وإبليسهم؟

Print Friendly, PDF & Email
عبد المجيد زراقط

كاتب وباحث وأديب وروائي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  سياسيو لبنان.. أيليقُ بكم حمل المقاليد والأمانات؟