الاعتقالات السياسية في فيينا تفضح الجاليات العربية وحلفائها الأوروبيين

سأكتب هذه المرّة بأسلوبٍ إعلامي تفرضه الضرورات القانونية، لكنّ بداية لا بد من توضيح الآتي: الخبر ليس عن قمع أجهزة الأمن الأوروبية للتظاهرات المؤيدة لفلسطين؛ فهذه قصة باتت مألوفة، بل أود لفت الأنظار إلى نواح أخرى غير مألوفة.

ما يجري اليوم في الساحة الأوروبية هو أعمق وأكثر خطورة: قصة تواطؤٍ ممنهج بين قيادات ـ بعضها معلن وبعضها يعمل في الظل ـ داخل الحراك الداعم لفلسطين، وبين الأجهزة الأمنية الأوروبية وممارساتها[1].

لقد شيّد إعلامُنا فردوسًا مُضلِّلًا لسردية التضامن الإنساني، غافلًا، وربما متغافلًا، عن بنية هذا “الحراك” الذي لا ينتمي إلى مواجهة الظلم، بل إلى منظومات ردع داخلي تعيد إنتاج الهيمنة بدل تحدّيها.

كما أنّ نشطاء أوروبيين ودوليين يرفعون لواء “الدفاع عن حقوق الإنسان” حين يكون الضحايا من يوافقونهم خطًا وموقفًا، لكنهم يخفون، أو يبرّرون، وقائع القمع والتمييز حين تطال أفرادًا وجماعات لا تشاركهم الاتجاه السياسي ذاته.

ولا تقلّ الجاليات والمنظمات الفلسطينية خطورةً هنا، إذ تتنازل عن واجبها الأخلاقي في الدفاع عن أحد أفرادها، وتمنح الشرعية لسلب حرية معتقل ظلمًا حفاظًا على وجاهتها ومكانتها لدى الحكومات الأوروبية.

هذه ليست قصة قمع سلطة فحسب، بل قصة خيانة بنيوية داخل ظاهرة التضامن في المدن الأوروبية.

إنّها قصة المعتقل (أحمد ب.).

التعبير عندما يتحول إلى تهديد أمني!

شهدت العاصمة النمساوية، فيينا، حدثًا سياسيًا بالغ الدلالة، تمثّل في اعتقال أحد المشاركين في مسيرة داعمة لفلسطين نظّمتها قيادة الجالية الفلسطينية و”أصدقاؤها من المجموعات النمساوية”. وقد جرى عزل المعتقل في زنزانة انفرادية داخل جناح نفسي في مركز احتجاز، ومنعه كليًا من التواصل مع العالم الخارجي. وبعد أيام من اعتقاله، دُهم منزله وصودرت مقتنياته الشخصية.

وبرغم خطورة ما يتعرض له في السجن حتى الآن، امتنع منظمو المسيرة عن التدخل أو اتخاذ أي خطوة قانونية أو إعلامية للإفراج عنه. كما لم تلتزم السلطات النمساوية بالمعايير القانونية المتعلقة بالاعتقال والاحتجاز، في وقت تردّد فيه أكثر من أربعة محامين عن تبني قضيته، برغم بساطتها من الناحية الإجرائية. أما المحامي الذي قبل لاحقًا تولي الملف، فقد فشل في رفع شكوى ضد السلطات بتهمة سوء السلوك القانوني. إنها قصة تخلٍّ معلن، تعكس تفاقم منطق الضبط الأمني للمشاركة السياسية.

لا تُقرأ هذه الواقعة بوصفها حادثة فردية، بل بوصفها حلقة في سياسة إعادة تعريف الحراك السياسي الفلسطيني داخل الفضاء الأوروبي باعتباره تهديدًا أمنيًا[2] أو اضطرابًا نفسيًا، في سياق تتعاظم فيه آليات التطبيع الأمني والثقافي من جديد مع إسرائيل داخل أوروبا، بعد تطبيع الحكومات الأوروبية مرحليًا أمام الهبّات الشعبية المتقطعة والمضطربة التي عمت الشوارع الأوروبية تنديدًا بحرب الإبادة في قطاع غزة وذلك في سياق سياسة استيعاب غضب الرأي العام.

من الأمن إلى الطب النفسي.. إعادة تعريف المشاركة السياسية

اعتقال هذا المتظاهر، فعلًا ودوافع، يضعه قانونيًا في خانة “الاعتقال السياسي”، أي أنّه “سجين سياسي”. لكن اللغز هنا أنّ السلطات النمساوية لم تعد منذ القرن الماضي تعترف بهذه التسمية أو تستخدمها رسميًا، وهو ما يشكل انتزاعًا تاريخيًا لوضعية الفاعل السياسي وحرمانه من الإطار القانوني والرمزي الذي يكفل حماية حقوقه الأساسية. ففي القانون النمساوي المعاصر، لا يوجد تصنيف قانوني مستقل لـ”السجين السياسي” أو “المحتجز السياسي”. إذ يُطبق الإطار القانوني العام لسلب الحرية بغض النظر عن الدوافع، ويشمل: الاعتقال والاحتجاز والحبس الاحتياطي قبل المحاكمة والأحكام القضائية وفق قانون العقوبات (StGB) وقانون الإجراءات الجزائية (StPO)، دون أي اعتراف رسمي بمصطلح “سجين سياسي”، ما يحرم الفاعل السياسي من الحماية القانونية والرمزية التي يوفرها هذا التصنيف.

تكشف عملية اعتقال المتظاهر الفلسطيني (يتمتع بصفة لاجئ في النمسا) وإيداعه قسرًا في قسم نفسي عن تحوّل نوعي في تمرحلية تكتيكات الدولة، حيث يجري إخراج الفعل السياسي من الحقل القانوني إلى الحقل الأمني أو الطبي أو القانوني التقني. هذا التحويل يُمثّل مسارًا لتجريم الاحتجاج من دون الحاجة إلى محاكمة سياسية علنية قد تكشف مشروعيته. وبدلًا من مناقشة دوافع الفعل الاحتجاجي، تُعاد صياغته داخل خطاب “الاختلال النفسي”، ما يتيح تطبيق عقوبات ردعية دون مساءلة أو شفافية. هنا يصبح المجال الطبي أداة ضبط وتضليل، لا حماية.

ولعل المعضلة السياسية المرتبطة بهذا السلوك التعسفي تكمن في أنّه يُرسّخ سابقة للاحتجاز التعسفي (willkürliche Inhaftierung) للفاعلين السياسيين في الساحة.

 المنابر الاعلامية كمنتج للشرعية الثقافية

المعتقل كان قد استهجن وجود مراسل لهيئة الإذاعة والتلفزيون النمساوية (أو أر إف) في المظاهرة، وهي منبر اعلامي قومي معروف بتحريف السردية المناصرة لفلسطين ووسمها بالتطرف والإرهاب الاسلامي. والمطلوب معرفته لفهم فعل المعتقل (أحمد ب.) هو أن الإعلام الأوروبي لم يعد مجرد وسيط، بل أصبح فاعلًا سياسيًا في صياغة صورة إسرائيل داخل المجال الثقافي. تمثّل هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساوية (ORF) نموذجًا لهذا الدور، عبر الدفع باتجاه إعادة إدماج إسرائيل في الفضاء الثقافي الأوروبي، من خلال دعم مشاركتها في مسابقة “يوروفيجين”، برغم التقارير الحقوقية الدولية حول جرائم الإبادة.

وقد تجسّد هذا المسار الرمزي عندما التقت رئاسة (ORF) بمسؤولين إسرائيليين شارك بعضهم في العمليات العسكرية الجارية، في لحظة هدنة مؤقتة قُتل خلالها أكثر من 400 فلسطيني في غزة ولبنان والضفة الغربية. لا تمثل هذه اللقاءات انفتاحًا ثقافيًا عابرًا، بل إنتاجًا لشرعية أخلاقية مسبقة تؤدي وظيفة الحصانة الرمزية، حيث يُعاد تقديم الجهة المتهمة بجرائم دولية باعتبارها فاعلًا ثقافيًا “طبيعيًا”، في عملية تسبق أي مساءلة جنائية لاحقة.

في هذا السياق، لا يكون الاحتجاج ضد الوجود الإعلامي اعتراضًا على “ثقافة وحضارة عاصمة أوروبية”، بل على مأسسة المصالحة الرمزية مع قوى متهمة دوليًا بارتكاب جرائم حرب. تتحوّل الثقافة إلى آلية “غفران مسبق”، تُمنَح قبل انتهاء مسارات التقاضي، وتُحوّل التواطؤ إلى تبادل فنيّ، وتُختزل الجريمة في هوامش تُغطّي سردية التسامح الأوروبي. بذلك، يصبح الاندماج الثقافي جزءًا من منظومة إعادة إنتاج الشرعية الأخلاقية للمستعمر.

إقرأ على موقع 180  روسيا الكبرى.. أمنها الإقليمي أو الأوروبي؟

أزمة العمل السياسي الفلسطيني في أوروبا

يُظهر تقاعس بعض المؤسسات الثقافية والسياسية والتوعوية والممثليات في فيينا عن متابعة قضية المعتقل، قصورًا بنيويًا في أداء الجاليات الفلسطينية والعربية في أوروبا. فبدلًا من أن تتصدّى هذه الهيئات للدفاع الحقوقي والسياسي، فضّلت التكيّف مع منطق الضبط الأمني للحفاظ على حضورها داخل منظومات المجتمع المدني الليبرالي، ما أنتج نمطًا من العمل الوظيفي الذي يحمي رمزية النخب على حساب الفاعلين السياسيين، لا بل تذهب بعيداً لخلق نُخبٍ قاعديةٍ تُشرعن في أدائها عملية إقصاء أنماط فعل سياسية مُعينة وهوياتٍ سياسية بعينها مثال على ذلك مُتظاهرٌ فلسطيني – لبناني وطالب لجوء، لا ينتمي إلى زُمر التنظيم الليبرالية أو تشكيلات المُجتمع المدني التخصصية، ما جعله فريسةً سهلة للتعسفية الشرطية والإهمال الناشطيّ في الوقت عينه.

ولا تُعدّ هذه الواقعة استثناءً، بل تتكرّر ضمن سياق أوسع يستهدف فلسطينيين في الفضاء الأوروبي. ومن بين أبرز الأمثلة قضية عماد عمران، وهو فلسطيني من مخيمات الشتات في لبنان، انخرط في صفوف المقاومة في سبعينيات القرن الماضي. وقد جرى اعتقاله وتقديمه أمام القضاء بوصفه “إرهابيًا”، برغم أن أفعاله تندرج ـ وفق القانون الدولي ووفقًا للقرارين (1514) و(2625) الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ـ ضمن حق الشعوب الخاضعة للاستعمار في مقاومته بوصفه حقًا مشروعًا وغير قابل للمصادرة.

لقد خضع عمران لمحاكمة مُسَيَّسة غلّبت المقاربة الأمنية على الأساس القانوني الذي يكفل شرعية الكفاح ضد الاحتلال. ولا يرِد ذكر قضيته هنا بهدف تقديم سيرة تفصيلية عنه أو عن نشاطه، فليس هذا مقامه، بل للإشارة إلى واقع بالغ الدلالة: إذ لم تتكفّل أي جهة سياسية فلسطينية أو عربية في أوروبا بمهمة الدفاع عنه، كما لم تُعمل على تحويل قضيته إلى سردية مُتداولة بين الأجيال الشابة، كما حدث مثلًا مع حالة المعتقل اللبناني جورج عبدالله الذي أطلق سراحه من السجون الفرنسية مؤخرًا.

مكث عماد عمران في السجن إلى أن توفّي خلال العدوان على غزة، إثر تدهور مفاجئ في حالته الصحية. وقد دُفن في مقبرة فيينا المركزية، في جناحها المطلّ على المطار، بعد أن رفضت السلطات الدينية الإسلامية في المدينة دفنه في المقبرة الإسلامية. لم يحضر مراسم دفنه سوى باحثة نمساوية معروفة باستغلالها لقضايا المعتقلين، وستة فلسطينيين فقط، ليرحل بصمتٍ مجحف بحق تضحياته، ودون أن تحظى قضيته بالحد الأدنى من التضامن الذي يليق بمعتقل سياسي فلسطيني في المنفى الأوروبي.

أما مصطفى عياش، وهو صحفي من غزة استُهدف منزله بقصف جيش الاحتلال هذا العام، فقد اضطر إلى اللجوء إلى النمسا من ثم هولندا، قبل أن يتعرض لاعتقال إداري ترافق مع إجراءات تخدير قسرية داخل السجن، ثم جرى تسليمه إلى النمسا مُجدداً في مسار قانوني ملتبس، يُعرّضه اليوم لخطر الترحيل إلى دولة الاحتلال، وما قد ينتج عنه من تهديد مباشر لسلامته، في سياق يُظهر إمكانية تسخير التعاون القضائي الأوروبي لتقويض حماية اللاجئ والصحفي الفلسطيني عوض تعزيزها، في فترةٍ زمنية شرعنت فيها إسرائيل عملية إعدام الأسرى الفلسطينيين.

 نحو تفكيك البُنى وإعادة تنظيم الفعل السياسي

قبل اعتقال (أحمد ب.)، أصدرت مجموعة المنظمات الفلسطينية الأوروبية ورقة[3] تناولت مهام المجموعة خلال سنتين من العدوان على فلسطين، خلصت إلى أنّه من واجب هذه المجموعات حتى تكون سندًا للمقاومة، الحفاظ على موقعهم في أوروبا من خلال تعزيز فعاليتها القانونية والعمل ضمن منظمات المجتمع المدني الأوروبية، وهو ما اعتبروه وسيلة لمعالجة ما سمّوه بـ”التضامن المعياري الأبيض” المفروض عليهم.

المضحك أنّهم، بالرغم من نجاحهم في فضح عبثية ثقافة التضامن الفارغة التي اجتاحت الفضاء الأوروبي، والتي عملت كمُسكّن أخلاقي للشعوب يُبرّر لهم عجزهم عن اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة، أصرّ كُتّاب البيان على موضعة أنفسهم وسلامتهم الوظيفية والموقعية كحلٍ لما سبق من قصور. وهذا التحليل، في جوهره، يكاد يكون نسجًا من مسرح هزلي، يعكس التناقض بين الوعي النقدي وبين الممارسة العملية.

إن إعادة تعريف الفعل السياسي الفلسطيني في أوروبا يتطلب مساءلة البُنى المؤسسية التي تحوّلت إلى واجهات رمزية، تتراكم داخلها المواقع والمحسوبيات والزبائنية. المسار المنطقي هنا ليس في الاستمرار بتدوير الوظائف، بل في تفكيك منظومات العمل التي تراكم حضورًا شكليًا دون قدرة على الحماية أو الضغط، وإعادة بنائها على أساس مقاوم، أخلاقي، عابر للتسويات الشخصية وللتموضع النخبوي داخل الدولة المضيفة.

إن حادثة الاعتقال في فيينا ليست طارئة، بل تعبير عن تغيير في أدوات إدارة الحضور الفلسطيني داخل أوروبا، من المجال الأمني إلى المجال النفسي والثقافي. يتطلّب هذا التحوّل قراءة تفكك بنى التمثيل، وآليات إنتاج الشرعية، ودور الثقافة والإعلام في صناعة الحصانة الأخلاقية للإبادة.

وعليه، يصبح الدفاع عن حرية المعتقل دفاعًا عن الحق في تعريف الاحتجاج الفلسطيني بوصفه الحد الأدنى من الفعل السياسي الواجب تطويره وشحذه وزيادة ضراوته في زمن الإبادة المعولمة كي يتحول من فعل تضامن إلى فعل مقاومةٍ يكون امتداداً للمركز المقاوم في الوطن المحتل.

أما خذلان الأقربين، فيجعل من السوابق القانونية والإجراءات القمعية أعرافًا تُطبع في العقل التنظيمي والقضائي والشعبي. نحن، بهذا الصمت والتواطؤ، نحفر نهايتنا بأيدينا هنا في هذه المنافي.

[1] https://www.instagram.com/spc_austria/p/DR40174DDtx/

[2] https://apnews.com/article/austria-hamas-weapons-cache-arrest-british-citizen-d1d271d216253cc6f0506991e62713bf

[3] https://hadfnews.ps/post/135420/%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A4%D9%86%D8%A7-%D9%86%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85-%D9%87%D9%88-%D9%86%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7

Print Friendly, PDF & Email
مايا نشأت زبداوي

باحثة فلسطينية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مجتمعاتنا مهزومة أمام حُكّامها قبل.. أعدائها