استحضار التاريخ.. وسيلة حرية أم تقييد؟

سجّل فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" بروز فراغ في الفكر الاقتصادي-الاجتماعي، وكانت محطّته البارزة هي انهيار الاتحاد السوفياتي. لقد قال بنهاية الصراع الإيديولوجي بين الأفكار الاشتراكيّة/الشيوعيّة والأخرى الليبرالية/الرأسمالية. لكنّ مقولته عن الانتصار النهائي لليبرالية الديموقراطيّة حول العالم لم تتحقّق. إذ أفسح تراجع الإيديولوجيات العالميّة، أي الشموليّة لكلّ المجتمعات البشريّة، المجال لبروز أفكار الهويّات الخاصّة كي تملأ تقريباً وحدها الفراغ.

لم ينتهِ التاريخ، بل عاد بقوّة كمرجعيّة للتحوّل من سؤال “ما الذي يجب فعله”؟ إلى “من نحن”؟. ما يتطلّب روايةً من الماضي تبرّر أصل وتاريخ مشترك، وعصر ذهبيّ مجيد أسّس لـ”حضارة” رمزيّة. وقد خلق هذا التحوّل أدوات سهلة للسياسيين والمفكرين لحشد الدعم الشعبيّ، والأخذ إلى مواجهة بين “نحن” و”هم”، أي أولئك الآخرون، استناداً إلى روايات انتقائيّة من التاريخ تلعب على رواسب ثقافيّة ودينيّة ومذهبيّة. وقد استغلّ صامويل هنتنغتون هذه العودة كي يتنبأ بـ”صراع حضارات”، بناءً على خطوط صدع تاريخيّة ودينيّة لا يُمكِن رأبها.

هذا المسار قاد إلى انهيار الدول المتعدّدة الأعراق والمذاهب، كيوغوسلافيا السابقة، واستحضار كلّ طرف في حربه الأهليّة رواياتٍ قديمة مقابل البناء المشترك الذي أعقب الحرب العالميّة الثانية. وقد لعبت دولٌ خارجيّة على تعزيز شرخ الهويّات. كذلك ظهرت ردود شعبيّة عنيفة على الليبرالية (وخصوصاً تلك الجديدة المفرطة) وعلى العولمة، محاولةً اللجوء إلى هويّة مميّزة ضدّ النخبة العالميّة المهيمنة من ناحية، وضد المهاجرين أو اللاجئين من ناحيةٍ أخرى. أكبر مثال على ذلك الولايات المتحدة ذاتها وشعار الرئيس دونالد ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى” (MAGA). عودةٌ إلى تاريخ ماضٍ مثاليّ مفترَض أفضل وأكثر قوّة وتماسكاً، يُعطي شعوراً بالاستقرار والسيطرة، وحملات على مهاجرين في بلدٍ تأسّس تاريخه على استقبال المهاجرين. وقد ساعد الانترنت وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي على تكوين “قبائل رقميّة” تدعم هذه التحوّلات.

هكذا أضحت أهمّ دولة كانت تنادي بعولمة الاقتصاد هي التي تفرض رسوماً جمركيّة باهظة على الجميع. وأضحت، هي التي كانت عاملاً أساسيّاً في تأسيس الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة، أكبر مناوئ لها ومستهزىء بمبادئها. هكذا أصبح القرن الواحد والعشرون ساحة أصبحت فيها الروايات والذكريات والهويات التاريخية المتضاربة هي العملة الأساسية الجديدة للصراعات السياسية وبين الدول. ولم تعُد المعركة الاجتماعيّة والفكريّة تدور حول رؤى متضاربة لصناعة المستقبل، ولكن حول السيطرة على الماضي لشرعنة السلطة في الحاضر وتوجّهات هيمنتها في المستقبل.

الصهيونية.. والعروبة

الصهيونيّة كانت سبّاقة في هذه التحوّلات. لقد بدأتها منذ القرن التاسع عشر، واستخدمت روايات دينيّة لتبرير استعمار استيطاني في أرضٍ “موعودة” منذ قِدَم التاريخ. لكن مع التغاضي عن أنّ وعد سفر التكوين كان أصلاً للنبي إبراهيم ولجميع نسله من بعده، بمن فيهم إسماعيل، وبعيداً عن التفسيرات الروحانيّة أو التاريخيّة للنصّ الدينيّ. لكنّ الإشكاليّة بقيت في بداية مشروع الدولة العبريّة بين تخصيص الوعد لأرض فلسطين أو لجزء منها وبين نصّ الوعد الحرفي.. من الفرات إلى النيل. إلاّ أنّ نصّاً آخر تمّ إبرازه بعد احتلال الجولان السوريّ، ولتبرير ضمّه إلى الدولة العبريّة. نصٌّ عن أرض “باشان”، التي انتصر النبي موسى وقومه على ملكها عوج، ثمّ وزّعها على أسباط الراويين والجاديين ونصف سبط منسّى. وهنا أيضاً تبرز إشكاليّة أنّ أرض “باشان” لا تعني الجولان وحده بل سهول حوران (دون حقّاً جبل حوران، أي جبل العرب اليوم… إذ أنّ جبل “باشان” هو جبل الشيخ الحالي)، أرضُ خصوبة ووفرة تنتج الحنطة والعنب وتنتشر فيها المراعي. كان سكّانها عمالقة واجهوا العبريين بشراسة. رواية تعود للألفيّة الثانية قبل الميلاد، كُتِبَت خلال الألفيّة الأولى، وتُستخَدم سياسيّاً في الألفيّة الثالثة بعد الميلاد (!).

في المقابل، استند ظهور فكر العروبة إلى مرجعيّات تاريخيّة، بما فيها ما تسمّى “الجاهليّة” وشعرها، وبخاصّةً الخلافة الأمويّة. إلاّ أنّها شكّلت أساساً فكرةً تحرريّة لبلادٍ ذات هويّات متعدّدة تمّ استعمارها وتقسيمها. هكذا لم يكُن للجزائر، آخر المستعمرات، أن تتحرّر لولا مصر وسوريا وتونس. لكنّها لم تكُن حقّاً “ذات رسالة خالدة”، كما يقول شعار حزب البعث، وفشلت جميع محاولات إيجاد صيغ تعاون حتّى بين الدول التي تضع “العربيّة” في تسميتها، وحتّى على مستوى ما قامت به أوروبا. هُزِمَت “العروبة” حقّاً مع “نكسة” 1967، وبرزت مع هزيمتها مشاريع هويّات أخرى إثنيّة ومذهبيّة. ومنذ “الثورة” الإيرانيّة عام 1979، تمّ استحضار خلافٌ سياسيّ بين سنّةٍ وشيعة يعود إلى أكثر من 1300 سنة كي يبرِّر صراعاً حديثاً طغى فعليّاً على قضيّة فلسطين ومحوريّتها بالنسبة لأيّ فكرٍ عربيّ أو حتّى إسلاميّ.

المرجعيات التاريخية

في هذا السياق، تمّ إبراز العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان – المستمرّ إلى اليوم – على أنّه هزيمة للمحور الشيعيّ. وكأنّ شيعة لبنان وحدهم هم المعنيّون بمشروع الهيمنة الإسرائيليّة على المنطقة بمجملها الذي أطلقه بنيامين نتنياهو منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وتمّ إبراز سقوط النظام البائد في سوريا على أنّه انتصار.. “أمويّ” (!). استعادة لمظلوميّة “قميص عثمان” التاريخيّة التي كانت قد استُخدمت سياسيّاً لتبرير انتصار فريقٌ من أصحاب الرسول محمّد (صلعم) على فريقٍ آخر، مع التغاضي عمّا يقوله التاريخ الإسلاميّ والعربيّ عن طبيعة الخلافة الأمويّة ونهجها الفكريّ والدينيّ وعلاقتها مع الأقوام والهويّات الأخرى في زمنها. استعادة للخلافة الأمويّة في حين تهدّد إسرائيل مباشرةً نوى وجابيتها (تلّ الجابية، أحد أشهر أبواب دمشق)، عاصمة معاوية بن أبي سفيان الأولى.

إقرأ على موقع 180  نبش التاريخ.. ونشر الأساطير!

في زمن الفراغ الفكريّ وهيمنة مقولات “من نحن”؟ لا يُمكِن بناء دول قانون تعتمد حريّة الاعتقاد والرأي.. والهويّة، على سرديّة تاريخيّة يتمّ إخراجها من سياقها، بل على مبادئ حقوق الإنسان العالميّة والمواطنة المتساوية ضمن الدول. ولا معنى لعلاقات مستدامة بين دولٍ قائمة على أساسٍ تاريخيّ يتمّ أيضاً إخراجه من سياقه، كالسلام “الإبراهيمي” الذي يُبعِد فكرة المواطنة المتساوية على أرض فلسطين التاريخيّة والدولة القائمة عليها.

في المقابل، يمكن أن تشكّل المرجعيّات التاريخيّة أساساً لإحياء تراث وثقافة أكثر انفتاحاً وثراءً من تلك المعتمدة اليوم. هكذا يُمكِن إبراز مدينة رفح في غزّة كمكان زواج كليوباترا الأولى (المدعوة “السوريّة”)، ابنة الملك السلوقي، وريث الاسكندر الأكبر، على فرعون مصر البطلمي، الوريث الآخر، لإيقاف الحروب الطويلة بين الورثة، كرمزٍ للعلاقة التاريخيّة الراسخة بين بلاد الشام ومصر. ويُمكِن إبراز العلاقة بين البتراء النبطيّة وقفط coptos في محافظة قنا المصريّة في السياق ذاته.

وفي سوريا، يُمكِن إبراز كيف شكّلت أسرة ملوك-كهنة من حمص والرستن أسرة السويريّة الأمبراطوريّة الرومانية، التي ما زال قوس نصرها شامخاً في ما بقي من آثار روما اليوم. وكيف أنّ قرقلّة، ابن جوليا دومنا الحمصيّة، كان هو الذي أصدر قانوناً جعل من كلّ قاطني الامبراطوريّة حينها مواطنين متساويين (عدا العبيد) وكيف أنشأ (أو ربّما أبوه) مدرسة القانون الشهيرة في بيروت، “أمّ الشرائع”. هذا عدا آثار حمّاماته الشهيرة في روما.

كما يُمكِن استذكار تاريخ عماد الدين أبو الفداء، الأيوبيّ الكرديّ، الذي منحه الناصر صلاح الدين لقب ملك حماة، والذي حافظ على حكمه فيها قرناً من الزمان بعد انتصار المماليك على الأيوبيّين في مصر ودمشق. وذلك بفضل حكمته وثقافته وعلومه -في الدين والتاريخ والجغرافيا والفلك والأدب، وبفضل انفتاحه على مذاهب عصره. هكذا حتّى استحقّ أن يُسمّي علماء فلك أوروبيّون جبلاً في القمر… باسمه.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  جورجيا.. تواجه خطر الحرب الأهلية!