

الرواية الواحدة ليست مجرّد قصةً تُروى، بل هي فعلٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ يختزل التعدّد ويحوّله إلى أحاديّة، حيث يتمّ إقصاء الأصوات الأخرى أو تهميشها. وفي ظلّ العولمة وهيمنة الإعلام، تزداد خطورة هذه الظاهرة، إذ قد تتحوّل روايةٌ واحدةٌ إلى الصورة المهيمنة عالمياً عن شعبٍ أو أمّةٍ بأكملها. يهدف هذا النصّ إلى تحليل خطر الرواية الواحدة من زوايا متعددة: علاقتها بالهيمنة، تجلّياتها في الأدب والإعلام، أثرها على الهوية والتمثيل، وأهمية تجاوزها نحو عدالةٍ سرديةٍ تعترف بتعدّد الأصوات والتجارب الإنسانية.
أداة للهيمنة
يتّفق العديدُ من المفكّرين، في دراسات ما بعد الاستعمار، على أن السّرد ليس محايداً، بل هو وسيلةٌ للسّلطة. يوضح إدوارد سعيد (1978) في كتابه “الاستشراق” كيف أنّ الغرب أنتج “روايةً” عن الشّرق جعلت منه فضاءً غريباً، جامداً، ولا عقلانياً، بما يخدم مصالح الهيمنة السياسيّة والاستعماريّة. وبالمثل، عندما تُخْتَزَلُ إفريقيا في رواية “الجوع والحروب”، فإنّ هذه السرديّة ليست مجرّد وصفٍ ناقصٍ، بل خطابٌ يُشَرْعِنُ التدخلات الاقتصاديّة والسياسيّة بدعوى “الإنقاذ”.
من هنا، فإنّ خطر الرواية الواحدة يكمن في كونها أداة سلطة؛ فهي لا تنشأ فقط من جهلٍ أو تبسيط، بل من منظومةٍ معرفيّةٍ مرتبطةٍ بالقوة. غاياتري سبيفاك (1988) طرحت السؤال الاستفزازيّ: “هل يمكن للمقموع أن يتكلم”؟، مشيرةً إلى أنّ الهويّات المهمّشة غالباً ما يتمّ التحدّث عنها بدلاً من أن تُسْمَع أصواتها الحقيقيّة.
الأدب والإعلام
يحملُ الأدبُ والإعلامُ دوراً مركزياً في تشكيل الروايات عن الآخر. تذكر أديتشي (2009) أنها عندما قرأت فقط الأدب البريطانيّ والأميركيّ، اعتقدت أن الأدب لا يمكن أن يكون عن أشخاصٍ يشبهونها. هذه التجربة الشخصية تكشف أن الرواية الواحدة قد تؤدّي إلى إقصاء الذات، حيث يشعر الفرد أن قصته غير جديرةٍ بأن تُرْوى.
عندما تُخْتَزَلُ إفريقيا في رواية “الجوع والحروب”، فإنّ هذه السرديّة ليست مجرّد وصفٍ ناقصٍ، بل خطابٌ يُشَرْعِنُ التدخلات الاقتصاديّة والسياسيّة بدعوى “الإنقاذ”
وفي الإعلام المعاصر، نجد صوراً متكرّرة للاجئين تُظْهِرُهُم فقط كضحايا أو عبءٍ على المجتمعات المضيفة، في حين تُهمّش قصص نجاحهم أو إسهاماتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وفقاً لستيوارت هول (1997)، فإن التمثيل الإعلاميّ ليس انعكاساً للواقع بل هو عملية إنتاجٍ للمعنى، حيث تُحَدِّد الصور السائدة كيفية فهمنا للآخر.
وبذلك، تصبح الرواية الواحدة آليةً لإعادة إنتاج الصور النمطية. فالمهاجر يُرى باعتباره تهديداً أمنياً، والمرأة العربية تُخْتَزَل في صورة “المقهورة”، والمسلم يُصَوَّر غالباً كـ”إرهابيٍّ” أو كائنٍ متديّنٍ بشكلٍ متطرّف. هذه الروايات لا تنفي وجود بعض الحقائق الجزئية، لكنها تُخْفي التعدّد والتعقيد الذي يُشكّل الواقع.
الهوية والعلاقات الإنسانية
تكمنُ الخطورةُ الكُبرى في أنّ الرواية الواحدة لا تُشَوِّه صورة الآخر فقط، بل تؤثّر على كيفية نظر الأفراد إلى أنفسهم. فعندما يتمّ تصوير جماعةٍ ما بصورةٍ متكرّرةٍ وموحّدة، قد يبدأ أفرادُها في تبني تلك الصورة أو مقاومتها بشكلٍ قسريّ. وهنا يظهر ما تسمّيه ميرندا فريكر (2007) بـ”الظلم المعرفيّ”، حيث يُحْرَم الأفراد من الاعتراف بتجربتهم الخاصة أو يُعْتَبَرون غير جديرين بالمعرفة.
كما تؤدّي الرواية الواحدة إلى إعاقة التفاهم المتبادل بين الشعوب. فالصورة النمطية عن العرب كـ”إرهابيين” مثلاً، تُنْتِج سياسات إقصاءٍ وتمييزٍ في الغرب، وتغذّي خطاب الكراهية. والعكس صحيح، إذ يمكن للرواية الأحادية عن “الغرب” ككيانٍ متآمرٍ وعدائيٍّ أن تغذّي مشاعر الريبة وتمنعُ فرصَ الحوار.
العدالة السرديّة
لمواجهة خطر الرواية الواحدة، لا يكفي مجرّد نقدها أو رفضها؛ بل يتطلّب الأمر إنتاج رواياتٍ بديلةٍ تُبْرِز التعدّد. هذا ما يمكن تسميته بـ “العدالة السرديّة”، أي منح الجميع الحقّ في رواية قصصهم والتعبير عن تجاربهم دون وصاية.
يسمح تَعَدُّد الروايات بظهور صورةٍ أكثر ثراءً وعدلاً عن الشعوب. فعلى سبيل المثال، حين تُرْوى قصصٌ عن نجاح المهاجرين في بناء شركاتٍ أو المساهمة في البحث العلميّ، تُكْسَرُ الصورة النمطيّة التي تحصرهم في خانة “العبء”. كذلك، عندما تُبْرِزُ الأدبيات النسوية قصص نساءٍ يعشن تجارب متنوعةٍ بين القهر والتمكين، تتّضح الصورة المركّبة بدل الاختزال.
خطر الرواية الواحدة
قد يُفْتَرَض أنّ العولمة توفّر فرصةً لتعدّد الروايات، حيث أصبح من الممكن الوصول إلى قصصٍ من مختلف أنحاء العالم بضغطة زرّ. غير أنّ الواقع يكشف أن العولمة تضاعف أيضاً من خطر الرواية الواحدة. إذ أنّ شركات الإعلام الكبرى تملك القدرة على تضخيم روايةٍ معينةٍ حتى تصبح المهيمنة عالمياً (Spivak,1988).
على سبيل المثال، صورة الشرق الأوسط في الإعلام العالميّ غالباً ما تُبْنى على أخبار الحروب والنزاعات، في حين أن القصص عن الإبداع الفنيّ والعلميّ لا تحظى بالانتشار نفسه. هذه اللامساواة في تدفّق الروايات تؤدّي إلى استمرار هيمنة رواياتٍ أحاديّة، حتى في عصر “تعدّد المنابر”.
في الختام، “خطر الرواية الواحدة” ليس مجرّد فكرةٍ أدبيةٍ طرحتها شيماماندا نغوزي أديتشي، بل هو إطارٌ نقديٌّ لفهم كيفية بناء الصور النمطيّة وإقصاء التعدّد في عالمنا المعاصر. تكمن خطورته في أنه يختزل الهويات الإنسانيّة في قوالب جاهزة، ويحول دون إدراك التعقيد والتنوّع الذي يميّز البشر. تجاوز هذا الخطر يستدعي تبني مقاربةً تقوم على العدالة السرديّة، أي الاعتراف بتعدّد الأصوات وإتاحة المجال لها في الأدب، والإعلام، والسياسة. وحده هذا التعدّد قادرٌ على ترميم الفجوات التي تخلقها الروايات الأحاديّة، وعلى بناء مجتمعاتٍ أكثر عدلاً وإنسانيّة.
المراجع:
• Adichie, C. N. (2009, July). The danger of a single story [Video]. TED Conferences. https://www.ted.com/talks/chimamanda_adichie_the_danger_of_a_single_story
• Adichie, C. N. (2014). We should all be feminists. New York, NY: Anchor Books.
• Fricker, M. (2007). Epistemic injustice: Power and the ethics of knowing. Oxford University Press.
• Hall, S. (1997). Representation: Cultural representations and signifying practices. Sage.
• Said, E. W. (1978). Orientalism. New York, NY: Pantheon Books.
• Spivak, G. C. (1988). Can the subaltern speak? In C. Nelson & L. Grossberg (Eds.), Marxism and the interpretation of culture (pp. 271–313). University of Illinois Press.