اغتيال التاريخ

نغتال التاريخ عندما نُجمّد أنفسنا في الماضي، فنعجز عن تجاوزه. نغتال التاريخ عندما نعتبر أن ليس فيه إلا مسار واحد. نُنصف التاريخ عندما ننظر إليه وفي نظرنا أن له عدة مسارات.

أصحاب المسار التاريخي الواحد ينطقون ويُنادون ويهتفون به دون غيره، ولا يرون التاريخ كيف يتطوّر وتتعدد مساراته. هؤلاء عندهم ثأر من التاريخ وتزداد المرارة لديهم عندما يرون التطوّر على غير ما يشتهون. يريدون أن تتشبّع نفوسهم سياسة الهوية، ولا يبقى غيرها لهم من أدوات الفكر والعقل.. يصنعون التاريخ بالهتاف وليس لهم إلا الكلامولوجيا. تصير هويتهم كلام في كلام. إذ أن قوى العالم والقوى المحلية على غير استعداد للتجاوب مع ما في نفوسهم الذي يظهر وكأنه مرارة الخيبة، إذ أن وسائلهم غير مجدية في زمن صارت التكنولوجيا التي كدّسوا أدواتها لا تفيدهم إلا في تراكم الهزائم التي يُصوّرونها انتصارات وهماً. فيسعون وراء التعويض بالخطابات والمهرجانات، عندما لا يبقى لديهم سوى قبض الريح. فيرتدون على أنفسهم مصابين بالكآبة، ويمضون في المسار الواحد الذي لا يبقى منه إلا الرغبات والأوهام.

حدّد جون لويس غاديس عن اشعيا برلين نوعين من الاستراتيجية، واحدة منهما للقنفذ وأخرى للثعلب. القنفذ ليس له إلا هدف واحد ومسار واحد؛ الثعلب متعدد المسارات حتى حين يكون له هدف واحد. وغالباً ما تتعدد أهدافه. القادة العظام في التاريخ من ارتحششتا الفارسي إلى هنيبعل الفينيقي إلى نابليون الفرنسي إلى هتلر الألماني، حقّقوا انتصارات كبرى في حياتهم لكن كل واحد منهم انهزم شر هزيمة عندما صار له هدف واحد ومسار واحد. فبادر إلى اتخاذ القرارات بغض النظر عن الظروف الموضوعية وتعدد الاحتمالات وهزمه من كان أقل عبقرية.

على كل حال، الثور يلحق اللون الأحمر في حلبة صراع الثيران، وينتهي به الأمر مقتولاً مهما كان الفارق بالقوة بين الثور والمصارع. وكم مرة قلنا إن الثورة ليست مؤنث ثور، وبالتالي لا تتبع مساراً واحداً، كي تكون أكثر موضوعية ومتنوعة في مقارباتها، فتصير عالمة عارفة بالظروف التي تواجهها مثل الظروف الاجتماعية والقوى النسبية في المواجهة بين المجتمع والسلطة والظروف الدولية والتجهيزات المتوفرة بين أيدي الثورة وتكتيكات المعارك واستراتيجية المواجهة. وهذه بدورها تفرض تكتيكات دون غيرها. فمن غير المعقول أن تخوض حرب تحرير وتسمي نفسك مقاومة دون اعتماد السرية والمواقع المتحركة في وجه قوة عاتية، أكثر منك عدة وأرقى تدريباً وأكثر عدداً. ليس بالضرورة أن يكون المجتمع الأكبر عدداً هو الأقوى، إذ يمكنه أن يضع في ساحة أو ساحات المعارك عدداً أكبر من المقاتلين. العدد في العدة. وما يزيد الأمر صعوبة هو الفارق في التكنولوجيا المستخدمة والإعانات الخارجية. ففي العام 1948 كان عدد جنود إسرائيل أكثر من جيوش العرب مجتمعة، وأكثر تقدماً لناحية العدة والسلاح، والأفضل تدريباً، والأكثر حنكة سياسية ومركزية في اتخاذ القرار. لذلك كانت “النكبة”. كانوا يعرفون عنا أكثر مما نعرف عنهم، فكانت النكبة. ثم تتالت المقاومات منذ فدائيي مصر مع جمال عبد الناصر إلى المقاومة الفلسطينية إلى المقاومة اليسارية إلى مقاومة حزب. وتتالت معها الهزائم، ومع ذلك لم نتعظ ولم نتعلّم من التاريخ درساً واحداً، واستمرينا بالمناطحة، وكنا دائماً نتبع اللون الأحمر الذي يضعه لنا العدو.

ليس المطلوب أن يكون عندنا مقدسات جديدة لنستعيض بها عن الحقيقة، بل أن نواجه الحقيقة ونتحمل المسؤولية، وأن نحرص في أفعالنا على أن لا يدفع غيرنا من أهل الوطن أثمان قرارات نتخذها بغير النقاش والحوار الجماعيين، وبدون تقدير موازين القوى والفرق بين تكنولوجيا القرون الماضية التي نُقاتل بها وتكنولوجيا تزوّدها الولايات المتحدة لإسرائيل

أذكر أنه في أوائل ستينيات القرن الماضي كان عبد الناصر يخطب في الجماهير، فصرخ أحد من الجموع قائلاً “وفلسطين”، فأجابه للتو: “فلسطين بالاستعداد”. وكانت العواطف جيّاشة تفوق قائدها بحرارتها فكان للجماهير مسار القنفذ، وكان لعبد الناصر مسار الثعلب، لكنه أُجبر على المسار الأول وانهزم، ونحن لم نتعلم الدرس. وكما يقول أحد الفلاسفة بأن “الدرس الوحيد الذي تعلمناه من التاريخ هو أننا لا نتعلم من التاريخ”. الحق وحده لا ينتصر بل هو الاستعداد والاستراتيجية.

نحن أصحاب حق في فلسطين، كل أرض فلسطين، لكننا لا نزال نرفع شعار حل دولتين فيها، وإسرائيل ترفض حتى أن تعطينا نصف الحق أو ربعه أو ما تيسر من فتات المائدة. فما هي الاحتمالات الأخرى لنا كي نفلح في مواجهة لا نديرها نحن بل هي إيران أو الولايات المتحدة. الأولى تزعم مصادرة القضية وتخوض الحرب بأذرعها العربية. الثانية تدعم إسرائيل بالمال والسلاح. فكأن إسرائيل ولاية أخرى في الولايات المتحدة، بل هي الضمير الغربي المستتر الذي يلعب دوراً مزدوجاً كوسيط وطرف في الصراع. فما مصادرة القضية إلا استيلاء على أصحاب الحق فيها لتشكيل امبراطورية ليس فيها شيء من العظمة. عظمة إيران التاريخية تنتهكها سلطة الملالي بما ليس لها بل تعتقد أنها لقورش كما تدعي إسرائيل أن الأرض لها منذ آلاف السنين. فكأن التاريخ وجهة نظر وليس رؤية موضوعية تأخذ بالاعتبار الظروف المختلفة والمتغيرة باستمرار.

نخوض الصراع باعتمادنا مساراً واحداً يسمى مقاومة عندنا وعسكرياً عند العدو. ونتجاهل أن الأمر يتطلّب منا مسارات أخرى اجتماعية، اقتصادية، سياسية وثقافية، إلخ.. فأبقينا المجتمع بمعزل عن الصراع الذي يتطلّب قبل كل شيء الاستعداد ودمج كل المسارات ليصير مجتمعاً كلياً، وليس شذرات من قوى مناضلة لا يجمعها شيء إلا النوايا الحسنة، ولا يمكن توحيدها إلا برؤية تتخذ من التعدد والوحدة طرفي نقيض لقضية واحدة.

سلوك المقاومات المتتالية أدى الى عزلة المجتمع وتفكيكه. والصمت الشعبي المطلق صمت المهزوم الذي لا يمكن أن يوافق على ما يطرح عليه، وليس له القدرة على الممانعة أو القبول سوى بتغيير الحال؛ وزج المجتمع الكلي انطلاقاً من رؤى مجبولة بالحداثة وروح التقدم والعمل والإنتاج. وهنا لا بدّ من ذكر أن الإسلام السياسي دعم أنظمة الاستبداد وتحالف معها وساهم في إسكات الجمهور العربي وتمزيقه في حروب أهلية.

إقرأ على موقع 180  لعبة الأمم في أوكرانيا.. أردوغان يربح أم يخسر؟

يغتال التاريخ من لا يرى الماضي (والحاضر) إلا مسرحاً لانتصاراته التي إن لم تحصل فلقد كان يجب أن تحصل. فهو إذ يُقدّس من يُقدّس إنما يحتفل بانتصارات لم تحدث، ويربطها بالحق وهماً، وعلى الله أن ينصفه والملائكة أن تنجده.

نغتال التاريخ حين نعتبر أن ما يصيبنا ابتلاء من الله، وأن ما ينزل بنا هو جزء من طبيعة الأمور. فنحن لسنا مسؤولين عن أفعالنا. فحتى لو كانت الامبريالية هي المسيطرة أميركياً، أو غير ذلك، لا بدّ أننا نتحمل جزءاً من الهزيمة. وهذا ما تأباه نفوس الذين يفكرون بأن الأحداث الاجتماعية هي أحداث طبيعية كما الزلازل أو الفيضانات، كما يقول الصديق الروائي اللبناني الكبير رشيد الضعيف. وهذا الأمر يختلف راديكالياً عمن يعتبر التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً هو من صنع الإنسان. نعم، هو ليس من الطبيعة أو مقدرا إلهياً، لكنه مما يتحمل الإنسان مسؤوليته. وإذ كنا ممن لا يربحون فلا لزوم لتوهم النصر كما يفعل البعض ويقومون بما يقومون به للإيهام أن أمورهم عكس ذلك، وربما انتهى بهم الأمر إلى الخروج من الصراع وافتراض نصر هو سراب يقتنعون به دون إدراك حقيقته، فيحصل النزاع بينهم وبن أبناء بلدهم ممن يرون غير ذلك. ويتحمل الناس نتائج أفعال غيرهم. ليس غير الـcults أي الجماعات العبادية المطلقة تنظر بهذه الطريقة الى الأمور. إذ هي ترى النصر في الهزيمة والصمود على السواء، وعلى أيدي من يهيئونها لقبول الهزيمة على أنها النصر، الذي إن حصل فهو إلهي. والأرجح أنه لن يحصل إلا عندما ننتقل إلى غير إطار الوعي الذي نحن أسرى له.

إن اغتيال التاريخ لا يكون فقط بإحداث انقطاع في سلسلة الأحداث، وحذف بعضها أو التركيز على بعضها دون غيرها، بل يكون أيضاً برؤية للمسارات التاريخية التي لا ترى فيها أثراً للعقل البشري. ففي كل صراع نقيضان، أحدهما مدعوم من الله وهذا يكتب له النصر حسب المشيئة الإلهية لا حسب الفعل وموازين القوى البشرية. أصحاب هذه الرؤية يُميّزون أنفسهم عن بقية البشرية، وغالباً ما يعتبرون أنفسهم فوق البشر الآخرين في الاعتبار الإلهي. وربما قالوا أنهم شعب الله المختار بطريقة أو بأخرى. وينتهون إلى أن يصبحوا صهيونية أخرى إسلامية، وإلى ما يؤدي بهم إلى أن يكونوا الوجه الآخر من الصهيونية أو المسيحية. فلا يطيقون العيش مع الآخرين إلا حسب شروطهم. فهم لا يعتبرون الدولة وعاء لجميع الأطراف، بل مسرحاً لهم لممارسة السلطة أو بالأحرى لإظهار القوة حيث يجب أن لا تظهر أو حيث لا لزوم لها. وذلك عندما يتحوّل الصراع مع الآخرين الأعداء في الخارج الى الآخرين في الوطن. فكأنه يطلب من هؤلاء أن يغادروا. وكثيرا ما نسمع أن من لا يعجبه الأمر فليرحل.

نغتال التاريخ عندما نزهو بأنفسنا فلا نرى الواقع واحتمالاته بالنسبة إلينا. فنحن ما زلنا نخضع لنظام عالمي امبريالي نُمثّل فيه الطرف الأضعف، ومع ذلك لم نخترع مقاومة تناسب ذلك بل اعتبرنا النصر قاب قوسين أو أدنى، وعشنا على أوهام جرّت إلى بلادنا خراباً

وللحقيقة يجدر القول إن هذا النوع من التفكير فاشية إسلامية رأيناها في الماضي في مختلف أنحاء العالم، ونراها الآن في الولايات المتحدة وأوروبا حيث يتم طرد المهاجرين، ويُقال للمقيمين “عليك بالخضوع أو الخروج”. عنصرية أخرى ولو كانت على صعيد الايديولوجيا، لا أوهام لون الجلد ونقاوة الدم. فأن ينتخب شعبٌ مريضاً نفسياً مثل ترامب لهو دليل على حالة الشعب النفسية. وعندنا ما يشبه ذلك والفرق أننا لا نمتلك القوة فنستعين بالأوهام لتحويل الهزائم إلى انتصارات مع انعدام الشعور الإنساني بالتعاطف مع الضحايا، ومن أصاب قراهم وأحباءهم الخراب والدمار. ليس المطلوب أن يكون عندنا مقدسات جديدة لنستعيض بها عن الحقيقة، بل أن نواجه الحقيقة ونتحمل المسؤولية، وأن نحرص في أفعالنا على أن لا يدفع غيرنا من أهل الوطن أثمان قرارات نتخذها بغير النقاش والحوار الجماعيين، وبدون تقدير موازين القوى والفرق بين تكنولوجيا القرون الماضية التي نُقاتل بها وتكنولوجيا تزوّدها الولايات المتحدة لإسرائيل.

نغتال التاريخ عندما نزهو بأنفسنا فلا نرى الواقع واحتمالاته بالنسبة إلينا. فنحن ما زلنا نخضع لنظام عالمي امبريالي نُمثّل فيه الطرف الأضعف، ومع ذلك لم نخترع مقاومة تناسب ذلك بل اعتبرنا النصر قاب قوسين أو أدنى، وعشنا على أوهام جرّت إلى بلادنا خراباً لا نستطيع الخروج منه إلا بتغيير إطارنا الفكري والميل إلى الواقعية والعزوف عن اعتبارات الجماعة المقدسة.

الإسلام السياسي بجميع أطيافه السنية والشيعية نشر وعياً زائفاً بعيداً عن العقلانية. وخاض معارك مع العدو أنتجت هزائم. فهلّل لها على أنها انتصارات. فكأننا نُزيّف الواقع ونحذفه من التاريخ. ونصنع تاريخاً آخر في الأوهام التي تحتاج إلى مقدسات نغتال بها الواقع والتاريخ. وبذلك نحذف أنفسنا من العالم والتاريخ. وعينا الراهن خارج التاريخ لأنه غير تاريخي بكونه غير واقعي.

سوف يُكتب في المستقبل تاريخ المرحلة الراهنة على غير الصورة التي في أذهاننا، وعلى تناقض مع ما نظن ونعتقد.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  حراك الجيل Z الأمريكي.. تزايد التأييد لفلسطين