أحمد الشرع.. وظيفة رسم الجغرافيا السياسية من الفرات إلى المتوسط

وقف أحمد الشرع، الرئيس السوري الانتقالي، على شرفة قصر المهاجرين في دمشق، يطل على المدينة التي لطالما شهدت حروباً. دمشق، منارة الأمويين وصرح الحكام، تتلألأ تحت ضباب الليل وأضواء الشوارع المبعثرة، محافظة على غموضها وجمالها برغم التآكل والحزن المتراكم على حجارتها. تتنفس المدينة الهواء البارد القادم من نهر بردى، ويشعر الحاكم الجديد بثقل الأيام التي حملها على ظهره. وعلى الرغم من انتصاراته، ينتابه شعور مركّب من الانتصار والفراغ والمجهول، لكأنّ دمشق تهمس له: "لقد وصلت، لكن من أنت حقًا"؟

تعود ذاكرة أحمد الشرع إلى أيامه كطالب في كلية الطب بجامعة دمشق، حين كان وجهه خالياً من القسوة، وصوته كان خافتاً على غير ما أصبح عليه اليوم. كان مجرد فتىً يبحث عن معنى للعدالة في وطن يموت ببطء. الزيارة الأولى إلى مسجد العلاء بن حضرمي في حلب فتحت له نافذة لم يغلقها أبداً. هناك، استمع إلى خطيب يتحدث عن “واجب نصرة الأمة” و”الجهاد ضد الطغيان”، بلغة لا تعرف الخوف، “الضعفاء لا يصنعون التاريخ، بل يُدهسون فيه”.

غادر دمشق نحو العراق الغارق في الفوضى، حيث انضم إلى التمرد ضد القوات الأميركية التي أطاحت بنظام صدام حسين في ربيع العام 2003. في الموصل وبوكا، تحت رايات متغيرة، أدرك أنّ السياسة مثل الشطرنج، لا تقوم على العقيدة، بل على الحركة الصحيحة في اللحظة المناسبة. في السجون، تعلم الصبر كأهم سلاح، وأنّ الإيمان وحده لا يسقط الأنظمة، والكلمة قد تكون أخطر من الرصاصة إذا وُضعت في فم يعرف متى يسكت. خرج من سجن بوكا في 2005، مُحوّلاً تجربته إلى دروس في القوة والخداع والانتقام.

ومع اندلاع الثورة السورية في العام 2011، أرسله أمير تنظيم “الدولة الإسلامية” أبو بكر البغدادي إلى سوريا لتأسيس فرع لتنظيم “القاعدة” تحت اسم “جبهة النصرة”. لكنه أعلن الانفصال عن “القاعدة”، محولاً التنظيم إلى “هيئة تحرير الشام”، ثم إلى قوة سياسية تسيطر على إدلب وأجزاء واسعة من سوريا.

الصورة الهادئة للشرع وهو يصافح دونالد ترامب تخفي نظرة باردة من الماضي؛ نظرة من يعرف أنّ اللعبة لم تنتهِ. في السياسة، كما في الشطرنج، لا يُكافأ الذكاء بل القدرة على البقاء حتى آخر لحظة. “الشرع يجيد لعبة الشطرنج أكثر مما يجيد الحرب”، كما يُقال، حيث تحول من جهادي إلى شريك في أجرأ التحولات في القرن الحالي. عندما سُئل عن سر حبه للشطرنج، أجاب بعد صمت قصير: “لأنها اللعبة الوحيدة التي تتيح لك أن تخسر كل شيء وتبدو رابحاً”

في إدلب، المدينة التي لا تنام وتحكمها البنادق، بدأ الشرع ينسج شبكة من الولاء والخوف. أصبح اسمه يوزع الأمل والرعب معاً، ويتحدث بلغة نصفها وعد ونصفها الآخر رعدٌ وتهديدٌ. عاد إلى دمشق ليس بالمدافع، بل بالتحالفات الماكرة والابتسامات التي تخفي الخناجر والتعهدات التي سيكشف التاريخ مضامينها وأسرارها. في كانون الثاني/يناير 2025، أصبح رئيساً انتقالياً لسوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، في تحول دراماتيكي جعله من “رجل مطلوب أميركياً بـ 10 ملايين دولار” إلى رجل يحكم دولة لطالما تصارع “الكبار” عليها بحكم موقعها في قلب المشرق العربي.

في الطائرة المتجهة إلى واشنطن، جمع الشرع دروسه من العراق وإدلب والسجون. خارج البيت الأبيض، التقطت الكاميرات صورة لرجل خرج من العدم إلى قلب الإمبراطورية. في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، كان يُسجل أنه أول رئيس سوري يدخل إلى البيت الأبيض، في زيارة رسمية، منذ استقلال سوريا في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وترافق ذلك مع صدور إعلان أميركي برفع العقوبات عنه وعن وزير داخليته أنس خطّاب. مثّل هذا اللقاء منعطفاً جديداً في مسيرة الشرع، الذي بدأ مسيرته متمرداً في العراق وانتهى كـ”أفضل رهان أميركي للاستقرار في الشرق الأوسط”.

الصورة الهادئة للشرع وهو يصافح دونالد ترامب تخفي نظرة باردة من الماضي؛ نظرة من يعرف أنّ اللعبة لم تنتهِ. في السياسة، كما في الشطرنج، لا يُكافأ الذكاء بل القدرة على البقاء حتى آخر لحظة. “الشرع يجيد لعبة الشطرنج أكثر مما يجيد الحرب”، كما يُقال، حيث تحول من جهادي إلى شريك في أجرأ التحولات في القرن الحالي. عندما سُئل عن سر حبه للشطرنج، أجاب بعد صمت قصير: “لأنها اللعبة الوحيدة التي تتيح لك أن تخسر كل شيء وتبدو رابحاً”.

الشرع، المولود في العام 1982، عُرِفَ بأسماء متعددة: أمجد مظفر حسين النعيمي في العراق، أبو محمد الجولاني كزعيم جهادي في سوريا، ثم أحمد الشرع كرئيس. كل اسم يختزن فصلاً من حياته، من زرع العبوات في العراق عام 2005 إلى الجلوس مع رؤساء الدول الكبرى. في مقابلة حديثة، أثار ردّه على سؤال عن “الندم” على هجمات 11 أيلول/سبتمبر تفاعلاً واسعاً على وسائل التواصل، مما يبرز الجدل حول حقيقة تحوله.. بالنسبة للشرع، لم يكن القناع عيباً؛ في السياسة كما في الشطرنج، كل قطعة تخفي حقيقتها حتى النهاية. رفع رأسه إلى السماء في دمشق وقال: “اللعبة لم تنتهِ بعد، فقط اتّسعت الرقعة”.

هل هذا الرجل هو نفسه؟

من مقاتل ملثم في الصحراء إلى مقتحم لقصور رؤساء الدول الكبرى. ذاكرته تهمس في أذنه: “لقد بلغت القمة لكن ماذا بقي منك”؟. في تلك الليلة، كتب على ورقة صغيرة تحت ملك الشطرنج: “لا يوجد نصر دائم، فقط تأجيل للهزيمة”.

إقرأ على موقع 180  "مجموعة الأزمات": العراق ولبنان في مرمى النار إذا إنهارت محادثات فيينا (2)

من الأنبار إلى البيت الأبيض؛ من القفص الحديدي إلى الطاولة المذهّبة، يُجسّد الشرع عقيدة ترامب، لا أعداء دائمين، بل مصالح دائمة. ومع ذلك، بينما تنام المدينة صامتة، تنتظر حركته التالية؛ حركةٌ قد تعيد رسم الجغرافيا السياسية من الفرات إلى المتوسط، ومن واشنطن إلى موسكو.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  العراق: أية إحتمالات لكسر الإستعصاء السياسي؟