نتنياهو إنْ أوقف الحرب.. تحمل مسؤولية أكبر إخفاق إسرائيلي!

الطابع الموقت لهدنة الأيام الأربعة في غزة، لا يلغي ما تعنيه من دلالات في السياسة. فهي تشكل أول تراجع إسرائيلي عن السقوف العالية، التي حدّدتها "حكومة الحرب" عند بدء الحرب على غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهي "سحق" حركة "حماس" عسكرياً وسلطوياً واستعادة 240 أسيراً، قبل أي توقف للقتال.   

في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد غزة منذ 2008، كانت تنتهي بوقف للنار وبتهدئة مقابل التهدئة، وما من سبب مقنع للتفكير بأن الوضع سيكون مختلفاً هذه المرة، على رغم اعتبار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر، يرقى إلى تهديد وجودي لإسرائيل، ولذلك سعى عند إعلانه الحرب إلى وضع أهداف عالية كمثل أن هذه الحرب لن تنتهي إلا بتغيير الشرق الأوسط بكامله.

إن قراءة سريعة للوضع بعد أكثر من 50 يوماً من الحرب الضارية، قتلت إسرائيل خلالها أكثر من 15 ألف فلسطيني ثلثاهم من الأطفال والنساء، ودمّرت نصف منازل شمال غزة، ودفعت حوالي المليون مدني من سكان القطاع على النزوح قسراً من الشمال إلى الجنوب ليتحول شارع صلاح الدين إلى شاهد على فظاعات مماثلة لتلك التي ارتكبت عام 1948، مع فارق أن التهجير القسري يحدث اليوم مباشرة أمام أعين العالم أجمع.

وفي معرض تبرير استهداف المدنيين على هذا النطاق غير المسبوق، أخفقت إسرائيل كثيراً في تسويق سرديتها عن إلقاء التبعة عن الخسائر في صفوف المدنيين على “حماس”. ومن هنا كانت الضجة التي أثارتها حول مستشفى الشفاء والحديث عن المراكز التي أقامتها الحركة تحت المستشفى للتحكم والسيطرة وإدارة المعركة. بعض هذه المراكز والتحصينات التي تتحدث عنها إسرائيل كانت أنشأتها هي بنفسها عام 1983 إبان إحتلالها لغزة، بحسب ما ورد في مقال بصحيفة “تايمز” البريطانية.

وعلى رغم الضغط العسكري غير المسبوق، لم تنجح إسرائيل في الوصول إلى أي من الأسرى الإسرائيليين بعد مرور كل هذا الوقت وخسارتها أكثر من 70 ضابطاً وجندياً في معارك مع “حماس”. وهذا ما وضع الحكومة أمام ضغط كبير من عائلات الأسرى الذين أخذت احتجاجاتهم منحى تصعيدياً لم يعد في الإمكان تجاهله، ناهيك عن تكبد خسارة اقتصادية هي الأكبر في حروب إسرائيل.

لم تُحدّد إسرائيل استراتيجية للخروج من غزة، بينما اندلعت معركة صامتة بين نتنياهو وبايدن حول أهداف الحرب. نتنياهو يريد احتلالاً دائماً، وبايدن يعارض ذلك، من منطلق صعوبة قبول أي جهة دولية بهذه الصيغة، ونظراً إلى تشكيلها ضربة قاضية لأي محاولة للعودة إلى مسار التفاوض وصولاً إلى حل الدولتين

وبينما النقمة العالمية تزداد على شكل تظاهرات احتجاج في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى (موقفا بلجيكا وإسبانيا مثلاً)، بدا التململ واضحاً داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حيال التأييد الأعمى لإسرائيل. ونتائج استطلاعات الرأي في الولايات الأميركية المتأرجحة التي تُقرّر مصير الانتخابات الرئاسية بعد عام من الآن، لا تصب في مصلحة بايدن، وتعطي التفوق للرئيس السابق دونالد ترامب، مع أن الأخير لا يقل تأييداً لإسرائيل عن الرئيس الديموقراطي وربما أكثر.

وبات الجناح الديموقراطي المعارض للحرب أكثر جرأة في التصريح عن مواقفه. السناتور بيرني ساندرز، اقترح أن يستخدم البيت الأبيض المساعدات المقدمة لإسرائيل، كرافعة للضغط عليها كي توقف القتال. عشرات الموظفين في وزارة الخارجية كتبوا عرائض احتجاج. كان أكثرها إثارة للجدل استقالة المسؤول الكبير في وزارة الخارجية الأميركية جوش بول المكلف الإشراف على عمليات تصدير الأسلحة لحلفاء الولايات المتحدة.

وفي السياسة، لم تُحدّد إسرائيل استراتيجية للخروج من غزة، بينما اندلعت معركة صامتة بين نتنياهو وبايدن حول أهداف الحرب. نتنياهو يريد احتلالاً دائماً، وبايدن يعارض ذلك، من منطلق صعوبة قبول أي جهة دولية بهذه الصيغة، ونظراً إلى تشكيلها ضربة قاضية لأي محاولة للعودة إلى مسار التفاوض وصولاً إلى حل الدولتين. ولا يرى بايدن إمكانية للجمع بين إعادة احتلال غزة والمضي في ما يسميه “دمج” إسرائيل في المنطقة.

والجدير ذكره أن نتنياهو كان من المعارضين لـ”خطة الإنفصال” التي انسحب آرييل شارون بمقتضاها من غزة عام 2005 ليوفر عبء الإستنزاف الذي يُشكله القطاع على إسرائيل، واستقال نتنياهو، وقتذاك، من حكومة شارون بسبب قرار الإنسحاب.

ومن نقاط الخلاف بين أميركا وإسرائيل، أن “حكومة الحرب” الإسرائيلية، ترى ضرورة نقل العمليات العسكرية إلى جنوب غزة حيث تعتقد أن قادة “حماس” يتحصنون هناك. ولا تؤيد واشنطن توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية جنوباً لأنها ستقضي على كل إمكانية للبحث في مستقبل القطاع أو أي عملية سياسية لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهذا ما يُعمق المأزق السياسي في إسرائيل، ويُعيد طرح السؤال: هل وقع نتنياهو في فخ العودة إلى غزة؟

وبعد انقضاء الأيام الأربعة للهدنة ستجد الحكومة الإسرائيلية نفسها أمام مطالبات من عائلات من تبقى من الأسرى الإسرائيليين، وأمام إلحاح دولي لتمديد وقف النار، بينما تُمسك “حماس” بورقة الإفراج عن كل عشرة أسرى إسرائيليين مقابل كل 24 ساعة من التهدئة. هي معادلة تدفع نحو تكرار سيناريوات الحروب السابقة. وهذا رئيس الوزراء الإسرائيلي سابقاً إيهود أولمرت يصرح لموقع “أكسيوس” الأميركي الإخباري، أن نتنياهو “أخطأ” عندما وضع أهدافاً غير قابلة للتحقق في مستهل الحرب، ويقصد هنا “سحق حماس”. وأولمرت يتحدث من واقع تجربته في حرب 2006 على لبنان.

إقرأ على موقع 180  تركيا وإيران.. تصغير التباينات وتكبير التقاطعات

أميركياً، مستشار بايدن لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك ومساعدة وزير الخارجية بربارة ليف، هما أكثر الديبلوماسيين الأميركيين انهماكاً في البحث عن صيغ لمستقبل غزة بعد انتهاء الحرب. بيد أنهما لم يتوصلا إلى شيء من هذا القبيل حتى الآن.

ما يُعزز هذا الاعتقاد هو تصريح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على هامش منتدى المنامة للأمن في 18 تشرين الثاني/نوفمبر بحضور ماكغورك وليف، إذ قال إن أي دولة عربية لن تكون مستعدة للمشاركة في قوة متعددة الجنسيات في غزة. وأضاف: “لا نريد أن ينظر إلينا سكان غزة على أننا أعداء”. وكرّر وزيرا الخارجية المصري سامح شكري والسعودي الأمير فيصل بن فرحان الموقف ذاته، مطالبين بضرورة وقف الحرب. ومن المنامة، ذهبت اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمة العربية-الإسلامية، إلى الصين في 20 تشرين الثاني/نوفمبر وفي اليوم التالي كانت في روسيا. مجلة “الإيكونوميست” البريطانية نقلت عن بعض المراقبين أن توجه الوزراء العرب إلى “خصمين جيوسياسيين” للولايات المتحدة، اعتبرته واشنطن بمثابة إهانة لها. وهنا يفهم لماذا ألح بايدن على نتنياهو للقبول بالهدنة الموقتة.

هل يسمح نتنياهو بوقف الحرب وهو يعلم أنه في اليوم التالي، سيخسر رئاسة الوزراء ويتحمل تبعة أكبر إخفاق أمني واستخباراتي ونفسي منذ تأسيس إسرائيل؟

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يخشى من تهجير قسري للفلسطينيين إلى مصر، ذهب خطوة أبعد في السياسة، بدعوته إلى الإعتراف بالدولة الفلسطينية مباشرة لأن “إحياء حل الدولتين قد استنفد”.

والرئيس الفلسطيني محمود عباس قال لوزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، إن السلطة الفلسطينية ليست مستعدة للذهاب إلى غزة، إلا في إطار مبادرة لتسوية تُوصل إلى حل الدولتين.

هذا دليل على أن ما من جهة فلسطينية أو عربية أو دولية مستعدة للمجيء لإدارة الخراب الذي أحدثته إسرائيل في غزة. وبقاء الجيش الإسرائيلي في القطاع لأمد طويل سيعيد انتاج الظروف نفسها التي دفعت شارون إلى الإنسحاب من غزة عام 2005.

وتدليلاً على ما أحدثته الحرب الإسرائيلية على غزة من تغيير في البيئة السياسية في الشرق الأوسط، ساق الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل على هامش مشاركته في منتدى المنامة مثلاً على ذلك، قائلاً إنه من أجل إثارة إعجاب المشاركين، كان المتحدثون في المنتدى في السنوات الماضية يعمدون إلى مهاجمة إيران، لكن هذه السنة لم يكن الأمر كذلك.

عندما يتحدث بايدن عن “فرصة حقيقية” لتمديد الهدنة، يبدو هو الآخر يريد شراء الوقت بحثاً عن استراتيجية للخروج من معادلة الحرب، إلى حيز الحديث في السياسة.

لكن هل يسمح نتنياهو بوقف الحرب وهو يعلم أنه في اليوم التالي، سيخسر رئاسة الوزراء ويتحمل تبعة أكبر إخفاق أمني واستخباراتي ونفسي منذ تأسيس إسرائيل؟

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  القيصر والسلطان.. وبينهما البحر الأسود